التداعيات السلبية للعصرنة.. وإشكالية تهديد تماسك الأسرة والمجتمع بالتفكك
التداعيات السلبية للعصرنة
وإشكالية تهديد تماسك الأسرة والمجتمع بالتفكك
مع تسارعِ تأثيرِ تداعيات العصرنة في مجريات الحياة اليومية المعاصرة للناس، ومن خلال وسائلها المفتوحة في كل الاتجاهات، وبلا قيود، ازدادت المناكفات اليومية في حياتنا الأسرية، والمجتمعية، حتى أضْحَتْ تُهدِّد وحدةَ صفِّ العائلة والمجتمع بالتفكُّكِ، بعد أن تعمَّقت مشاعر الانفلات والتسيب، وبما باتت تتركه من مفاعيل مؤذية نفسيًّا، ومنهكة اجتماعيًّا.
ولا ريب أن تداعيات العصرنة السلبية بما أفرزته من وسائل الاتصال الرقمي، على كل إيجابياتها، من انغماس الجيل – آباء وأبناء – في فضائها، وما تركتُه من عزلة بين أفراد العائلة، وداخل أفراد الوسط الاجتماعي العام، قد عمَّقت حالة التفكُّك، ووسَّعت الفجوة بين الناس، وألْغَتْ ترادف الأجيال بين الناشئة والآباء؛ مما خفَّف من جذوة التفاعل بالحضور الوجاهي الحقيقي، وأضعَف صميمية العلاقة الحميمة التقليدية بين أفراد الأسرة بعضهم ببعض، وبين أفراد المجتمع من جهة أخرى، وذلك بسبب التنشئة الخاطئة، وغياب دور الآباء والأمهات، في الإشراف العملي المباشر على تربية الأبناء، وإهمال مراقبة سلوكياتهم، وغض النظر عن مدى تطابقها مع معايير الصلاح، والتصرف الرشيد.
ولعل من الملاحظ على سبيل المثال أن ظاهرة الانغماس الكليِّ في فضاء الواقع الافتراضي، قد أفضت إلى استلاب اجتماعيٍّ نتيجة انفصال المستخدم تدريجيًّا عن واقعه الحقيقي، متمثلًا بعزله عن أسرته، وانفصاله عن أصدقائه ومجتمعه، بعد أن حلَّ محلَّه الاندماجُ التامُّ بالواقع الافتراضي الجديد، الذي انغمس فيه، وهكذا فقد باتت هذه الظاهرة تشكِّل مصدرَ قلقٍ للمجتمع، ولمؤسساته التربوية والتعليمية معًا، بل حتى الدينية، بعد أن أوشكت هذه الظاهرة أن تعزِلَ المستخدم، وتُقْصيه عن أداء واجباته الدينية والاجتماعية.
ولا ريب أن تسلُّل الواقع الافتراضي الجديد إلى حياة الناس، ليحل محل الواقع الحقيقي لهم – قد بات يطرح من بين الكثير من التداعيات السلبية محاذيرَ إشكالية التفاعل مع المحتوى الهابط، الذي يُطرَح للتداول عبر مِنصَّات التواصل الاجتماعي المختلفة، مع أنها ليست هي من يصنع هذا المحتوى، لكنها تظل – مع ذلك – وسيلة نقل المحتوى، الذي قد تقف وراءه أوساط غير منظورة، لها مصلحة في صنع المحتوى، أو فبركته، بالطريقة التي تخدم مصالحها الخاصة، دون مراعاة لمشاعر المستخدمين، أو ملاحظة لمعايير الأخلاقيات العامة للمجتمع؛ حيث تنجح مثل تلك الفبركة، في كثير من الأحيان، في تغيير القناعات، والتأثير في المزاج الجمعي العام للمجتمع، بشقَّيهِ الافتراضي والحقيقي، وفقًا لأغراض تلك الأوساط، وما قد يترتب على ذلك بالمحصلة، من منعكسات اختلاط الرؤى، وتشويش القناعات، والتأثير في السلوك.
وهكذا فنحن اليوم، شئنا أم أبينا، أمام تداعيات ضاغطة باتجاه تفكيك الأُسرة، وهدم المجتمع، سواء من خلال ما باتت هيمنة الإنترنت تتركه بالإدمان على استخدامها، أو التفاعل مع محتوياتها الهابطة، ناهيك عن الدعوات الأخيرة لشرعنة ثقافة الشذوذ الجنسي المنحرف عن الفطرة الإنسانية، والقوانين السماوية والأرضية، والترويج لها، ومحاولات دعمها سياسيًّا وفكريًّا وقانونيًّا، من قِبَلِ أطراف دولية، من خلال سعيها المستمر لتقنين حقوق الشواذ، بذريعة حقوق الإنسان، والحرية الشخصية، مما سينعكس سلبًا على تماسك الأسرة؛ بسبب الانحلال الأخلاقي والتسيُّب، وضعف الانضباط داخل الأسرة والمجتمع في الوقت نفسه، ولتكون بذلك عاملَ هدمٍ مضافًا في كيان الأسرة والمجتمع.
ولا ريب أن مثل هذه التداعيات السلبية ستكون لها آثار حادة، تنخَر في كيان الأسرة، وتهدم أركان المجتمع، لا سيما أن الكثير من مجتمعات اليوم تعاني من إشكاليات التفكك العائلي والاجتماعي؛ بسبب المساوئ الناجمة عن ضعف آليات التربية للأبناء داخل الأسرة، وغياب الدور الاجتماعي، والتربية الدينية المتوخَّاة، في تحصين أفراد الأسرة ضد كل أشكال الانحلال الأخلاقي والقِيَمي، والانحراف عن صراط الله المستقيم.
ولذلك يتطلب الأمر الانتباهَ إلى مخاطر التداعيات السلبية لِمُخرجات العصرنة، والحرص على تقوية الوازع الأخلاقي، وتقوية الوازع الديني لدى أفراد الأسرة ابتداءً، والجيل الصاعد من الشباب، بقصد التحصين؛ وذلك لغرض النأي بهم عن مسارات التسيب، والانحلال، والضياع، والانغماس في مواقع التواصل الرقمي الضارة، وبالشكل الذي يضمن الحفاظ على وحدة الأسرة، ويعزز استمرار تماسك المجتمع، ويُديم أواصر التواصل الاجتماعيِّ الحقيقيِّ المباشر وجهًا لوجه، ويحد من ظاهرة العزلة والانحدار الأخلاقي، وذلك من خلال اعتماد نهج المسؤولية الجمعية في التربية.
وهكذا يتطلب الأمر الحرص على التوعية الدينية اجتماعيًّا، ومدرسيًّا، وإعلاميًّا؛ لتعزيز المعايير التربوية الفاضلة بين أفراد الأسرة والمجتمع، والارتقاء بمستوى ثقافة الآباء والأبناء، والحرص على تعميق ثقافة تماسك الأسرة فكرًا وسلوكًا، وبالشكل الذي ينعكس إيجابًا على إرساء وتعميق دعائم المجتمع الرشيد الذي ننشده.