التكييف الفقهي للمتاجر الالكترونية (PDF)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد فهذا بحث عن مسألة:
(التكييف الفقهي للمتاجر الالكترونية)
وقد وطئ له بعدة مباحث وهي:
♦ حكم بيع الفضولي.
♦ حكم السَّلَم الحال
♦ حكم بيع العين الغائبة بغير وصف ولا رؤية متقدمة.
♦ حكم الاستصناع والاستصناع الموازي.
♦ أحكام عقود التوريد.
♦ دروب شيبيج (Drop shipping).
♦حكم زيادة السعر مقابل خيار الإلغاء.
أسأل الله القبول والتوفيق والتيسير إنه على ذلك قدير.
مدخل إلى المسألة:
♦ أكثر عقود البيع عبر المتاجر الالكترونية هي بيع سلم بنوعيه الحال والمؤجل.
♦ لا يضر في السلم عدم تملك السلعة حال إبرام العقد.
♦ تأجيل استلام السلعة مع خيار الدفع عند الاستلام هو من تأجيل العوضين ابتداءً وأصلاً (بيع الكالئ بالكالئ) وهو محرم بالإجماع ما لم يكن على سبيل الوعد.
المتجر الالكتروني:
هو منصة الكترونية لبيع وشراء السلع والخدمات عبر الانترنت.
وهذه المتاجر من النوازل التي استجدت في بيوع الناس اليومية لما فيها من توفير الوقت والجهد على أصحاب السلع والمشترين، وقد تكون متاجر جماعية تعمل كوسيط بين الباعة والمشترين بحيث تتولى إدارة عملية البيع، وقد تكون متاجر فردية يعرض فيها صاحب المتجر سلعه وحده.
ودورة حياة المنتجات في هذه المتاجر يتخللها عدد من المعاملات كتأجير مخازن السلع وتسويقها وبيعها ونقلها إلى غير ذلك.
وتختلف هذه المتاجر أيضاً في نوع السلع المعروضة فقد تكون سلعاً معينة كالسيارات المستعملة، وقد تكون سلعاً في الذمة كبيع الكتب الجديدة، وقد تطلب الصنعة في هذه السلعة وقد لا تطلب، وقد يدخل التوريد في عملية الشراء، وكل هذه الأحوال لها أحكام خاصة فلذا وطئ لهذا البحث بالبحوث الخمسة السابقة[1].
ويمكن أن نجمل الحديث عن التكييف الفقهي لهذه المتاجر من خلال أهم مراحله الثلاث:
♦ بيع السلع والخدمات.
♦ توصيل السلع.
♦ تخزين السلع.
الأول: بيع السلع والخدمات:
يقوم المتجر بإدارة عملية البيع، إما ببيع مباشر لتملك صاحب المتجر للسلعة وإما بوساطة بين البائع والمشتري بحيث يأخذ المتجر هامش من قيمة السلعة أو مبلغاً مقطوعاً نظير إدارة العملية المالية والاجرائية للبيع، وتُكيَّف هذه العملية بأنها وكالة بأجر، وبعد إبرام البيع يتم شحن السلعة إلى المشتري وهذه العملية من عقود الإجارة.
ويمكن إجمال التكييف الفقهي لعملية البيع عبر المتاجر الالكترونية بأنه عقد من عقود التوريد (بيع وإجارة الشحن)، وأما تفصيل ذلك فبالنظر إلى حال عقد البيع والذي يمكن إجماله إلى ثلاثة أحوال:
♦ بيع سلع معينة.
♦ بيع سلع في الذمة تدخلها الصنعة.
♦ بيع سلع في الذمة لا تدخلها الصنعة.
أ- بيع سلع معينة
وهو بيع سلع معروضة بأعيانها عبر المتاجر الالكترونية كالسيارة المستعملة، وهو بيع لعين غائبة والأصل فيه الصحة والإباحة إذا كان المبيع معلوماً بوصف منضبط أو رؤية سابقة، فإن لم يسبق بوصف منضبط ولا رؤية متقدمة فإن البيع لا يصح ولو كان للمشتري خيار الشرط.
