الإنسان في القرآن


الإنسان في القرآن

المقدمة:

إن اهتمام القرآن الكريم بقضية الإنسان ليس من باب الفضول المعرفي، ولا الترف العلمي، ولا التُّخَمة الفكرية، ولا نافلة القول؛ وإنما لبعدها الجوهري في النسق الفكري البشري، وتجلياته المنهجية الخطيرة في سلوك الأفراد والجماعات. على أن كافة المقاربات الإصلاحية والعلاجية للمشاكل البشرية تظل عاجزةً عن استيعاب مشاكل الإنسان نفسه؛ لقصور الإنسان ذاته وعجزه عن مقاربة مشاكله من جهة، فضلًا عن اقتراح عدة علاجية مثلى، بالنظر إلى نسبية ومحدودية التدخل البشري من جهة، بالإضافة إلى أن الذي ينظر لقضايا الإنسان وهمومه ومشاكله وطموحاته ورغباته هو الإنسان ذاته.

 

وهذا مربط الفرس، بالنظر إلى أن حكم الإنسان على نفسه وتصرفاته قد بات بعيدًا عن الموضوعية العلمية؛ لأنه هو المتهم والقاضي من جهة، وهو كذلك الدفاع والجَلَّاد من جهة ثانية في الوقت نفسه. وبحثًا عن الموضوعية والحقيقة، فإننا محتاجون إلى زاوية نظر عُلْيا لمقاربة قضايا الإنسان وهمومه ومشاكله، تكون خارجة عن الإنسان ذاته. وهي مقاربة لا يمكن الحصول عليها إلا بالاستعانة بزاوية رؤية فوقية، بالنظر إلى قدرتها على إعطائنا صورة حقيقية عن الإنسان بعيدة عن الذاتية، معانقة للموضوعية إلى أبعد مداها، تلك هي رؤية القرآن للإنسان، وإن شئنا استعضنا عن ذلك بقضية “الإنسان في القرآن”.

 

وفي السياق ذاته، فإن حديث القرآن الكريم عن “الإنسان” حديث طويل ومستفيض؛ ولذلك فقد شكَّل هذا الحديث إحدى أهم القضايا الكبرى التي شغلت من الآيات القرآنية حيزًا كبيرًا. ولا غرابة في ذلك؛ فإن الإنسان قد نَصَّبه الله تعالى خليفةً في الأرض، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30] الآية.

 

ومع ذلك، فإن الإنسان هو المسؤول عن تحَمُّل الأمانة الكبرى بعدما خفَّف الله تعالى من شدتها، ورفضتها أعظم مخلوقات الله تعالى، وهي: السماوات والأرض والجبال، فقد قال تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72].

 

وهو فوق ذلك، المسؤول عن إعمار الأرض بالخير والصلاح، والمكلَّف بتطهيرها من الشر والفساد، قال تعالى: ﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [هود: 61] الآية.

 

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن اهتمام القرآن بالإنسان راجع إلى أنه هو الداعي والمدعو؛ فهو الرسول والنبي والمؤمن والهادي والداعي والعابد والطائع، وهو أيضًا الكافر والملحد والمشرك والضالُّ والمنافق والعاصي والفاسق، كما أن الإنسان هو الحاكم والمحكوم، وهو الغني والفقير، وهو الظالم والمظلوم، وهو الرجل والمرأة، وهو الكبير والصغير، والوارث والموروث.

 

إضافة إلى أن الإنسان هو المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، والعالم والجاهل، والشاكر والجاحد، والمتكبِّر والمتواضع، وغيرها من الثنائيات التقابلية التي طرفها الأول محبة الخير والصلاح والسعي إليهما، في حين يتمركز طرفها الثاني في محبة الشر والفساد وبذل الجهد لنشرهما. والإنسان كذلك هو المكلف بالتكاليف الشرعية، وهو المفكر، وهو المتفلسف، وهو صاحب الأسئلة الوجودية، والأخرى العدمية، ومثلها العبثية.

 

بالإضافة إلى أن الإنسان هو كذلك باني المدن ومُدمِّرها، وهو الذي يشق الطرق ويدشن المنشآت العظيمة؛ كالمدارس والجامعات والمساجد والمعابد، ويستصلح الأراضي الزراعية، ويشيد السدود، وغير ذلك. وهو كذلك المفسد في الأرض، ومُخرِّب العمران، وهو الظلوم الجهول، وهو الأنانيُّ المتعجرف، وهو الشهواني المجرم، وهو مبدع الحروب، وقاتل الآلاف والملايين الذين ليس لهم ذنب سوى مخالفتهم طموحه المجنون، أو رفضهم الخضوع لجبروته، وهو فوق ذلك جاعل النساء بحمقه أراملَ، والأطفال بجنونه يَتامَى.

