الالتقاء الحضاري للأمة الإسلامية (5)


الالتقاء الحضاري للأمة الإسلامية (5)

 

المنهج التجريبِي والمنهج العمَلي: يعدُّ المسلمون أوَّلَ من استعمل المنهج التجريبِيَّ الحديث؛ خلافًا لما كان عليه شَكْل العلم في الحضارة اليونانيَّة، أو الهنديَّة، أو الفارسية، فقد كان هؤلاء جميعًا – وعلى رأسهم اليونانيُّون – مُولَعين بالعلم النَّظَري، مهمِلين للعلم التطبيقي التجريبِي.

 

وقد عَرَفت الحضارة الإسلامية المنهج التجريبيَّ مبكرًا جدًّا، على يد علماء مسلمين، من أمثال جابر بن حيَّان (ت نحو 200 هـ)، الذي رسم منهجه التجريبي في قولته الشهيرة: “ومِلاَكُ كمال هذه الصنعة العمل والتجرِبة، فمن لم يعمل ولم يجرِّب لم يظفر بشيءٍ أبدًا”[1].

 

مرورًا بالرازيِّ الطبيب الشهير (ت 313 هـ).

 

وكذلك اعتمد نفسَ المنهجِ ابنُ الهيثم (ت 430 هـ) – رحمه الله – فيقول في مقدِّمة كتابه “المناظر/ 62”: “ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفُّح أحوال المُبْصَرات، وتمييز خواصِّ الجزئيَّات، ونلتقط باستقراء ما يخصُّ البصر في حال الإبصار، وما هو مطَّرِد لا يتغيَّر، وظاهر لا يشتبه من كيفيَّة الإحساس، ثُم نرتقي في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب مع انتقاد المقدِّمات والتحفُّظ في النتائج، ونجعل غرضَنا في جميع ما نستَقْريه ونتصفَّحه استعمالَ العدل لا الهَوى، ونتحرَّى في سائر ما نميِّزه وننتقدُه طلبَ الحقِّ، لا الميلَ مع الآراء”[2].

 

“فابن الهيثم أخذَ في بحوثه بالاستِقْراء والقياس، واعتنَى في البعض منها بالتَّمثيل، وهي عناصِرُ البحوث العلميَّة العصريَّة، وابن الهيثم – كواحدٍ من علماء المسلمين الذين أسَّسوا للمنهج التجريبِيِّ – لم يَسْبِق “فرنسيس بيكون”[3] إلى طريقته الاستقرائيَّةِ فحَسْب، بل سما عليه سمُوًّا كبيرًا، وكان أوسع منه أفقًا، وأعمق تفكيرًا، وإن لم يعنَ كما عُنِي “بيكون” بالتفلسُف النَّظري”[4].

 

يقول “جوستاف لوبون”: “ويُعزَى إلى “بيكون” على العموم أنَّه أول من أقام التجربة والترصُّد – اللَّذَين هما رُكن المناهج العلمية الحديثة – مقام الأستاذ، ولكنَّه يجب أن يعترف اليوم بأنَّ ذلك كلَّه من عمل العرب وحدهم، وقد أبدى هذا الرأيَ جميعُ العلماء الذين درسوا مؤلَّفات العرب”[5].

 

وهكذا خرج المنهج التجريبِيُّ من رحِم الحضارة الإسلامية، على يد هؤلاء العلماء المذكورين وغيرهم كثير، وكذلك حدَّد علماء الحضارة الإسلامية معالِمَ المنهج العمليِّ، بحيث أخرجوا العلمَ من القول إلى الفعل، ومن التَّنظير إلى التطبيق.

 

فحوَّل علماءُ الحضارة الإسلاميَّة النظريات العلميَّة القديمة والمستحدَثة إلى واقعٍ عمَلي، فاخترع “الزهراويُّ” (ت 427 هـ) “عددًا هائلاً من الآلات الجراحيَّة، وكان على سبيل المثال يعْلَم نظريًّا أن الدواء إذا اختلط بالدَّم مباشرةً فإنه يُحْدِث أثرًا أسرع، فأدَّى هذا إلى اختراعه الحقنة؛ لكي يصل فعلاً بالدواء إلى الدَّم بصورةٍ أسرع، وهكذا.