كما لو باع المتجر جوال مستعمل لم يذكر فيه أية مواصفات ولم توضع له صورة ترفع الجهالة عنه، وذكر المتجر أن لك حق الإرجاع إذا لم تعجبك السلعة، وأبرم العقد عبر الموقع على ذلك، فإنه البيع لا يصح؛ وذلك لانعقاد البيع على سلعة مجهولة، فكما أنه لا يصح بيع السلم بوصف غير منضبط ولا الثمر قبل بدو الصلاح ولو بخيار الشرط فكذلك بيع العين الغائبة، وقد سبق بحث حكمها في مبحث مستقل[2].
كما يشترط عدم اشتراط تأجيل العوضين حتى لا يدخل في بيع الكالئ بالكالئ، ولا يدخل في ذلك ما إذا كان العقد على سبيل الوعد غير الملزم أو كانت السلع في الطريق أو تحت إجراءات الشحن فإن هذا لا ينافي الحلول والبيع صحيح ما لم تكن مدة الشحن طويلة لها وقع في ثمن السلعة عرفاً، وكذلك لا يدخل في التأجيل مدة خصم المبلغ من حساب المشتري وقبل وصوله إلى البائع فإنه في حكم المقبوض حكما.
وعند إبرام العقد فإن بيع المتجر للسلع المعينة لا يخلو من أحد أمرين:
♦ إما أن تكون عند صاحب المتجر كما لو كانت في مستودعات المتجر فالأصل في هذا البيع الصحة؛ لأن السلعة إن كانت ملكاً لصاحب المتجر فقد باع ملكه، وإن كانت مملوكة لغيره وأذن له في بيعها فهو بيع بوكالة، وإن كانت بغير توكيل فهو بيع فضولي يتوقف على إجازة المالك فإن أجازه تم وإلا انفسخ البيع وهو احتمال نادر الوقوع[3].
♦ وإما أن تكون السلعة المعينة ليست عند المتجر، فإن كان المتجر مالكاً للسلعة أو مأذون له في بيعها فهو بيع صحيح.
وإن كان المتجر غير مالكٍ للسلعة ولا مأذوناً له في بيعها ولا تحت تصرفه فلا يصح البيع لدخوله في بيع ما ليس عندك، وقد أخرج أصحاب السنن بإسناد حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما ليس عندك)[4].
ولا يقال إنه تصرف فضولي يتوقف على إذن المالك؛ لأن بيع الفضولي يقتصر جوازه على بيع السلع التي عند الفضولي بخلاف السلع التي ليست عنده؛ فقد أجمع أهل العلم على عدم جواز بيع المعين الذي ليس عند البائع أو تحت تصرفه.
قال ابن قدامة رحمه الله: “لا يجوز أن يبيع عينا لا يملكها، ليمضي ويشتريها ويسلمها رواية واحدة وهو قول الشافعي ولا نعلم فيه مخالفاً“[5].
فالنهي عام والنصوص الواردة في بيع الفضولي كانت في بيع سلعٍ كانت عند الفضولي فيقتصر الحكم على ذلك جمعاً بيع الأدلة، ومعنى النهي في بيع ما ليس عندك هو النهي عن بيع السلع المعينة التي ليست عند البائع ولا تصرف له عليها، وسبق بحث ذلك في مبحث مستقل[6].
ب- بيع سلع في الذمة تدخلها الصنعة
وهو بيع سلعة تُطلب فيها الصنعة، وصورتها ما لو اتفق المشتري مع أحد البائعين على منصة “علي اكسبرس” لصناعة ألف قطعة من الأواني بمواصفات بأبعاد محددة منضبطة وتسليمه إياها في موعد محدد.
فهذا بيع استصناع لا يجب فيه تقديم الثمن على الراجح من قول أهل العلم[7]، وينبغي أن يفرق بين سلعٍ طُلبت فيها الصنعة بمواصفات معينة فيقوم البائع بتوفيرها بهذه المواصفات، وبين سلعٍ صُنِعت وانتهت وعرضت للبيع، فالأول استصناع والثاني بيع سلم.