 

تبعًا لذلك، جاءت إشكالية هذه الورقة البحثية متجلية أبعادها في التساؤل التالي: إلى أي حد شكلت نظرة القرآن الكريم إلى الإنسان إطارًا توجيهيًّا للفعل البشري يقوده إلى إسعاده في دينه ودنياه؟

وتتفرع عن هذه الإشكالية الأسئلةُ الفرعيةُ التاليةُ:

ما هي ملامح نظرة القرآن إلى الإنسان أسماءً وألقابًا؟

 

كيف حدد القرآن الكريم مراحل خلق آدم أولِ إنسان؟

 

إذا كانت قضية وجود الإنسان على هذا الكوكب ومراحل خلق آدم أبي البشر، بالإضافة إلى إشكالية موت الإنسان ومصيره بعد فنائه، من أهم القضايا الوجودية التي شغلت البشرية خلال مراحلها الطويلة، فكيف ناقشهما القرآن الكريم؟

 

وإذا كان القرآن الكريم يصرح بأن وجود الإنسان على الأرض إنما هو واقع لغاية عظمى في علاقته بعبادة الله والاستخلاف في الأرض، فكيف عالج القرآن الكريم أعداء البشرية الذين يصدونه عن تحقيقه لهذه الغاية العظمى؟

 

تقرر العقيدة الإسلامية أن القرآن الكريم كتاب هداية للخلق إلى طريق الحق. فهل كان خطابُ القرآن للإنسان ذا بُعْد انتقائي تجزيئي، أم أنه ذو خاصية عامة وشاملة لكل المخاطبين، ممن تصح مخاطبتهم ويعقل تكليفهم من الجنس البشري؟

 

تقرر مسلمات العقيدة الإسلامية أيضًا أن القرآن الكريم أُنزِل إلى البشر لقصد هدايتهم إلى صلاح دينهم ودنياهم. فما هي -إذن- أهم النظرات التوجيهية القرآنية إلى الإنسان خدمةً لهذا المقصد نفسه؟

 

1- أسماء الإنسان وألقابه في القرآن الكريم:

تعددت أسامي الإنسان وألقابه في القرآن الكريم، ومن أشهرها:

11- الإنسان: وهو مشتق من النسيان على مذهب الكوفيين. وأما البصريون، فيرون بأنه مشتق من الأُنْس[1]؛لأن هذا الجنس البشري يأنس بعضهم ببعض، ويوجد فيه من الأنس وعدم الاستيحاش ما لا يوجد في غيره من سائر الحيوان.

 

وقد ورد لفظ الإنسان في القرآن الكريم نحو أربعًا وستين مرة، منها:

قوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28].

 

قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ﴾ [الكهف: 54].

 

2.1- الناس: وقد اختلف النحاة في لفظ الناس، فقيل: هو اسم من أسماء الجموع، جمع إنسان وإنسانة، على غير اللفظ. وقيل: أصله من نسي، قال ابن عباس: (نسي آدم عهد الله فسُمِّي إنسانًا). وقال عليه السلام: (نسي آدم فنسيت ذريته). وفي التنزيل: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: 115]. وقيل: سُمِّي إنسانًا لأُنْسه بحواء. وقيل: لأُنْسه بربِّه. وقيل: الناس من النوس وهو الحركة، يقال: ناس ينوس؛ أي: تحَرَّك[2]. وهذه المعاني كلها مجتمعة في كلمة الناس، فهم كثيرو النسيان، شديدو الحركة، محتاجون إلى الأنس بعضهم ببعض، وأعظم الأنس ما كان حاصلًا بالله سبحانه.

 

وقد وردت كلمة “الناس” في القرآن الكريم نَحْوًا من مائة وتسعة وسبعين مرة. من بينها:

قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8].

 

ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173].

 

3.1- بنو آدم: وهم الجنس البشري المنحدر من ذرية آدم.

وقد ورد ذكر “بني آدم” في القرآن نحو ثماني مرات، ومنها:

قال تعالى: ﴿ يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31].

 

قال تعالى: ﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [يس: 60].

 

4.1- البشر: وهو الإنسان ذَكَرًا أو أنثى، واحدًا أو جمعًا. وهو مشتق من البَشَرة، وهي ظاهر الجلد من كل حيوان، التي بها يباشر الأجسام، خلافًا للملائكة والجن للطفها؛ ولذلك فإن الإنسان جسم كثيف، لأنه يلاقي غيره من الأجسام والمواد[3].

 

ومن المواطن التي ورد فيها لفظ البشر في القرآن الكريم:

قوله تعالى حكاية عن مريم: ﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 47].

 

وقال تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آل عمران: 79].

 

2. القرآن ومراحل خَلْق آدم أولِ إنسان:

تناولت الآيات القرآنية مسألة خلق آدم؛ فتارةً يخبر الله سبحانه بأن خَلْق أبي البشر كان من تراب، وتارةً من طين، وتارةً يصف هذا الطين بكونه لازبًا، وتارةً من حمإ مسنون، وتارةً من صلصال، وتارةً يشبه الصلصال بالفخار، ثم يذكر مرحلة تسوية آدم، ونفخ الروح فيه؛ لذلك سنتناول هذه المراحل حسب تدرُّجها في الخَلْق، بشكل مختصر حتى لا تخرج هذه الورقة عن حدِّ الاعتدال:

فأما خلق آدم من تراب، فلأنه مادة خلق أبي البشر، قال تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59].

