التقرب إلى الله بصفة الرحمة، من أسباب نزول الأمطار
خطبة: التقرُّب إلى الله بصفة الرحمة من أسباب نزول الأمطار
الخطبة الأولى
الحمد والثناء…
أما بعدعباد الله:
فأوصيكم ونفسي أولًا بتقوى الله العزيز الغفار، ومراقبته بالليل والنهار، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
عباد الله: لقد تعرَّف الله جل جلاله لعباده بذاته العَلِيَّة، وكشف لهم عن صفة من صفاته الذاتية والفعلية؛ فقال جل في علاه: ﴿ طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 1 – 5].
إنها صفة الرحمة يا عباد الله، صفة دالة على اسمين من أسمائه، نتعبَّد اللهَ بهما كل يوم سبع عشرة مرةً؛ في قوله الله جل شأنه: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 3].
عباد الله: إن ربَّكم العظيمَ يكشف لكم عن صفاته، ويُنعِم عليكم من نِعَمِهِ، ويزيدكم من فضله، فحريٌّ بكم أن تتعرفوا عليه سبحانه، بمعرفة صفاته وأسمائه، ومعرفة معانيها وآثارها، ومن ثَمَّ العمل بمقتضاها، فالمشركون الأوائل كانوا يعرفون اسم الرحمن؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾ [الزخرف: 20].
عباد الله: اعلموا أن الله رحيم بعباده، وأن رحمته وسِعت كلَّ شيء، وهو أرحم الراحمين، ما خلقنا ليُعذِّبنا، وما أوجدنا ليُشقينا، وما كلَّفنا ليشُقَّ علينا.
يبسُط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار حتى يتوب مسيء الليل، يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويحب الصادقين، ويحب المتقين، ويحب المحسنين.
جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لله مائة رحمةٍ أنزل منها رحمةً واحدةً بين الجن والإنس، والبهائم والْهَوَامِّ، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطِفُ الوحش على ولدها، وأخَّر الله تسعًا وتسعين رحمةً، يرحم بها عباده يوم القيامة))؛ [مسلم (6908)].
الله قادر أن يعذِّب من عصاه عند أول ذنب، وعند أول جُرم، ولو فعل الله ذلك ما ترك على ظهر الأرض من دابة؛ قال سبحانه: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴾ [فاطر: 45].
غفر لرجلٍ قتلَ مائةَ نفسٍ، وتاب، فتاب الله عليه؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
ولرحمة الرحيم تبارك وتعالى مظاهرُ:
منها: ما سخَّره الله لعباده في هذا الكون لاستمرار عَيشهم، واستقرار حياتهم؛ قال تعالى: ﴿ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [القصص: 73].
ومن مظاهر رحمته بالمؤمنين: أنه سهَّل عليهم العبادة، والتكاليف الشرعية، وما جعل علينا في الدين من حَرَجٍ؛ قال تعالى: ﴿ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 50].
ومن مظاهر رحمته أنه يُدخِل أهلَ الجنةِ الجنةَ؛ كما قال تعالى: ﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ﴾ [التوبة: 21]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ﴾ [مريم: 85]، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قاربوا وسدِّدوا، واعلموا أنه لن ينجوَ أحدٌ منكم بعمله، قالوا: يا رسول الله ولا أنت؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله برحمةٍ منه وفضلٍ)).
ومن رحمته جل ثناؤه أنه ينزل كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا؛ إكرامًا للمؤمنين؛ لقضاء حاجات السائلين، وقبول دعاء الداعين، وإلحاح المستغفرين؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيبَ له؟ من يسألُني فأُعطِيَه؟ من يستغفرني فأغفرَ له؟))؛ [رواه البخاري ومسلم].
عباد الله، ومن أعظم مظاهر رحمته سبحانه نزول الأمطار؛ كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [الشورى: 28]، وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾ [الأعراف: 57].
فإذا أراد الله تعالى بأهل الأرض خيرًا، نشر عليهم أثرًا من آثار اسمه “الرحمن”؛ فعمَّر به البلاد، وأحيا به العباد، وإن أراد بهم شرًّا، أمسك عنهم ذلك الأثر؛ فحلَّ بهم من البلاء بحسب ما أمسك عنهم من آثار اسمه الرحمن؛ قال الله تعالى: ﴿ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ [الروم: 50].
وإن من مظاهر رحمته أنه جعل لرحمته أسبابًا تستنزل بها الأمطار؛ منها:
1- التوبة والاستغفار: قال الله جل وعلا حكايةً عن نبيه نوح عليه السلام: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ﴾ [نوح: 10، 11].
