الاستشراق السياسي وصناعة الكراهية بين الشرق والغرب (الخلاصة والنتيجة)
الاستشراق السياسي وصناعة الكراهية بين الشرق والغرب
الخلاصة والنتيجة
يمكن أن تُختم الفصول الأربعة السابقة في النظر إلى الاستشراق السياسي في بعض وجوهه وفئاته المختلفة، دون تعميمٍ على المفهوم كلِّه، على أنه يُعدُّ – في جانبٍ من جوانبه، وليس في جوانبه كلِّها – أحدَ العوامل التي ساعدت على صناعة الكراهية بين الثقافات، بخلاصة ونتيجة من خلال النقاط الآتية:
للاستشراق أثرٌ بارزٌ في تحديد العلاقة ثقافيًّا بين الشرق والغرب على المستويين الماضي والحاضر، وربما المستقبل؛ إذ سيبقى مفهوم الاستشراق فاعلًا وإن اختلفت أدواته وفئاته ومدارسه، ويمتدُّ هذا الأثر في الأبعاد السياسية والإعلامية، ويسهم بطريق مباشر أو غير مباشر في رسم إستراتيجيات هذه العلاقة.
لم يكن أثر الاستشراق في هذه العلاقة كله سلبيًّا، بل كانت له آثاره الإيجابية في تقديم الثقافة الإسلامية في ماضيها البنائي والتراثي وحاضرها المتنامي، والإفادة من معطياتها العلمية والفكرية على مرِّ الزمن، وكان هناك ولا يزال مستشرقون مخلصون لهذا التوجّه، لم تستهوِهم تلك التقلُّبات التي تعصف بالعلاقة بين الثقافات، وبذا لا يسوغ التعميم في الحكم على الاستشراق سلبًا أو إيجابًا.
تتفاوت مواقف المستشرقين من الثقافة الإسلامية بحسب فئات المستشرقين ومدارسهم وأطوارهم، ومدى علاقة بلدانهم بالمنطقة العربية والبلاد الإسلامية من خلال حقبة الاحتلال؛ إذ كان لبعض المستشرقين المسيَّسين من الدول المحتلَّة أثرٌ في مسيرة الاحتلال.
مع هذا عمل الاستشراق السياسي خصوصًا وفي بعض جوانبه عمومًا، على تعميق صناعة الكراهية بين الثقافة الإسلامية بخاصة وغيرها من الثقافات بعامة، لا سيما الثقافة الغربية؛ من خلال عمله – في بعض جوانبه – على تشويه الثقافة الإسلامية في مصادرها وتراثها، وأوضاع المسلمين المعاصرة.
كانت لبعض المستشرقين جهود في مجال دعم الحملات التنصيرية في المجتمعات المسلمة، فظهر مستشرقون منصِّرون، وأمدَّ هذا النوعُ من الاستشراقِ التنصيرَ بالمعلومة عن المجتمعات المستهدفة بالتنصير، واستعانت السياسة بالتنصير، كما استعان التنصير بالاستشراق، وساعد ذلك كلُّه على تعميق الفجوة بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية، ومن ثم ساعد على صناعة الكراهية بين الثقافات.
مال بعض المستشرقين المتأخرين من المسيسين إلى الطرح الإعلامي والصحفي بخاصة، وأكثروا من الظهور على المواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية، وطُلبت آراؤهم “العلمية” في تحليل بعض المواقف التي تَزيد من الفجوة بين الثقافات، فكان قولهم مقبولًا ومؤثرًا؛ لما يمثلونه من خبرة مزعومة نادرة! بينما عزف مستشرقون آخرون غيرُ مسيَّسين عن هذا النوع من تسطيح القضايا، ورفضوا الإدلاء بآرائهم على العامة، وفضَّلوا الإفصاح عنها في الصروح العلمية وبين النُّخب من المفكِّرين وصناع القرار.
تفاوتَت مواقف المسلمين والعرب من هذا الجانب من جوانب الاستشراق في طرَفَين متناقضين في أغلب هذه المواقف؛ كلاهما غير مُنصِف لجهود المستشرقين الحسَنة منها أو السيِّئة، وبقي ثلَّةٌ من المفكرين العرب والمسلمين متوازنين في حكمهم على الاستشراق؛ من منطلق أنه كلما تعمق الباحث في دراسة الاستشراق كان أقرب إلى الحكم الصواب، وأحسب أن هذه الفئة من المفكرين توخَّتِ العدل في ذلك الحكم، فكانت أقربَ من غيرها إليه.
الباحثون عن المزيد من صناعة الكراهية بين الثقافات سيجدون مسوِّغات كثيرة، وأحداثًا متتالية تؤيد هذا التوجه في الافتراق؛ من منطلق مقولة الشاعر روديارد كيبلنج (1865 – 1936م): “الشرق شرق والغرب غرب، ولا يلتقيان أبدًا”[1]، وتكملة هذه القطعة: “حتى تقف الأرض والسماء حاضِرين أمام عدالة الله الكبرى فوق العرش؛ (حيث) ليس هناك شرق ولا غرب ولا حدود، ولا اختلاف بين الجنس والمولد، حيث يقف اثنان من الرجال الأشداء وجهًا لوجه، وإن أقبلا من أواخر الأرض”[2].