 

ومما يستنبط من تعليل خلق آدم من تراب علل متنوعة، من أبرزها: أن يكون آدم متواضِعًا، ستارًا، أشد التصاقًا بالأرض، وبوظيفته الاستخلافية فيها، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30] الآية. بالإضافة إلى إرادته سبحانه إظهار قدرته، فإذا كانت الشياطين قد خلقت من النار، وقد ابتلاهم بظلمات الضلالة، فإنه سبحانه خلق آدم عليه السلام من التراب الذي هو أكثف الأجرام، ثم أعطاه المحبة والمعرفة والنور والهداية. كما أن خلق الإنسان من تراب، حتى يكون مطفئًا لنار الشهوة، والغضب، والحرص، فإن هذه النيران لا تطفأ إلا بالتراب[4]، والله أعلم.

 

وأما الطين، فهو التراب بعد إضافة الماء إليه، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴾ [المؤمنون: 12].

 

ومما ورد في تعليل مادة خلق آدم، بإضافة الماء الذي صفته الصفاء والنقاء إلى التراب حتى صار طينًا، حتى يكون الجنس البشري صافيًا تتجلَّى فيه صور الأشياء[5]؛ ولذلك فإن الفطرة البشرية إذا صادفت منبعًا صافيًا من منابع الوحي الرباني، فإنها تظهر من الإخلاص وصفاء السريرة ما لا يعلمه إلا الله، واسألْ عن أحوال الأنبياء والرسل، وعن صحابتهم وحوارييهم، وعن علمائهم وزُهَّادهم، وعن خواصِّهم وعوامِّهم، ممن نُقِل عنهم من العلم النافع والعمل الصالح، والأحوال والمقامات والتضحية في سبيل الله ما تعجز عن وصفه الألسنة. وتصديق ذلك، قوله عليه الصلاة والسلام: (كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ) الحديث[6].

 

وأما الطين اللازب، فهو الطين المُبلَّل اللاصق بعضه ببعضه أو باليد[7]، قال تعالى: ﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ ﴾ [الصافات: 11].

 

ثم الحمإ المسنون، وهو الطين الأسود المُتغيِّر، فقد قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ [الحجر: 26]، وفي هذا الصدد، يقول الطبري: (وأما قوله: ﴿ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ فإن الحمأ: جمع حَمْأة، وهو الطين المتَغيِّر إلى السواد. وقوله ﴿ مَسْنُونٍ ﴾ يعني: المتغير[8]؛ ولذلك قال ابن عباس: (هو التراب المبتل المنتن)، ومثله قول مجاهد وقتادة: (المنتن المتغير، من قولهم: قد أسن الماء إذا تغير))[9].

ثم صار آدم صلصالًا، وهو الطين اليابس إذا جفَّ من غير طبخه، بحيث يحدث صلصلة؛ وهو الصوت كصوت الحديد، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ [الحجر: 26]، فقد قال الزمخشري: (الصلصال: الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ، وإذا طبخ فهو فخار)[10].

 

ثم صار كالفخار، وهو الطين إذا طبخ بالنار، قال تعالى: ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ﴾ [الرحمن: 14]، وذلك أن الله تعالى خلق آدم أبا البشر من الصلصال (وهو: الطين اليابس الذي يُسمَع له صلصلة)، شبيه بالفخار الذي طبخ[11]. على أن الفخار -الذي هو الطين المطبوخ بالنار- وهو الخزف، مستعمل على أصل الاشتقاق، وهو مبالغة الفاخر؛ كالعَلَّام في العالِم، وذلك أن التراب الذي من شأنه التفَتُّت إذا صار بحيث يجعل ظرف الماء والمائعات ولا يتفَتَّت ولا ينقع فكأنه يفخر على أفراد جنسه[12].

 

مرحلة التسوية، قال تعالى: ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [الحجر: 29].

 

وهذه المرحلة تقتضي تسوية خلق آدم وتشكيله في صورته الإنسانية وخلقته البشرية، ليعقبها محطة نفخ الروح فيه، ليصير إنسانًا كاملًا بعقله، وطبائعه، وأفكاره، ومشاعره، ورغباته، وشهواته…. وإذا كانت قضية مراحل خلق آدم السابقة لا تثير إشكالًا، خاصة بربطها بعلم الله وقدرته وإرادته ومشيئته، فإن مسألة النفخ فيه من روح الله باتت إشكالية معرفية بالنظر إلى بُعْدها الكلامي والعَقَدي؛ لذلك يمكن أن نستدعي من هذه الإشكالية أعدل الأقوال التي تدور في فلكها، بالنظر إلى أن النفخ إجراء الريح في الشيء، كما أن الروح ههنا خلق من مخلوقات الله، عبارة عن جسم لطيف، أجرى الله العادة بأن يربط التصاقه بالجسم من حيث حياته ووفاته وجودًا وعدمًا[13].

 

ومما يستفاد من الآية السابقة أن خلق آدم إنما كان من طبيعتين مختلفتين: الأولى ترابية تجره دائمًا إلى الأرض شهواتٍ ونزواتٍ وطباعًا، وأخرى روحانية تجذبه نحو المثل والكمال والجلال.

 

وقبل أن نختم عرض التناول القرآني لمراحل خلق آدم أولِ إنسان، يحسن أن نطرح الملاحظات التالية:

لقد بيَّن القرطبي ما سبق من مراحل خلق الإنسان السابقة، من حيث تدرجها في الخلق، مبينًا أن آدم (كان أولًا ترابًا؛ أي: مُتفرِّق الأجزاء، ثم بُلَّ فصار طينًا، ثم ترك حتى أنتن فصار حَمَأً مسنونًا؛ أي: مُتغيِّرًا، ثم يبس فصار صلصالًا، على قول الجمهور)[14]. ثم جاءت مرحلة تسوية آدم في صورته النهائية، ونفخ الروح فيه، والله أعلم.