 

وكذا فعل “ابن البيطار” (ت 646 هـ) عندما أدخل أكثرَ من ثمانين دواءً مفيدًا إلى ساحة الطِّب، وكذلك “جابر بن حيَّان” الذي استغلَّ بعض المعادلات الكيميائيَّة لاختراعِ (معطف) للمطر لا يتأثَّرُ بالماء، ولاختراع أوراقٍ لا تَحْترق يكتب عليها المعلومات المهمَّة جدًّا”[6].

 

وهكذا أدَّى البحث الجدِّيُّ عن النفع من العلوم في الحضارة الإسلاميَّة إلى تكوين المنهج التجريبِي، والتزوُّدِ للمنهج العِلمي العمَلي، بعكس الحضارات السابقة التي كانت تَهِيم في النظريات المَحْضة، بعيدًا عن الواقع العملي.

 

حركة العلم في الحضارة الإسلاميَّة حركةٌ عالميَّة شعبيَّة: ومن خصائص حركة العلم في الحضارة الإسلامية أنَّها حركة عالميَّة، تضمُّ إليها أجناسًا وألوانًا مختلفة، فلا تتعصَّب لعرق أو لون، بل ميزان الرَّفع فيها والخَفْض العلمُ وحده.

 

“فالعلم في الإسلام حقٌّ مشاع، وثروةٌ مشتركة لجميع الأُمم والشُّعوب، والعناصر والأجناس، والأُسَر والبيوتات، والبلاد والأوطان، ليس فيه احتكارٌ مثل احتكار “بني لاوي” من اليهود، أو “البَراهمة” من الهُنود، ولا يتميَّزُ فيه شعبٌ عن شعب، ولا نَسْل عن نسل، وليس الاعتمادُ فيه على العِرْق والدَّم، بل الاعتماد فيه على الحرص والشَّوق، وحسن التلقِّي وزيادة التقدير، والتفوُّق في الجهاد والاجتهاد…

 

وكفى شهادةً تاريخيَّة لذلك ما قاله نابغةُ العرب “عبدالرحمن بن خَلْدون” (ت 808 هـ) في “مقدِّمته” المشهورة: “مِن الغريب الواقعِ أنَّ حمَلة العلم في المِلَّة الإسلامية أكثرهم العجم، سواء في العلوم الشرعيَّة، أو العلوم العقليَّة، إلاَّ في القليل النادر، مع أن الملَّة عربيَّة، وصاحب شريعتها عربي”[7].

 

وكذلك كانت حركة العلم في الحضارة الإسلاميَّة شعبية، أسْهَم فيها آحادُ الرعيَّة بجانب المؤسَّسات المعنيَّة بالدولة، بل على أكتاف هؤلاء المتطوِّعين الزاهدين قامت الحركة العلميَّة الإسلاميَّة في صورتها الرسمية.

 

يقول (A.J.Hammerton) في كتابه “التاريخ العامُّ للحضارة”: “لقد أصبح كلُّ مسلم – من الخليفة إلى الصّناع – وَلوعًا نَهِمًا بالعلم والسياحة، وكان ذلك أجلَّ خدمة قام بها الإسلامُ نحو الحضارة العالميَّة، وقد تقاطر رُوَّاد العلم من كلِّ صُقع على مركز ثقافيٍّ كبغداد، وكذلك كان الشأن مع مراكز أخرى للعلم والأدب، وكان ذلك يشبه تَهافت فضلاء الغرب على الجامعات، ولكن الأول كان أكثر إثارةً للحيرة والإعجاب.

 

غَصَّت المساجد التي كانت جامعات إسلامية – ولا تزال كذلك – بِحُشود من طلبة العلم الذين كانوا يقصدون هذه المساجد؛ لتلقِّي العلوم الدينية، والفلسفة والطبِّ والرياضيات، من العلماء الكبار، كان هؤلاء الأساتذة ينتَمُون إلى الأقطار التي تتكلَّم بالعربية، وكانوا يُلْقون دروسهم محتَسِبين متطوِّعين، لا تهمُّهم الشهادات، ولا تستَهْويهم الرَّواتب والأجور، ليس عليهم إشرافٌ من أحد، ولا رئاسةٌ ومُراقَبة، فإذا كانوا بارعين متفوِّقين في موادِّهم الدِّراسية انهالت عليهم جموعٌ من التلاميذ، وكانوا يقدرون ويعظِّمون بمقياس براعتهم واختصاصهم في موضوعاتهم، وينالون ما يفوتهم متطوِّعين متقلِّلين”[8].

