الأجور الوفيرة في عشر رمضان الأخيرة (خطبة)


الأجور الوفيرة في عشر رمضان الأخيرة

 

الحمد لله الذي وفق لبلوغ شهر رمضان، وهيأ أسباب المغفرة والرضوان، أحمده سبحانه وأشكره على نعمة الهداية والإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أدخرها ليوم الجزاء والإحسان، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله بين طريق الهدى والرشاد، وحذر من الضلال والعصيان، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه البررة الكرام وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

 

أيها المسلمون: ها هو شهر رمضان المبارك، شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن شهر الصدقة والجود والإحسان يتهيأ للرحيل، تصرمت أيامه، وانقضت لياليه كغيرها من الأيام والأعوام التي مرت علينا وكأنها أضغاث أحلام، وأطياف سراب، مضى أوله وأوسطه، ولم يبق منه إلا العشر الأواخر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يخصها بمزيد الاجتهاد في الطاعة؛ قالت عائشة –رضي الله عنها-: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله». [رواه البخاري].

 

فيا من فرط فيما مضى من الشهر تب إلى الله وارجع إليه مقبلاً خائفاً، تائباً خاشعاً، وجد في طاعته؛ فإن العمر قصيرٌ، والسفر طويل ٌ، والزاد قليلٌ.

 

ويا من أحسن فيما مضى من الشهر أثبت على طاعة الله تعالى، وتزود من الصالحات، فإنما يتقبل الله من المتقين، فالله الله في المثابرة على الطاعة، والاجتهاد في العبادة في زمان مبارك أدركناه، ونحن في أوفر صحة وعافية، ولنحذر من التفريط في التجارة الرابحة مع الله.

 

لقد كثرت أسباب المغفرة في رمضان؛ من صيام وصدقة، وقيام واستغفار، وتوبة، وتلاوة للقرآن، فيا عجبا من حال أقوام تمر عليهم تلك الليالي وهم في غفلة عنها، لا يقدرون لها قدراً، ولا يعرفون لها وزناً، فالمحروم حقا من فاتته المغفرة والرضوان في هذه الأيام.

 

فالشقي -عياذاً بالله- من حرم خيرات هذا الموسم المبارك، وهل يرضى المسلم أن يكتب من حوله في صحف الملائكة من المقبولين، ويبقى هو وحيداً محروماً من غنيمة فرط في ثوابها وكان بإمكانه أن ينال أوفره وأعظمه.

إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا
ندمت على التفريط في زمن البذر

عباد الله: لقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يخلط أول رمضان وأوسطه بالصوم والقيام، فإذا دخلت العشر الأواخر عكف على العبادة، وطوى فراشه، واعتزل نساءه، وإذا كانت هذه حال المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكيف بالعصاة الذين تلوثوا بالذنوب، وتدنسوا بالآثام؟! بل كيف بقوم جعلوا رمضان موسماً للغفلة والعصيان؛ يبيتون على محرمات ومنكرات، عن ربهم غافلون، وعلى المعصية مصرون، ومن مكر الله آمنون، وهل يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون؟!

 

نعم – عباد الله – ها أنتم تعيشون في العشر الأواخر من رمضان، فاجتهدوا رحمكم الله في الطاعة والعبادة لتنالوا المغفرة والرحمة من الله.

 

لقد كان السلف من أسرع الناس إلى الطاعة -مع فضلهم وشرفهم-؛ فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يصلي من الليل ما شاء الله، حتى إذا كان من آخر الليل أيقظ أهله للصلاة؛ يقول لهم: الصلاة الصلاة، ثم يتلو هذه الآية: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى. [رواه مالك في الموطأ].

 

بل كان بعض السلف في ليالي العشر يغتسل كل ليلة ليكون أنشط له على العبادة، ويتطيب، ويلبس أحسن الثياب، ليخلو مع الله في محرابه، ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ[السجدة: 16].

 

فأين هذا – عباد الله – ممن ليلهم ونهارهم في سبات وغفلة، يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، لا بعبادة يتعبدون، ولا بذكر يشتغلون، ولا بالحق يتواصون.

 

فاجتهدوا – رحمكم الله – فيما بقي من ليالي رمضان الأخيرة فلعلكم توافقون ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ. [القدر:3]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يقم ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه». [متفق عليه]. وقالت عائشة -رضي الله عنها- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان، ويقول: «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان». [رواه البخاري ومسلم].

 

وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنها ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين، وآخر ليلة من رمضان، وكونها ليلة سبع وعشرين آكد، لكن الراجح أنها تنتقل في أوتار العشر الأواخر، فإن ضعف العبد أو عجز عن قيام العشر كلها فلا يغلبن على السبع الأواخر؛ قال صلى الله عليه وسلم: «التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي». [رواه مسلم].

فتحروها -عباد الله- وأكثروا فيها من الدعاء والاستغفار والطاعة؛ قالت عائشة -رضي الله عنها-: يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة القدر ما أقول فيها، قال: «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني». [رواه الترمذي، وابن ماجه].

عباد الله: لقد شرع لكم مولاكم عز وجل عبادات تختمون بها شهركم، ففرض زكاة الفطر، وهي طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، وتكون صاعاً من شعير أو تمر أو زبيب أو أرز أو نحوه من الطعام، تؤدى عن الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد من المسلمين، وأفضل وقت لإخراجها قبل الصلاة العيد ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد بغير عذر.

 

ويشرع التكبير من غروب شمس ليلة العيد إلى صلاة العيد، قال تعالى: ﴿ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 185]. ويسن جهر الرجال به في المساجد والأسواق والبيوت؛ إعلاناً بتعظيم الله وإظهاراً لعبادته وشكره.

 

والمسلم يحرض على صلاة العيد فهي سنة مؤكدة، والنساء يشهدن العيد مع المسلمين حتى العواتق وذوات الخدور، ولكن الحيض يعتزلن المصلى، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين.

 

وتستحب التهنئة بالعيد، لثوب ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم كقول: تقبل الله منا ومنكم، وما أشبه ذلك من عبارات التهنئة المباحة، وتجب زيارة الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجار، وإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والفرح بالعيد بلا أشر ولا بطر.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعدُ، فاتقوا الله عباد الله، واغتنموا هذه الليالي الشريفة، وتأسوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم وبأصحابه الكرام وبسلف الأمة الأخيار، بإحياء ليالي العشر بالصلاة، وقراءة القرآن، وأنواع الذكر والعبادة، إيمانًا واحتسابًا، حتى تفوزوا بمغفرة الذنوب، وحط الأوزار، والعتق من النار، فضلًا منه سبحانه وجودًا وكرمًا.

 

ألا وصلوا وسلموا على من أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه في قوله عز من قائل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا. [الأحزاب:56].

 

اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

اللهم اكتب صيامنا وقيامنا في عداد الصائمين والقائمين، وأعد علينا رمضان أعواماً عديدة وأزمنة مديدة، واجعلنا من عتقائك من النار يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووَفِّق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحب وترضى، وخذ بناصيتهما للبر والتقوى. اللهم انصر جنودنا المرابطين، وردهم سالمين ظافرين.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
الصبر على فقد الأولاد سبب للنجاة من النار (بطاقة)
{ ولما جاءهم رسول.. }