 

تبعًا لذلك، ولما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على وفد نصارى نجران قولهم: إن عيسى ابن الله، محتجين بأنه لا يُعرَف إنسان وُلِد بلا أب، أنزل الله تعالى قوله: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]، لبيان أن غرابة خلق عيسى أقل ظهورًا من غرابة خلق آدم خارقًا للمألوف والعادة بلا أب ولا أم، ورغم ذلك لم يدعِ أحد أن آدم ابن لله سبحانه[15].

 

نسبت الآيات السابقة خلق الإنسان من تراب، وصلصال، وفخار، وحمأ، وغير ذلك. ومن الأمثلة التوضيحية قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ﴾ [الحج: 5] الآية. لكن آيات أخرى نسبت خلق الإنسان إلى الماء، كما في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴾ [المرسلات: 20]، وقد تولَّى علماء الإسلام إزالة هذا الإشكال، بالتمثيل بنموذج وحيد -خشية الإطالة- وهو قول الرازي: (فإن قيل: الإنسان إذا خلق من صلصال كيف ورد في القرآن أنه خلق من التراب، وورد أنه خلق من الطين، ومن حمإ، ومن ماء مهين، إلى غير ذلك. نقول: أما قوله: ﴿ مِنْ تُرَابٍ ﴾ [الحج: 5] تارة، و ﴿ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴾ [المرسلات: 20] أخرى، فذلك باعتبار شخصين آدم خلق من الصلصال ومن حمإ، وأولاده خلقوا من ماء مهين، ولولا خلق آدم لما خلق أولاده، ويجوز أن يقال: زيد خلق من حمإ، بمعنى أن أصله الذي هو جده خلق منه، وأما قوله: ﴿ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ ﴾ [الصافات: 11] و ﴿ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ [الحجر: 26] وغير ذلك، فهو إشارة إلى أن آدم عليه السلام خلق أولًا من التراب، ثم صار طينًا ثم حمأ مسنونًا ثم لازبًا، فكأنه خلق من هذا ومن ذاك، ومن ذلك)[16].

 

3. وفاة الإنسان ومصيره بعد موته:

من الأسئلة الوجودية التي ارتبطت بتاريخ الإنسانية: لماذا أموت؟ وما مصيري بعد موتي؟ بمعنى: أهناك حياة بعد موتي أم لا؟ وإن كانت الإجابة عن السؤال الأخير بالإيجاب، فما طبيعة حياتي بعد موتي، وما هي خصائصها وسماتها؟

 

ونظرًا لأن القرآن الكريم كتاب إنساني، من حيث انشغاله بقضايا الإنسان وهمومه ومشاكله، فقد خصص حيزًا كبيرًا للحديث عن قضية موت الآدمي من جهة، ومصيره بعد موته من جهة ثانية.

 

1.3- قضية موت الإنسان في القرآن:

لقد ناقش القرآن الكريم هذه القضية من خلال إثبات الله سبحانه بأن مسألة موت الآدمي لا تخرج عن قضاء الله وقدره، قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ﴾ [آل عمران: 145] الآية. فقد دلَّ هنا النص القرآني على أن الإنسان لا يموت إلا بإذن الله (وهو ههنا: قضاؤه وقَدَره، وعلمه الأزلي، وأمره القدري)، وأن الحذر لا يدفع القدر، وأن أحدًا لن يموت قبل أجله الذي أجل له، وأن شهود المناسبات التي تشكل أسبابًا للقتل والموت غالبًا (كالجهاد في سبيل الله)، أو الابتعاد عن تلك الأسباب (كالقعود عن الجهاد مع القاعدين)، لا يقدم موت الإنسان ولا يؤخِّره[17].

 

وقد تكاثرت الآيات القرآنية التي تقرر هذا الأصل وتأكد على اطِّراده، مؤكدة على أنه سنة من سنن الله ماضية في خلقه، قال تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [يونس: 49].

 

ونظرًا لأن قضية موت الإنسان باتت حقيقة ضرورية، من حيث إنها تدفع البشر إلى الإذعان والخضوع لها، رغم شدة مرارة من ذاقها أو ذاق مرارتها، فقد هوَّنت الآيات القرآنية على بني البشر من خلال ربط هذه القضية بالركن السادس من أركان الإيمان، ألا وهو الإيمان بالقضاء والقدر، بالنظر إلى اعتبار العقيدة الإسلامية هذا الركن من الإيمان سِرُّ الله في خلقه، وأنه مقتضى علمه وحكمته وعدله وكمال صفاته، قال تعالى: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34]. وقريب من ذلك قوله: ﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ﴾ [العنكبوت: 5] الآية. وكذلك قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185].

 

2.3- قضية مصير الإنسان بعد موته وفناء جسده:

لقد حسم القرآن الكريم في مسألة مصير الإنسان بعد الموت، بالنظر إلى إثبات الآيات القرآنية حقيقة انتظار بني البشر لبعث الأموات بعد الممات، قال تعالى: ﴿ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ [الأعراف: 25]، فقد دلت الآية على شدة التصاق الإنسان بالأرض، بالنظر إلى كونها ظرفًا لحياته ومعاشه، وقبرًا له بعد وفاته، ومنطلقًا لبعثه وإحيائه يوم القيامة.