لا تُقرُّ هذه الوقفاتُ هذا المنهجَ في التباعُد والتباغُض، ولا تراه منهجًا سويًّا يسهم في عمارة الأرض والاستخلاف فيها، والباحثون عما يطفئ هذه الكراهية يميلون إلى الالتقاء والتعارُف، والتحالُف والتنافس، وجميع صيغ التفاعل الإيجابية، دون التنازل عن الثوابت والخصوصيات الثقافية[3]، سيجدون ضالتهم في الوحي المنزل من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ثم في آثار العلماء والمفكِّرين من الشرق والغرب؛ من منطلق مقولة الشاعر الألماني جوته (1749 – 1832م): “إن الشرق والغرب لله، وليس لهما أن يفترقا بعد الآن”[4]، وهذا هو المنهج الذي تتبناه هذه الوقفات.
إذا كان هناك من توصية فإنها تتركَّز في تكثيف قنوات الحوار مع المستشرقين عمومًا من خلال وجود المزيد من مراكز بحوثٍ ودراساتٍ للاستشراق في الصروح العلمية القائمة، والصروح العلمية المستقلَّة بذاتها، وتاليًا تكثيف عقد الندوات والمؤتمرات والحلقات التي يشترك بها المستشرقون أنفسهم؛ دون التركيز على التفيئة بين المستشرقين، ودون التركيز على المستشرقين المسيَّسين فقط؛ وذلك لتفعيل الحوار بين الثقافات، والسعي إلى تقليص الفجوة المفتعلة فيما بينها، ومن ثمَّ العمل من خلال هذه المراكز وغيرها على التواصل مع المراكز الاستشراقية الأخرى في العالم شرقه وغربه.
سيؤدِّي هذا الأسلوب العمَلي إلى المزيد من التعرُّف على المسهمين في صناعة الكراهية من المستشرقين المسيَّسين، ومن ثمَّ إيجاد قنوات الاتِّصال معهم، كما سيؤدِّي إلى إيجاد قنوات الاتصال مع غيرهم من المعتدلين والمنصفين؛ لبيان الحق وتجسير الفجوة الثقافية، والخروج إلى تقليص صناعة الكراهية بين الثقافات، من قِبَل هذه الفئة من الباحثين الدائمين في الشأن العربي والإسلامي.
ومن ثمَّ يؤدِّي هذا التوجه – بتعبير آخرَ – إلى الحد من حرب الثقافات وصناعة الكراهية بينها من جهة، وداخل الثقافة الواحدة من جهة أخرى، وسيؤدي كذلك إلى بروز ظاهرة تحالف الثقافات التي دعت إليها إسبانيا من خلال الخطاب الذي ألقاه رئيس وزرائها خوسي لويس ساباتيرو أمام دورة الجمعية العامة التاسعة والخمسين للأمم المتحدة يوم الثلاثاء 6/ 8/ 1425هـ الموافق 21/ 9/ 2004م، ثم شاركتها فيما بعد تركيا، وأيدها الاتحاد الأوربي والجامعة العربية[5].
الحد من حرب الثقافات وتغليب التحالف الثقافي في وجه عوامل التفرقة سينتج عنه – بحول الله تعالى – استقرار اجتماعي داخلي، وهو ما سينتج عنه استقرار في مناحٍ أخرى؛ سياسية واقتصادية داخلية؛ ذلك أن الاستقرار الاجتماعي سيقوم على التقارب بين المواطنين ومن يحكمونهم، ما يرسخ مفهوم الحكم الشوري أو الديموقراطي، ويقلِّص من شعور الحاكم أنه مستهدف من المواطن، الذي قد يشعر أنه مستهدَف من معارضة هزيلة ضعيفة أُلبست لباس التطرُّف، وربما حصلت على تأييد خارجي متعدد غير مرئي وغير معلن، فاستخدم أدواتٍ لزعزعة الاستقرار.
في المقابل يُشعر المواطنَ أنه مستهدف من الحاكم، ذلك الشعور الذي يترك أثرًا مشتركًا بالملاحقة، ويعطي الانطباع أن الحاكم في البلاد النامية – ومنها العالم العربي والإسلامي – إنما يطبق إملاءات قسرية، تقوم على التهديد من الخارج بزعزعة الكيان، أو بعدم السكوت عن التجاوزات والأخطاء التي قد تكون مفتعلة أو ناتجة عن تقصير غير مقصود في غالب الأحوال.
