الإسلام يراعي أحوال الناس وطبائعهم


الإسلام يراعي أحوال الناس وطبائعهم

 

فمن المعلوم أن الإسلام رباني المصدر، فالذي أنزله هو خالق الخلق، ومدبر الكون، والذي يعلم أحوال عباده، وما الذي يصلحهم، وكيف يصلحهم؟! وبالطريقة التي يصلحهم بها، فمثلًا عندما أراد الله تعالى تحريم الخمر- وهي من الأمراض الخبيثة التي كانت متأصِّلَة في زمن الجاهلية- فإنه سبحانه حرَّمها على مراحل؛ لعلمه بخلقه وطبيعتهم، وأنهم لا ينتهون بمجرد نزول آيات التحريم، ولهذا تقول عائشة رضي الله عنها كما عند البخاري: “إنما نزلَ أولَ ما نزلَ من القرآن سورة من المفصل[1] ، فيها ذكرُ الجَنَّة والنَّار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، فنزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيءٍ لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا”.

وقالت أيضًا رضي الله عنها: “أُنْزِلَ عَلَىَ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جَارِيَةٌ ألْعَبُ: ﴿ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر: 46]، وَمَا نَزَلَتْ البَقَرَةِ والنِّسَاءِ[2]إلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ بِالَمَدِيِنَةِ”.

فجاء الإسلام بما يناسب طبيعة البشر فحُرِّمَ الخمر على مراحل:

المرحلة الأولى: قال تعالى: ﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [النحل:67].

وهي آية مكية أشار الله تعالى فيها برفق إلى أن ما يتخذ سكرًا ليس من الرزق الحسن.

 

المرحلة الثانية: نزل قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ﴾ [البقرة: 219]، فكان التحريم بالتلويح لا بالتصريح.

 

المرحلة الثالثة: قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ﴾ [النساء: 43].

 

والملاحظ هنا أن التحريم كان جزئيًّا لا كليًّا في أوقات الصلاة.

 

المرحلة النهائية والأخيرة في تحريم الخمر تحريمًا قاطعًا جازمًا، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [المائدة: 90، 91].

فقال الصحابة الكرام رضي الله عنهم: “انتهينا انتهينا”، وأراقوا الخمور في سكك المدينة.

 

ومما يدل على أن الإسلام يراعي أحوال الناس وطبائعهم، أن الإسلام جاء وجعل حـدًّا أدنـى أو مستوى أدنى من الكمال لا يجوز الهبوط عنه؛ لأن هذا المستوى ضروري لتكوين شخصية المسلم على نحو معقول، ولأنه أقل ما يمكن قبوله من المسلم ليكون في عداد المسلمين، وقـد شرع هذا المستوى على نحو يستطيع بلوغه وأداءه أقل الناس استعدادًا لفعل الخير وابتعادًا عن الشر، وهذا المستوى يتكون من الفرائض الواجبة، والمحرمات المنهي عنها، وهذه الفرائض والمحرمات جُعلت بحيث يستطيع كل واحد الوفاء بمقتضاها، وعند الضرورات تراعيها الشريعة وتُقَدِّرُها قدرها.

وبجانب هذا المستوى الإلزامي الواجب بلوغه على كل مسلم، وضعت الشريعة مستوى آخر أرفع منه وأوسع، ورَغَّبَتْ فيه الناس وحَبَّبَتْ إلـيهم بلوغه، وهذا المستوى العالي يشمل المندوبات وأنواع القُربـات التي ترغب الشريعة في القيام بها، ويشمل كذلك المكروهات والمشتبهات التي ينبغي تنزُّه المسلم وابتعاده عنها، لكن الوصول إلى ذلك المثل أو المستوى الأعلى يحتاج إلى جهد ضخم لا يتيسَّر لكل الناس، بل هو رهين بمواهب خاصة، واستعداد خاص يتميز به القلة النادرة من الناس؛ لذلك لا يفرض الإسلام هذا المثل الأعلى على الجميع فرضًا، ولا يلزمهم جميعًا به، بل يرسمه أمامهم، ثم يتركهم لطاقاتهم ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، ويتقبل من كلٍّ ما يتقدم به على قدر جهده ﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام:132].

فالإسلام يراعي كل جوانب الإنسان البدنية والروحية والفردية والجماعية، كما يراعي التدرج في مجال التربية.


[1] تعني سورة المدثر وفيها يقول الله تعالى: ﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾ [المدثر: 8 – 10]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً ﴾ [المدثر: 31]، وقوله تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [المدثر: 38 – 41].

[2] يعني ما نزلت السور التي فيها أحكام إلا بعد ذلك.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
تحميل كتاب الذين لم يولدوا بعد ل أحمد خيري العمري
الدعوة بين الخبرات والحماسات