 

وهي حقيقة تكاثرت النصوص القرآنية تأكيدًا عليها؛ كقوله تعالى: ﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ﴾ [الزلزلة: 1 – 5]. فقد بسطت الآيات ما ينتظر الإنسان من أهوال يوم القيامة، ابتداءً بحركة الأرض واضطرابها الشديد والمتكرر، مؤذنة ببعث الأموات وإحيائهم وإخراجهم من قبورهم للقاء الله ومحاسبته لهم، إذعانًا وخضوعًا لأمر الله ووحيه القدري.

 

وقد أخبر الله تعالى أن لهذا البعث غاية، وهي لقاء الله ومجازاته للبشر، في أقصى مظاهر العدالة الإلهية، بعد أن تخرج الأرض أثقالها من موتى بني آدم، ليقفوا ويروا أعمالهم مكتوبة في صحائفهم، وما يقتضي ذلك من اطِّلاعهم على الجزاء الذي ينتظرهم، إما جنةً وإما نارًا، وإما أشتاتًا متفرقين على قدر أعمالهم، فأهل الإيمان على حدة، وأهل كل دين على حدة، وكل فريق ومِلَّة ونِحْلة مع شكله، قال تعالى: ﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 6 – 8].

 

وفي السياق ذاته، أرشدت الآيات إلى أن محاسبة الله لعباده يؤدي إلى انقسامهم من خلالها إلى مفلحين من أهل الجنة، وأشقياء من أهل النار. فأما الصنف الأول، فجزاؤهم ما وعد الله به أهل الجنة من العيش الذي يدفع الإنسان إلى الرضا عن الله وجزائه، في مقابل أهل معصيته الذين تنتظرهم جهنهم التي يهوي فيها صاحبها على أُمِّ رأسه، فتصير مستقره النهائي، قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾ [القارعة: 6 – 11].

 

4. أعداء الإنسان الذين حذَّر منهم القرآن:

حرصًا على سلامة الإنسان في دنياه بعيشه كريمًا فيها يحقق المقصد من خلقه في علاقته بعبادة الله والنجاة في الآخرة بالفوز بالجنة، فقد خصصت الآيات القرآنية حيزًا هامًّا للحديث عن أعداء الإنسان المجتمعين على صرفهم إياه عن الغاية التي من أجلها خُلِق، ومنهم:

الشيطان، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6]، كما حذر القرآن من اتِّباع خطوات الشيطان، فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [الأنعام: 142]، ثم عللت الآيات ضرورة البُعْد عن الشيطان وخطواته بأنه دائم الوسوسة للإنسان بكل ما يفسد عليه دينه ودنياه، وينهاه -بالمقابل- عن كل ما يكون سببًا لاستقامته في دينه، وصلاح دنياه؛ ولذلك مثَّل الله ذلك بما يصدر من إبليس من منع ابن آدم من الصدقة والزكاة والإنفاق في سبيل الله عمومًا، من خلال وعده إياه بالفقر إن أنفق ماله في سبيل الله، كما أنه يدعو الإنسان إلى المعاصي والفواحش، قال تعالى: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 268].

 

ومن ذلك أيضًا النفس، التي ما تلبث تأمر صاحبها بالفحشاء والمنكر، قال تعالى: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [يوسف: 53]، على أن هذه الآية نصَّت على أن الأصل في النفس البشرية ترك دعوتها للإنسان إلى عبادة ربه والبعد عن معصيته. إلا أن من دلالات الآية تأكيدها أن هناك استثناء حاصلًا مما سبق، حيث تصير -بسبب تهذيبه إياها- داعية صاحبها إلى الخير، تلومه على البعد عن عبادة ربه، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ [القيامة: 2].

 

ومن ذلك أيضًا الهوى؛ لذلك أخبرت الآيات أن سبيل النجاة في الدنيا والآخرة رهين بمخالفة الهوى، قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40، 41]؛ ولذلك نهت الآيات القرآنية عن اتِّباع الهوى؛ لأنه يدفع صاحبه إلى الجور والشهادة بغير الحق، ويمنعه من الحكم بين الناس بالحق والعدل، ليقع في الضلال والهلاك؛ ولذلك أمر الله تعالى نبيَّه داود بترك العمل بالهوى حتى يحقق مقصد العدل في الحكم بين الناس، قال تعالى: ﴿ يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ص: 26] الآية. ونظرًا لخطورة اتِّباع الهوى، فقد نفاه القرآن عن نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4].

 

وقريب من ذلك جمعه سبحانه بين مخالفة النفس واتباع الهوى، من حيث اعتبارهما مفضيَيْن إلى الغرق في أوحال الرذيلة، من خلال التأكيد على ضرورة تزكية النفس من كل ما يخالف الشرع، قال تعالى: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 – 10].

 

وقريب من ذلك قوله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129].

 

كما أرشدت الآيات القرآنية إلى أن مقصد تزكية النفس تحتاج إلى إفراغ القلب من الوقوع في المعاصي، والتلطُّخ بالموبقات، وعبادة الشهوات؛ لقوله تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 23].

