الآيات والنذر (خطبة)


الآيات والنذر

 

الحمد لله الحي القيوم، لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم، أحمده سبحانه وأشكره على عظيم آلائه، وجزيل نعمائه، والنِّعَمُ بشكر الله تدوم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً خالصةً مُخلِصةً، تقِي برحمة الله من نار السموم، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُالله ورسوله، النبي المصطفى المعصوم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسلَّم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

 

عباد الله: لا تزال آيات الله الكونية ونُذُرُه تتوالى على عباده، مشعرةً لهم بمنتهى ضعفهم، وبالغِ عجزهم عن دفع ضُرٍّ، أو جلب نفع، وتخبرهم أن لهذا الكون ربًّا مدبرًا ومتصرفًا يتصرف فيه كيف يشاء، ويفعل فيه ما يريد، فلعلهم يتذكرون مَلِك الملوك سبحانه، فيعرفوا له حق الربوبية، وتؤمن له قلوبهم، وتخضع له رقابهم، ويعبدوه حق عبادته، فإن فعلوا، كان ذلك سبب نجاتهم يوم يرجعون إليه، فيجزيهم بجنات ونهَرٍ، فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نعيم لا توازيه نِعَمُ الدنيا مهما كثُرت؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((موضع سَوطٍ في الجنة خير من الدنيا وما فيها))؛ لأن نعيم الدنيا مشوب بالأخطار والأكدار.

 

إن الآيات التي يخوِّف الله تعالى بها عباده كهذه الزلازل المدمِّرة التي ضربت دولًا عدة، وتبعتها هزَّات كثيرة، خلَّفت وراءها آلافًا من الضحايا، وأضعافهم جرحى، وآلاف المنازل والطرق المدمرة – هذه الآية العظيمة لا ينبغي أن تمر على الناس مرورَ الكرام، فسرعان ما تنسى القويَّ القاهر سبحانه، بل يجب أن تكون ذكرى لِزلزلة الساعة؛ التي قال الله تعالى عنها: ﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ [الحج: 1]، تلك الزلزلة التي تُرَجُّ فيها الأرض رجًّا، وتُبَسُّ فيها الجبال بَسًّا، أي تُفتَّت، فتكون هباءً منبثًّا، وتُدَك الأرض دكًّا دكًّا، كل ذلك بقوة الله القاهرة، وإرادته الكاملة، بكلمة واحدة وهي: “كن”، فيكون ما يريده سبحانه، وها هو جل شأنه ينذر عباده بنماذج مصغرة من هذه الأهوال العِظام، التي هي من أشراط الساعة الصغرى؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يُقبَض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج – وهو القتل – وحتى يكثر فيكم المال فيفيض))؛ [رواه البخاري]، فكثرة الزلازل من دلائل قرب الساعة، والساعة أدهى وأمرُّ.

 

ومهما فسَّر علماء الأرض هذه الآيات من تفسيرات، فإن تفسيرهم لا يعدو كونَه ظنياتٍ، والحقيقة هي النذارة الإلهية للبشرية؛ لتعرف أن هذه الأرض وما عليها ليست دائمة، بل ستأتي ساعة تُجتث اجتثاثًا، فما يكون لها من قرار؛ لأنها مخلوقة وكل مخلوق فمآله الفناء، عاجلًا أو آجلًا؛ كما قال تعالى: ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 88]، ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 26، 27]؛ فلا نغتر بها، وإنما نتبلغ بها إلى حين.

 

وإذا علمنا أن هذه الدنيا بكواكبها وأفلاكها هي زائلة وفانية بلا عودة، فلنعلم أن المستخلَف فيها – وهو الإنسان – هو أعظم عند الله من الدنيا وما فيها، فإنها لا تَزِنُ عند الله تعالى جناح بعوضة؛ وقال صلى الله عليه وسلم: ((لَزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم))، ومن ذلك نستدل على منزلة الإنسان عند الله تعالى، ومن أجل ذلك كان الإنسان وحده الذي يَكتب الله له البقاء الدائم، فقد كان ميْتًا فأحياه، ثم يميته ثم يحييه، وهي الحياة الدائمة الباقية بنعيم الجنة إن كان مؤمنًا بربه، عابدًا له، أو بعذاب الآخرة إن كان جاحدًا ربوبيته، متكبرًا عن عبادته.