 

جَمْع وَحْدات العلم المتناثرة: وكان من خصائص الحركة العلميَّة في الحضارة الإسلامية أنَّها جعلت للعلوم غايتَها الجامعة، بحيث وحَّدَت وجهات العلوم المتشتِّتة المتناحرة، ووضعت تلك العلومَ المختلفة في نقطة انطلاقةٍ واحدة، تُصبُّ جهودها جميعها في مصلحة الإنسان وعمارة الأرض، بلا تعارُض بين دين ودنيا، أو بين علمٍ وعمل، أو بين حاكم ومحكومين، أو بين نظامٍ وأفراد.

 

يقول أبو الحسن الندويُّ – رحمه الله -: “والأثر العقليُّ الذي يترتَّب على أثر عقيدة التوحيد على الإنسان، هو أنَّ العالَم كلَّه تابع لمركزٍ ونظام واحد، ويرى الإنسان في أجزائه المنتشرة ترابطًا ظاهرًا ووحدة في القانون، يستطيع الإنسانُ بفضله أن يأتي بتفسيرٍ كامل للحياة، وأن يقوم فِكْرُه وعمله في هذا الكون على حكمةٍ وبصيرة، وعلى تعاوُنٍ على البِرِّ والتقوى، وإسعاد الإنسانية، وتنظيم المجتمع، وتوجيه المدَنِيّة، والجمع بين الدِّين والدنيا، وتوحيد الصُّفوف المتنافرة والمعسكرات المتحاربة.

 

لقد كانت وحدات العلم مبعثَرة – كما سبق في الحديث عن اليونان – بل كانت في أغلب الأحيان متناقِضة.

 

وكان من أكبر معطيات النُّبوات في الزمن السابق، وأكبَرِ حسنات الإسلام في الأخير، أنه دلَّ على الوحدة التي تربِطُ بين وحدات العلم، فقد تيسَّر له ذلك؛ لأنَّه بدأ رحلته في مجال العلم والمعرفة بداية صحيحة، بدأها بالإيمان بالله، والاستعانة به، والاعتماد عليه؛ عملاً بقوله تعالى لرسوله: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1].

 

وقد أشار عالِمٌ غربي كبير – هو “هيرالد هوفدنج” الألمانيُّ – إلى أهمِّية العثور على هذه الوحدة، ودورها الفعَّال في حياة الإنسان ومسيرةِ العلم والأخلاق؛ يقول: “إنَّ فكرة كلِّ دينٍ قائمة على التوحيد، وهي تقوم على أن علَّة الوجود لجميع ما في الكون واحدة – وبغضِّ النظر عن المشاكل التي تحدث بهذه الفكرة بصورة لازمة – يخلف ذلك الاعتقاد أثرًا نافعًا ومهمًّا على الطبيعة الإنسانية، وهو أن أتباع هذا الدِّين يسهل عليهم الاعتقاد بأنَّ جميع الأشياء في العالم مرتبطة حسب قانونٍ واحد، بغضِّ النظر عن الخلافات والتفاصيل، فيلزم لكون العلة واحدة، أن يكون القانون واحدًا”[9].

 

وللحديث تتمَّة – إن شاء الله تعالى.


[1] كتاب “التجريد” لجابر بن حيان، ضمن مجموعة حقَّقها ونشرها “هولميارد” بعنوان: “مصنَّفات في علم الكيمياء للحكيم جابر بن حيان”، نقلاً عن “ماذا قدم المسلمون للعالم؟” (1/ 178).

[2] نقلاً عن المصدر السابق (1/ 197).

[3] فيلسوف ورجل دولة إنجليزيٌّ (ت 1626 م)، ومعروفٌ في الغرب بأنه مؤسِّس العلم التجريبِيِّ القائم على الملاحظة والاستنتاج.

[4] المصدر السابق: (1/ 179 – 180)

[5] “حضارة العرب”، نقلاً عن كتاب “وشهد شاهد من أهلها” (141).

[6] المصدر السابق: (1/ 181 – 182).

[7] أبو الحسن الندوي: “دور الإسلام الإصلاحي في مجال العلوم الإنسانيَّة” (56 – 57).

[8] نقلاً عن المصدر السابق (59 – 60).

[9] “دور الإسلام الإصلاحي في مجال العلوم الإنسانية” (45، 48).





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
تنبيه على تحقيق كتاب (منتهى الجمع في شرح مشتهى السمع)
اللاعنف في الإسلام