 

5. شمولية الناس المخاطبين بالقرآن:

لقد خاطب القرآن الإنسان في كافة مراحله، وأحواله، وصفاته، وأجناسه، ووظائفه، وغير ذلك، بإشارات مجملة في الغالب، تهدف إلى تزكيته وهدايته للتي هي أقوم، فمن ذلك:

لقد ذكرت الآيات جزاء أهل طاعة الله في مقابل بيان جزاء أهل معصيته، قال تعالى: ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ﴾ [الزمر: 73]، وقال تعالى: ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا ﴾ [الزمر: 71] الآية.

 

كما ضرب الله تعالى مثلًا بالملك الطاغية فرعون المُتكبِّر على الخالق والمخلوق، فقد حكى الله عن فرعون قائلًا: ﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، وبالمقابل ذكر الله من أمر ذي القرنين باعتباره ملكًا صالحًا سعى إلى تحقيق العدل وتوحيد الله وعبادته في مشارق الأرض ومغاربها، فقال تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ﴾ [الكهف: 83 – 97].

 

كما تناول القرآن يوسف نموذجًا للوزير الصالح، الذي طلب من ملك مصر وقتئذ تنصيبه وزيرًا للاقتصاد والمالية، لتحقيق الخير والصلاح فيها، فقال تعالى حكاية عن هذا النبي: ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55]، وبالمقابل ضرب الله مثلًا للوزير الفاسد هامان الذي كانت وظيفته مطاوعة ملكه الظالم فرعون ومساعدته على فساده وإفساده في مصر، فقال تعالى: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ﴾ [غافر: 36، 37].

 

كما أثنى القرآن على كثير من الرجال، ممن وحَّدُوا الله، وأحسنوا عبادته، وتخَلَّقوا بالأخلاق الفضلى، وتعاملوا مع الخلق بالحسنى، فقال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ [مريم: 58]، كما أثنى على نموذج المرأة المثلى مريم، قال تعالى: ﴿ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 42].

 

كما تحَدَّث القرآن عن المرأة المؤمنة تحت الرجل الكافر، التي لم يمنعها مكوثها في بيت أفجر رجل عاش على الأرض وتكبَّر على الخالق والخلق، من تحقيقها للتوحيد، وإقامتها عبادة ربها رجاء الجنة، فقال تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [التحريم: 11]، كما تناولت الآيات نموذج المرأة الكافرة تحت الرجل الصالح، التي لم تستفد شيئًا من إقامتها في بيت النبوَّة، غير البُعْد عن الله وشرعه، فقال كذلك: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾ [التحريم: 10].

 

والأمثلة في هذا الباب كثيرة، من الثنائيات التقابلية، للخير وأتباعه، وللشر وروَّاده، وإنما مثلنا بما سبق حتى لا تخرج هذه الورقة عن حد الاعتدال، وهي أمثلة تجعل قارئ القرآن ومُتدبِّر آياته، يندرج من حيث يشعر أو لا يشعر، في طريق الخير والصلاح والاستقامة على شرع الله، أو اختياره مسلك الشر والفساد والإعراض عن دين الله، قال تعالى: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38] الآية.

 

6. نظرات توجيهية للقرآن الكريم إلى الإنسان:

شكَّلت جميع المقاربات التنظيرية للإنسان وهمومه ومشاكله وتحدياته، تصوُّرات محدودة الرؤية، قاصرة عن الارتقاء بالإنسانية إلى مدارج الكمال، بالنظر إلى كونها مقاربات إنسانية منطلقًا وغاية، ولا شك فإن التنظير لقضية يكون المُنظر جزءًا من منظومتها، يجعل هذا التنظير غير ذي جدوى كبيرة إلا إذا استعان بجهة خارجة عن هذه المنظومة، من خلال تموقعها مكانيًّا أو اعتباريًّا جهة العلو، بغية حسن تقديم المقترحات التوجيهية للقضايا والإشكالات المطروحة على الإنسان والإنسانية.

 

وهذه الرؤية التنظيرية والتوجيهية للإنسان وفعله البشري لا توجد إلا في الرؤية القرآنية، بالنظر إلى أن الله تعالى هو خالق الإنسان العالم بأسراره وخبايا نفسه؛ لذلك يمكن ملامسة بعض جوانب هذه الرؤية التوجيهية القرآنية من خلال النقط التالية:

لقد أخبر القرآن بأن خلقه كان في أحسن صورة، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [التين: 4]، وذلك أن خَلْق آدم وذريته كان في أحسن تقويم، الذي يتجلى في اتصافه بالعقل أساسِ التمييز والتكليف بالتكاليف الشرعية، والتنصيب بالمهام والمناصب العرفية والاجتماعية. كما خص الله بني البشر بصفات تُميِّزهم عما سواهم، من صفات ذاتية؛ كجمال الهيئة، واعتدال القامة، واستواء البنية، بحيث لم يجعل الإنسان منكبًّا على وجهه كغيره من المخلوقات، وأنه بديع تركيب الرأس بما فيه، والصدر بما جمعه، والبطن بما حواه، والفرج وما طواه، واليدان وما بطشت بهما، والرجلان وما احتملتاه؛ ولذلك قالت الفلاسفة: إنه العالم الأصغر، ولا ننسى تخصيص الله للإنسان بصفات فعلية بأن جعله ذا أخلاق وحياء وعلم وقدرة وإرادة وكلام وسمع وبصر وتدبير وحكمة[18].