 

فعلى الإنسان ألَّا يغتر بهذه الدنيا الفانية التي ستكون يومًا ما هباء منثورًا، وها هي النُّذُرُ تتراءى له بين ناظريه، فلْيَعْلَمْ علمَ اليقين أن ما أخبر به الله سبحانه عن هذه الدنيا كائنٌ لا محالة، فلا يسعه إلا التبلُّغ بشيء منها للقاء ربه بصالح عمل يدِّخره لنفسه؛ ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [القصص: 60].

 

والمؤمن قلبه حيٌّ سليم من الشرك والآفات، تكفيه آيات الله الشرعية، فآيات القرآن الكريم تقرع قلبه، فيُخبت ويُطيع ويُنيب، أما من قلبه مريض قاسٍ، فلا تؤثر فيه آيات الله الشرعية، ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 101].

 

والناس إذا لم يرتَدِعوا بآيات الله الشرعية، أرسل لهم سبحانه آياته الكونية؛ ﴿ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ﴾ [النمل: 82]، وقال تعالى: ﴿ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ ﴾ [الرعد: 13].

 

فالمقصود من إرسال الآيات الكونية تحذيرُ العباد وتخويفهم؛ ليتوبوا ويرجعوا إلى ربهم؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾ [الإسراء: 59]؛ قال قتادة: “إن الله يخوِّف الناس بما شاء من آياته لعلهم يعتبون، أو يذَّكَّرون، أو يرجعون”.

 

والمؤمن تؤثر فيه الآيات الكونية فيقلع عن الذنوب والمعاصي، ويتوب منها، ويُنيبُ إلى الله عز وجل، ويُقبل على الطاعات، أما القلب الميت، فلا تؤثر فيه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 60].

 

إن علينا أن نتَّعظ عند وقوع مثل هذه الآيات وما ماثَلها؛ كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال أنس رضي الله عنه: ((كانت الريح الشديدة إذا هبَّت، عُرِف ذلك في وجه النبي صلى الله عليه وسلم))؛ [رواه البخاري]، قال الحافظ في الفتح: “وفيه الاستعداد بالمراقبة لله، والالتجاء إليه عند اختلاف الأحوال، وحدوث ما يُخاف بسببه”، وقد زُلزلت الكوفة في زمن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فقال: “يا أيها الناس، إن ربكم يستعتِبُكم فأعتبوه”.

ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واتعظوا بالآيات والنذر، ولا تكونوا من الذين قسَتْ قلوبُهم، وغلُظت أكبادُهم، وعظُمَ عن آيات الله حجابُهم، فلا هم يعتبِرون ولا يذكرون، ولا تكونوا من أقوامٍ جاءتهم آياتُ ربهم، فكانوا منها يضحكون، والآياتُ تأتيهم وهي أكبر من أختها، فإذا هم عنها معرضون، قلوب قاسية، وأنفس لاهية، تتزلزلُ الأرض، وتهلِكُ النفوس، ولا تهتزُّ القلوب، وترتجِفُ الديارُ ولا ترتجِفُ الأفئدة، وتعصِفُ الرياح ولا تُعصَفُ النفوس، ﴿ أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [التوبة: 126].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الزمر: 54، 55].

 

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفِّق ولي أمرنا وولي عهده لكل خير، اللهم انصر جنودنا المرابطين، اللهم أعذنا من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المسيح الدجال، اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا وموتى المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
الدكتور أحمد خليفة (ت 2023م)
السفر والجمع والقصر