2- طاعة الله ورسوله؛ قال جل وعلا: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [آل عمران: 132].
3- تقوى الله تعالى: كما قال جل شأنه: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]، وقال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 156].
4- ومنها: الصبر على البلاء؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 156، 157].
5- ومنها: الرحمة بالعباد والشفقة عليهم، والرفق بالضعفاء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))؛ [أحمد والترمذي].
6- ومنها: مجالس العلم وحِلَق القرآن؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: 204]، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله، يتلون كتابَ الله، ويتدارسونه فيما بينهم، إلا نزلت عليهم السَّكِينة، وغَشِيَتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)).
7- ومنها: عيادة المرضى، وتفقُّد أحوالهم، وزيارتهم والسؤال عنهم؛ فإنه من أسباب الرحمة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من عاد مريضًا لم يزل يخوض في الرحمة حتى يجلس، فإذا جلس اغتمس فيها))؛ [إسناده صحيح].
8- ومنها: الإنفاق في سبيل الله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 99].
9- ومنها: الخروج إلى الخلاء لصلاة الاستسقاء: ففي الصحيحين عن عبدالله بن زيد المازني رضي الله عنه قال: ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا يستسقي، فجعل إلى الناس ظهره يدعو الله، واستقبل القبلة، وحوَّل رداءه، ثم صلى ركعتين)).
10- ومنها: الدعاء والإلحاح على الله جل وعلا؛ فقد قال الله تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60].
ألَا – يا عباد الله – تعرَّضوا لهذه الرحمات، وهذا العطاء، وهذا الكرم، لا تيأسوا ولا تقنطوا، ولا يغلبنَّكم الشيطان، والله المستعان.
الخطبة الثانية
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل؛ أما بعد عباد الله:
فالناس في هذه الأيام ينتظرون الغيث من السماء؛ فقد أجدبت الأرض، ويبِس الزرع، وجفَّت الآبار، وقَسَتِ القلوب، وأهل الإيمان متطلعون إلى رحمة علَّام الغيوب.
فلا شكَّ لديهم في رحمة الله سبحانه، ولا شك أنه لن يضيع عباده جل ثناؤه، فالذي ينزل الماء من السماء هو الله رب العالمين، الذي بيده الملك والملكوت؛ القائل سبحانه: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾ [الواقعة: 68 – 70].
هذا، وإن نزلت قطرات الأمطار وغيث السماء، فما هو إلا رحمةً من الله للبهائم والضعفاء؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((… ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنِعوا القَطْرَ من السماء، ولولا البهائم لم يُمطَروا)).
يقول مجاهد بن جبر رحمه الله: “إن البهائم لَتلعنُ العصاة من بني آدم إذا اشتدت السنن، تقول: من شؤم معصية بني آدم”؛ [أخرجه ابن ماجه، وهو في صحيح الجامع].
ألَا فاتقوا الله عباد الله، وتعرضوا لنفحات رحمة الله؛ عسى أن يصيبنا قَطْرُ السماء، وننتفع من بركات الأرض، تقربوا إلى الله بالصيام عباد الله، تقربوا بالصدقات وفعل الخيرات، وصلة الأرحام، أرُوا الله من أنفسكم خيرًا، وأظهِروا عجزكم وضعفكم أمام عزة الله وقوته وجبروته، فالله هو الغنيُّ ونحن الفقراء، وهو القويُّ ونحن الضعفاء.
اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، فلا تَكِلْنا إلى أنفسنا طرفة عين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغِثْنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسْقِنا غيثًا مُغيثًا، هنيئًا مريئًا، طَبَقًا سحًّا، مُجلَّلًا عامًّا، نافعًا غير ضار، عاجلًا غير آجل، اللهم تحيي به البلاد، وتسقي به العباد، وتجعله بلاغًا للحاضر والبادِ.
اللهم سُقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا هدم، ولا بلاء ولا غرقٍ.
اللهم اسقِ عبادك وبلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحْيِ بلدك الميت، اللهم أنبِتْ لنا الزرع، وأدرَّ لنا الضَّرع، وأنزل علينا من بركاتك، واجعل ما أنزلته علينا قوةً لنا على طاعتك وبلاغًا إلى حين.
اللهم ارحم الأطفال الرُّضَّع، والشيوخ الرُّكَّع، والبهائم الرُّتَّع، وارحمِ الخلائق أجمعين؛ ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286].