 

وأنه ظلوم جهول، قال تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]، وهذا يعني أن الإنسان يظلم نفسه وغيرها بعصيان أمر ربه؛ لجهله ما ينتظره من العذاب يوم القيامة، وكذلك ظلوم جهول؛ لأن من شأنه الظلم والجهل، كما أن الطهور بمعنى من شأنه ذلك[19]، إذا لم يعلم على تزكية نفسه وتهذيبها.

 

وأنه كثير الجدل، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ﴾ [الكهف: 54]، والجدل، والجدال، والمجادلة، بمعنى واحد على المستوى اللغوي؛ لكن القاسم المشترك بين هذه الألفاظ الثلاثة هو مقارعة الحق بالباطل؛ بغية إعلاء الباطل ودحض الحق؛ ولذلك فقد ورد ههنا في سياق الذم.

 

وأنه شديد الحب للمال، بمعنى شديد في حبه للمال، بالنظر إلى بخله وعدم إنفاقه، خاصة في سبيل الله وفي أوجه الخير والإحسان، قال تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾ [العاديات: 8].

 

وأنه يسهل عليه طاعة من يغرره بالله، فيجعله يكفر بربه، فيتمرد عليه بمعصيته، والنأي عن عبادته، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾ [الانفطار: 6].

 

وأنه كادح إلى ربه، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ﴾ [الانشقاق: 6 – 15]، وإذا كان الكدح في اللغة العربية يعني الكسب والسعي والعمل خيرًا كان أو شرًّا[20]، فإن المقصود به ههنا مقتضيات الكدح، من حيث اعتقاد الإنسان برجوعه إلى الله يوم القيامة للقائه ومحاسبته للعباد على كدحهم وعملهم في الدنيا؛ ولذلك تناولت الآيات جزاء أهل طاعة الله، فقال تعالى: ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴾ [الانشقاق: 8، 9]، ثم جزاء أهل معصيته كما قال تعالى: ﴿ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا ﴾ [الانشقاق: 11، 12].

 

وأنه يستنكف عن عبادة ربِّه الذي خلقه وعلمه، من خلال الطغيان على أوامره، قال تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ﴾ [العلق: 1 – 6].

 

وأنه يطيع الشيطان في معصية الله بعد نسيانه وصية الله إليه على لسان الأنبياء والرسل، قال تعالى: ﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [يس: 60].

 

وأن الإنسان يحتاج – بشكل متواصل ومستمر- إلى التذكير بوصية الله إليه، قال تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [العنكبوت: 8].

 

وأنه ضعيف على حمل التكاليف الشرعية إلا بعد تخفيف الله عنه، وتوفيقه إياه على طاعته، كما أن الإنسان ضعيف أمام عواطف، خاصة الغضب والهوى والشهوة، وأمام النساء وفتنتهن من باب أولى، قال تعالى: ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28].

 

وأن صفات الإنسان البارزة أنه عجول قد طُبِع على العَجَلة، بحيث يستعجل كثيرًا من الأشياء والقرارات وإن كانت مضرة به، قال تعالى: ﴿ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ﴾ [الأنبياء: 37].

 

وأن الإنسان قد يكون كافرًا بربه، مستحقًّا للقتل (وهو اللعن ههنا)، قال تعالى: ﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ﴾ [عبس: 17].

 

والإنسان -كل إنسان- في كَبَد؛ أي: في شدة وعناء، فهو يكابد الدنيا ومصائبها، وأيضًا يكابد الآخرة وشدائدها، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4].

 

وأن مصيره الخسران في الدنيا والآخرة إن أعرض عن منهج الأنبياء، قال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 – 3].

 

الخاتمة:

7. خاتمة:

وانطلاقًا مما سبق، يمكن استخلاص الخلاصات والاستنتاجات التالية:

أجمع المسلمون على أن القرآن كتاب رباني المصدر، إلا أنه بالمقابل كتاب إنساني، بالنظر إلى أن الله تعالى أنزله للإنسان مقصدًا وغايةً، بغية هدايته إلى طريق الحق؛ ولذلك اتَّسَع المعجم الدلالي للآيات القرآنية بتناول الإنسان وأسمائه وألقابه ومتعلقاته.

 

ولأنه كتاب إنساني كما سبق، فلا غرابة أن يتناول القرآن الكريم القضايا الكبرى للإنسان، ويعالج همومه، ومشاكله، وأسئلته الوجودية والفلسفية، وشهواته ونزواته، وعوائق استقامته وتقواه.

 

ومن الأسئلة الوجودية التي اعتنى القرآن الكريم بالإجابة عنها قضية خلق البشر، بنسبة أصلهم إلى آدم أبي البشر، مع بسط مراحل خلقه وتسلسُلها التاريخي.

 

ومن الأسئلة الوجودية التي أَرَّقَت الفكر البشر حقبًا زمنية طويلة -ولا تزال- قضيةُ وفاة الإنسان، من حيث تعليل القرآن الكريم لحتميتها بربطها بقضاء الله وقدره وحكمته وقدرته، مع تعَلُّقها بمسألة بعث الناس بعد موتهم للقاء الله وحسابه لهم.