ولا بأس بتأخير دفع ثمن السلع التي تأخذ حكم الاستصناع، فسواء دفع المشتري جميع الثمن أو بعضه أو لم يعطه شيئاً عند إبرام العقد فالعقد صحيح.
كما يصح العقد بمباشرة البائع لصناعة هذه السلع بنفسه أو بتعاقده مع مصنع آخر يقوم بصناعتها بالباطن ويكون من عقود الاستصناع الموازي [8].
ج- بيع سلع في الذمة لا تدخلها الصنعة
وهو بيع سلعة لا تطلب فيها الصنعة، وصورتها ما لو اشترى رجل كتاب “الرحيق المختوم” من متجر “مكتبة جرير” بحيث يسلم إليه في وقت محدد.
وكمن اشترى رخصة برنامج “مايكروسوف أوفيس” وحمّل البرنامج من أحد البائعين على منصة “أمازون”.
فهذه من بيع الموصوف في الذمة، وهي أكثر أنواع البيوع انتشاراً عبر المتاجر الالكترونية، وتكييفها الفقهي أنها بيع سلم يشترط فيها ما يشترط في السلم، ومنها تقديم الثمن كاملاً عند إبرام العقد.
فإن باع السلعة بالتقسيط أو بتأخير الثمن فإن البيع لا يصح، وإليه ذهب مجمع الفقه الإسلامي[9].
ويمكن تصحيح العقد مع تأخير الثمن بأحد أمرين:
• أن يكون الاتفاق بين المشتري والبائع على سبيل الوعد غير الملزم، وذلك بأن يبدي كل طرف للآخر رغبته بذلك بحيث إذا أتى بالسلع يشترها منه ولكن بدون عقد ملزم لأي من الطرفين.
• أن يكون البائع وكيلاً بأجر عن المشتري، فيقوم المتجر بشراء السلعة بالتعيين وليس في الذمة من مالكها مع مراعاة أن الضمان في هذه الحال لا يرجع فيه المشتري على المتجر وإنما على مالك السلعة.
وينبه إلى أنه لا يشترط في صحة السلم تأجيل السلعة على القول الراجح، فلو كانت السلعة جاهزة في مستودعات المتجر فباع سلعة موصوفة في الذمة ثم سلمها له حالة صح البيع، وهو من السلم الحال وقد سبق بيان إباحته في مبحث مستقل [10].
الثاني: توصيل السلع
وذلك بأن يقوم المتجر بتوصيل السلعة المباعة إلى المشتري بعد إبرام البيع، فإن كان التوصيل مجاناً فهو من باب الشرط في البيع بما يحقق منفعة للمشتري، وإن كان بمقابل فهو من باب الإجارة، وفي كلا الحالتين فإن الأصل فيهما الجواز والصحة.
الثالث: تخزين السلع
توفر بعض المتاجر خدمة حفظ وتخزين سلع البائعين وذلك مقابل رسوم معينة، وتختلف مبالغ هذه الرسوم باختلاف حجم السلعة ومدة بقائها.
وهذه الخدمة من عقود الإجارة، وذلك أن مالك السلعة استأجر منفعة المكان مقابل مبلغ معين والأصل في حكمها الجواز، والله أعلم.
[1] وهذه المباحث هي “حكم السَّلَم الحال“، و”حكم بيع العين الغائبة بغير وصف ولا رؤية متقدمة“، و”حكم بيع الفضولي“، و”حكم الاستصناع والاستصناع الموازي“، و”أحكام عقود التوريد“.
[2] مبحث “حكم بيع العين الغائبة بغير وصف ولا رؤية متقدمة مع خيار الشرط“.
[4] رواه أبو داود (3504)، والنسائي (7/ 288)، والترمذي (1234)، وابن ماجه (2188)، وأحمد(179، 205)، والبيهقي (5/ 343)، والطيالسي (2257)، والطحاوي (4/ 46)، والدارقطني (3/ 75)، والحاكم (2/ 21)، كلهم من طرق عن عمرو بن شعيب به. قال الترمذي: حسن صحيح. قلت: إسناده حسن لسلسلة عمرو بن شعيب.