إنما يأتي هذا الاستقرار من المواطن في الداخل، لا ممن يظن أنه قوة عدوة لا تُرى بالعين المجردة، تملي على الحكومات أن تقف في وجه المواطن المتهم بالتطرف، ما يزيد “في الانتهازية من جانب قوى إرهابية نشطة تستغل هذه الحالة المرعبة، فتكون النتيجة وحشًا هلاميًّا مُخيفًا لن تستطيع قوةٌ على الأرض الإمساكَ به لِتَرويضه أو للقضاء عليه”[6]، وهذا ما يَحصل أخيرًا في المنطقة العربية.
لا بُد أن يُشْعَر المواطن فيَشعُر أن هذا الحاكم إنما جاء برغبةٍ وتأييدٍ منه، عن طريق البيعة الشرعية، أو أيِّ أسلوب مماثلٍ لهذا النهج في الحكم، يقوم على مبدأ المشاركة، وأن الحاكم إنما يَرعى مصلحة بلاده ومُواطنيه.
يَعني هذا في البداية والنهاية ترسيخ مفهوم البيعة، والتركيز على مسؤولية المواطن تجاه هذا النهج الذي يرسِّخ مفهوم المشاركة في إدارة الشأن العام، ويبعد هاجس التدخُّلات الخارجية إلى أقصى حدٍّ ممكن، دون أن يُغفلها تمامًا، كما يتغلب على مشكلة فقدان الثقة بين الحاكم والمحكوم. هذه المشكلة التي جرى تأجيجها على مختلف الصُّعد حتى أصبح الحكوميُّ في نظر الشعبي عدوًّا يتربص بالشعبي الدوائرَ، فيتأجج هذا الانفصام المفتعل بتبادل الاتهامات بين الحكومي والشعبي.
أحسبُ أن هذه المشكلة أمرٌ مصطنع روَّجَته أهواء وتحزُّبات من الطرفين، جعلت من عقيدتها مُناصبةَ حكوماتها العداوة، ومن ثم انشغل – أو قل إن شئت: شُغِلَ – الطَّرفان بينهما عن التركيز على مفهوم المشاركة، فكانت الفائدة من هذه الحال الانفصاميةِ من نصيب طرف ثالث، قد يكون له أثرٌ في إيجاد هذه الحال، وخطابٌ مثل هذا متهَمٌ ابتداءً بأنه خطاب متحيِّز، وعليه أن يُعيد النظرَ في موقفه القائم على إيجاد فجوة وتوسيعها بين القيادة والقاعدة الشعبية؛ فقد أثبتَ هذا الأسلوبُ أنه لم يُصلِح من الأمر شيئًا، ولم يكن ولن يكون أسلوبًا فعالًا، بل إنه أحدث أضرارًا كبيرة[7]، ولا يُغفَل في هذا كلِّه أثرُ الاستشراق السياسي في تأجيج هذا الشعور وتوسيع الفجوة – أو الفجوات – الداخلية والخارجية.
وفي الختام لا مندوحة عن تفعيل سبُل التفاهم بين الثقافات، مع الاعتراف بالفروقات التي لا تطغى على جوانب الالتقاء، واتخاذ التدابير لهذا التفعيل، وتذليل العقبات التي تصدُّ عن الاستمرار في عمارة الأرض والاستخلاف عليها، وتاليًا التقليص من الكراهية بين الثقافات، ولن يُفضيَ هذا التفعيل – على سبيل الاحتراز – إلى التنازل عن الثوابت وتجاهل الأصل في العلاقات بين الأمم وثقافاتها، وحتمية وجود الاختلاف.
وكان الله في عون الجميع!
[1] انظر: حسن الأمراني. أيها الغرب أين مشرقك؟، ص 116 – في: مصطفى سلوي. الخطاب الاستشراقي في أفق العولمة: يوم دراسي – مرجع سابق – ص 166.
[2] انظر: أكبر أحمد. الإسلام تحت الحصار – مرجع سابق، ص 102.
[3] انظر: علي بن إبراهيم النملة. الاستثناء الثقافي في مواجهة العولمة: ثنائية الخصوصية والعولمة – مرجع سابق – ص 50.
[4] انظر: حسن الأمراني. أيُّها الغرب أين مشرقك؟، ص 116، ص 116 – في: مصطفى سلوي. الخطاب الاستشراقي في أفق العلومة: يوم دراسي – المرجع السابق – ص 166.
[5] انظر: عبدالرزاق الدُّوَّاي. في: أخلاقيات الحوار بين الثقافات حول مبدأي التسامح وحق الاعتراف – التسامح – ع 15 (صيف 1427هـ/ 2006م)، ص 268 – 310.
[6] انظر: جميل مطر. الكراهية الأمريكية للعرب صناعة جديدة، ص 263 – 288 – والنص من ص 287 – في: بهجت قرني، وآخرين. صناعة الكراهية في العلاقات العربية – الأمريكية – مرجع سابق – ص 406.
[7] انظر: أحمد كمال أبو المجد. حوار الحضارات: الإسلام والغرب، ص 51 – 67 – في: خالد الكركي، مراجَع ومقدَّم. حوار الحضارات والمشهد الثقافي العربي – مرجع سابق – ص 268.