 

وإذا كانت مسلمات العقيدة الإسلامية تؤكد على أن الإنسان خُلِق لعبادة الله تعالى وعمارة الأرض بالخير والصلاح، فإن الآيات القرآنية لم تترك الإنسان دون تحذيره من أعداء البشرية التي يصدُّونها عن تحقيق مسؤولية عبادة الله والاستخلاف في الأرض.

 

ولأن عبادة الله تعالى والاستخلاف في الأرض من أهم مقاصد إنزال القرآن الكريم لبني البشر، فقد تناولت الآيات القرآنية الإنسان في شمولية الجنس الآدمي، من خلال نماذج تمثل الإيمان والتوحيد وطاعة الله وحسن الأخلاق والمعاملات، في مقابل نماذج تمثل الشرك والكفر ومعصية الله وسوء الخلق والمعاملة.

 

ولأنه القرآن كتاب أُنزل لغاية هداية الخلق إلى طريق الحق، فقد تناولت الآيات القرآنية توجيهات مسلكية تساعد الإنسان على تحقيقه مقصد الهداية والرشد.

 

8. قائمة المصادر والمراجع:

1- القرآن الكريم.

 

2- إبراهيم مصطفى ومعاونوه (وهم: أحمد حسن الزيات وحامد عبدالغفور ومحمد علي النجار)، المعجم الوسيط، دار الدعوة، إستانبول، طبعة 1410هـ-1989م.

 

3- أحمد، أحمد بن محمد بن حنبل (ت 241هـ)، المسند، تح شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد وآخرين تحت إشراف عبدالله بن عبدالمحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1421هـ-2001م.

 

4- البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم (ت 256هـ)، صحيح البخاري، أو الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، تح محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط1، 1422هـ.

 

5- ابن بطال، علي بن خلف بن عبدالملك (ت 449هـ)، شرح صحيح البخاري لابن بطال، تح أبي تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد، الرياض، ط2، 1423هـ-2003م.

 

6- ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي بن محمد (ت 852هـ)، فتح الباري شرح صحيح البخاري، تح محمد فؤاد عبدالباقي وعبدالعزيز بن عبدالله بن باز ومحب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ.

 

7- الرازي، محمد بن عمر بن الحسين (ت 606هـ)، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3، 1420هـ.

 

8- الزمخشري، محمود بن عمرو بن أحمد (ت 538هـ)، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1407هـ.

 

9- الطبري، محمد بن جرير بن يزيد (ت 310هـ)، جامع البيان في تأويل القرآن، تح أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ-2000م.

 

10- القرطبي، محمد بن أحمد بن أبي بكر (ت 671هـ)، الجامع لأحكام القرآن، تح أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط2، 1384هـ-1964م.

 

11- مسلم، مسلم بن الحجاج بن مسلم (ت 261هـ)، صحيح مسلم [المسمى “المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عــن العــدل إلـى رســول الله صلى الله عليه وسلم”]، تح محمد فؤاد عبدالباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.


[1] الأُنْس لغة: السكينة، والألف، واللطف، وزوال الوحشة؛ ولذلك تُلقَّب بالآنسة الفتاةُ طيبة النفس، المحبوب قربها، المؤنس حديثها، التي لم يسبق لها زواج. وانظر: إبراهيم مصطفى ومعاونيه (وهم: أحمد حسن الزيات وحامد عبدالغفور ومحمد علي النجار)، المعجم الوسيط، دار الدعوة، إستانبول، طبعة1410هـ-1989م، ج1، ص29.

[2] القرطبي، محمد بن أحمد بن أبي بكر (ت671هـ)، الجامع لأحكام القرآن، تح أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط2، 1384هـ-1964م، ج1، ص192-193.

[3] الرازي، محمد بن عمر بن الحسين (ت 606هـ)، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3، 1420هـ، ج19، ص139.

[4] المصدر السابق نفسه، ج8، ص243، بتصرف.

[5] المصدر السابق نفسه.

[6] البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم (ت 256هـ)، صحيح البخاري أو الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، تح محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط1، 1422هـ، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ ﴾ [التحريم: 11] -إِلَى قَوْلِهِ: ﴿ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 12]، رقم الحديث3411.

[7] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج15، ص69.

[8]) الطبري، محمد بن جرير بن يزيد (ت 310هـ)، جامع البيان في تأويل القرآن، تح أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ-2000م، ج17، ص97.

[9] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج10، ص21-22.

[10] الزمخشري، محمود بن عمرو بن أحمد (ت538هـ)، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1407هـ، ج2، ص276.

[11] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج17، ص160.

[12] الرازي، مفاتيح الغيب، ج29، ص349.

[13] انظر:

الرازي، مفاتيح الغيب، ج19، ص139؛

القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج10، ص24.

[14] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج10، ص21.

[15] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج4، ص103.

[16] الرازي، مفاتيح الغيب، ج29، ص349.

[17] انظر:

الرازي، مفاتيح الغيب، ج9، ص378.

القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج4، ص226.

[18] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج20، ص114، بتصرُّف شديد.

[19] الرازي، مفاتيح الغيب، ج25، ص189.

[20] إبراهيم مصطفى ومعاونوه، المعجم الوسيط، ج2، ص779.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
أسئلة وأجوبة حول الجنائز والمقابر (PDF)
منهج القرآن الكريم في تقرير توحيد الربوبية (PDF)