البراء بن مالك
البراء بن مالك
يُترجِم له الذهبي بقوله: “هو البراء بن مالك بن النضر بن ضمضم بن يزيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، الأنصاري النجاري المدني، البطل الكرَّار، صاحب النبي صلى الله عليه وسلَّم، وأخو خادم النبي – صلى الله عليه وسلم – أنس بن مالك، شهد أُحُدًا، وبايع تحت الشجرة”؛ (السِّيَر).
إنه واحد من أشهر المجاهدين الأبطال الذين كان لهم صولات وجولات في ميادين القتال؛ بل إن تاريخ الإسلام ليحتفظ له بمواقف بطوليَّة نادرة دلَّت على كريم عُنْصره، وعِزَّة نفسه، وعظيم تَقْواه، وعُمْق إيمانه، وقد زيَّن كل هذه الصفات وتوَّجها بخُلُق الزُّهْد في الدنيا والإيثار على النفس.
ذلك هو سَمْتُ المناضل الذي استعاض عن حُبِّ الدنيا ومتاعها بحبِّ الله ورسوله، لم يضِنَّ لا بنفسه ولا بماله في سبيل نصرة دِين الله، فاستحَقَّ أن ينال الحظوة الكبرى والمِنَّة التي يطمع فيها كل مؤمن صادق خلوص؛ ألا وهي حُبُّ اللهِ وحُبُّ رسولِه؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 54].
نجح البراء في هذا الاستحقاق؛ استحقاق مَحبَّة الله بامتياز، وهذا بشهادة خيرِ خَلْق الله كلهم الرسول الأكرم- صلى الله عليه وسلم- إذ يقول في الحديث الذي رواه الحاكم في مستدركه والترمذي في كتاب المناقب عن أنس بن مالك-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: «كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، ذِي طِمْرَيْنِ، لَا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَأَبَرَّهُ» مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مالك.
فيا له من شرف عظيم ومكانة رفيعة! لا يطُولُها إلا المجاهدون الأبرار الذين يتمنون أن تُختَم مسيرتهم البطولية بنيل أرفع وسام؛ وسام الشهادة في سبيل الله، جاء في الإصابة لابن حجر عن محمد بن سيرين، عن أنس قال: “دخلت على البراء بن مالك وهو يتغنَّى، فقلت له: قد أبدلك الله ما هو خير منه، فقال: أترهب أن أموت على فراش، لا والله، ما كان الله ليحرمني ذلك، وقد قتلت مائة منفردًا، سوى من شاركت فيه”.
أما وقد عرفنا المكانة الخُلُقيَّة التي تبوَّأها الصحابي البراء بن مالك، آن لنا أن نتساءل عن المواقف النضالية التي أهَّلَتْه ليحوز هذا الشرف العظيم، فعن بكر بن سليمان عن ابن إسحاق أن البراء كان من أبطال حرب الردَّة، ففي يوم حرب مسيلمة الكذَّاب أمر أصحابه أن يحتملوه على ترس، على أسنَّة رماحهم ويلقوه في الحديقة، فاقتحم إليهم وعليهم، وقاتل حتى افتتح باب الحديقة، فجُرح يومئذٍ بضعة وثمانين جُرحًا؛ ولذلك أقام خالد بن الوليد عليه شهرًا يداوي جراحه.
جاء في المعجم الكبير للطبراني بإسناد حسن، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، قال: بينما أنس بن مالك وأخوه البراء بن مالك عند حصن من حصون العدوِّ، والعدوُّ يلقون بكلاليب من سلاسل محماة، فتعلَق بالإنسان، فيرفعونه إليهم، فعلق بعض تلك الكلاليب بأنس بن مالك، فرفعوه حتى أقلُّوه من الأرض، فأتي أخوه البراء، فقيل له: أدْرِك أخاك وهو يقاتل الناس، فأقبل حتى نزا في الجدار، ثم قبض بيديه على السلسلة وهي تدار، فما برح يجرهم ويداه تدخنان حتى قطع الحبل، ثم نظر إلى يديه، فإذا عظامه تلوح، قد ذهب ما عليها من اللحم، وأنجا الله عز وجل أنس بن مالك رضي الله عنه”.
لقد كانت للبراء بن مالك ملامح بطوليَّة كثيرة لا يسعفنا المقام في إيرادها، وتبقى موقعة “تُستَر” شاهدة على فروسيَّة واستبسال هذا البطل الذي تمنَّى على الله أن يرزقه الشهادة ليتوِّج بها مسار نضاله المميز.
حدثت موقعة “تُستَر” في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، في السنة العشرين من الهجرة، ودارت رحاها بين المسلمين والفرس، أما سبب وقوعها فيرجع بحسب ابن كثير في البداية والنهاية “إلى أن “يزدجرد” كان يُحرِّض أهل فارس وأهل الأهواز ناعيًا عليهم مُلْكَ العرب بلادهم، فما كان منهم إلَّا أن تعاهدوا على حرب المسلمين، وقرروا أن يقصدوا البصرة، ولما علم أمير المؤمنين عمر بما ينوي الفرس فعله، أصدر أوامره لكل من سعد والي الكوفة وأبي موسى والي البصرة بتجهيز جيش المسلمين لكسر شوكة الفرس، ولم يَفُتْه رضي الله عنه أن يُسمِّي الأبطال الشُّجْعان الذين ينبغي أن تسند إليهم المهام الحربية القيادية، وقد خصَّ بالذكر البطل البراء بن مالك وثُلَّة من أقرانه الأبطال الأشاوس؛ كعاصم بن عمرو ومجزأة بن ثور وحذيفة بن حصن والحصين بن معبد والنعمان بن مقرن وعبدالله بن ذي السهمين، وفي أولى جولات هذه الحرب ألحق النعمان بن مقرن رضي الله عنه – وكان على رأس جيش الكوفة- الهزيمة بالهرمزان وذلك بإربل، فاضطر القائد الفارسي إلى ترك رامهرمز وفرَّ من هناك إلى تُستَر، حيث حاصره جيش الكوفة ومعه جيش البصرة، فاستمر الحصار عدة أشهر حدثت خلاله مناوشات ومواجهات بين الطرفين، وقد حفظ التاريخ للبراء دوره الفعَّال في معركة تُستَر؛ إذ يقول ابن كثير وهو يثني على شجاعته وبسالته: “وقتل البراء بن مالك أخو أنس يومها مائة مبارز، سوى من قتل غير، وكذلك فعل كعب بن ثور ومجزأة بن ثور وأبو يمامة وغيرهم من أهل البصرة… حتى إذا كان في آخر زحف قال المسلمون للبراء بن مالك وكان مجاب الدعوة: يا براء، أقسمْ على ربك ليهزمنَّهم لنا، فقال: اللهم اهزمهم لنا، واستشهدني” وكذلك كان، نصرَ الله جنده المسلمين، وأكرم عبده المجاهد البراء بمنَّة الشهادة، رحمه الله وأثابه خير الثواب، وأدخله جنات عدن مع الصدِّيقين والشهداء.