التوبة إلى الله جل جلاله (خطبة)


التوبة إلى الله جل جلاله

 

الحمد لله الذي هدانا للإسلام وكفى بها نعمة، ومنَّ علينا بالتوبة والغفران، إنه غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، والصلاة والسلام على من بعثه الله تعالى هاديًا للإسلام، مبشرًا ونذيرًا، أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد:

فيا عباد الله، أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله وطاعته؛ فقد وصانا ربنا بها فقال جل جلاله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 69 – 71].

 

أيها الإخوة الأحباب:

اعلموا أن الذنوب حجاب عن المحبوب جل جلاله، والانصراف عما يُبْعِد عن المحبوب واجب، والإجماع منعقد على وجوب التوبة؛ لأن الذنوب مُهْلِكات مُبْعِدات عن الله تعالى، فيجب الهروب منها على الفور، والتوبة واجبة على الدوام؛ فإن الإنسان لا يخلو عن معصية؛ ولذا فموضوعنا اليوم معكم أيها الأحباب تحت عنوان: (هلموا إلى ربكم)، وتتركز الخطبة على هذه العناصر الأربعة:

(1) الله جل جلاله يدعو الكون كله للتوبة.

(2) حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.

(3) الذنوب وهلاك الأمم قبلنا.

(4) ورقة عمل.

 

واللهَ أسأل لي ولكم التوبة الصادقة، أيها الإخوة الأحباب:

(1) الله يدعو الكون كله للتوبة:

(1) فلقد دعا الله جل جلاله المشركين إلى التوبة؛ قال الله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾ [التوبة: 11].

 

(2) ودعا اليهود والنصارى: الذين قالوا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ﴾ [آل عمران: 181]، والذين قالوا: ﴿ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 64]، فقال عز وجل: ﴿ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 74].

 

(3) ودعا سبحانه المنافقين إلى التوبة: قال الله تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 146].

 

(4) وفتح الله باب التوبة لأهل الكبائر: قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 33]، فقال: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 34].

 

(5) ودعا الله جل جلاله إلى التوبة المسرفين على أنفسهم بالمعاصي: قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].

 

(6) وفتح الله جل جلاله باب التوبة لأهل الشرك والقتل والزنا: قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ﴾ [الفرقان: 68، 69].

 

ثم يفتح الله لهم باب التوبة ويقول: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ﴾ [الفرقان: 70، 71].

 

(6) دعا المؤمنين الصادقين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بعد إيمانهم وهجرتهم، وجهادهم وصبرهم، إلى التوبة؛ فقال تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31].

 

ولكن مع كل هذه الأمثلة التي تُثْلِج الصدور، وتفتح باب التوبة إلى الله العزيز الغفور، فلا ينبغي أن نتهاون بعواقب الذنوب والمعاصي، فإن الله كما وصف نفسه بأنه غفور رحيم، فقد وصف نفسه بأنه شديد العقاب؛ فقال: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 98]، وقال جل جلاله: ﴿ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ﴾ [غافر: 3]، وقال ربنا تبارك وتعالى: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾ [الحجر: 49، 50].

 

(2) حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه:

تأمل – أخي الكريمَ – حال النبي صلى الله عليه وسلم مع الاستغفار والتوبة، وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فعن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله، واستغفروه، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة))[1].

 

والصديق رضي الله عنه يقول: “لَوَدِدْتُ لو أني شعرة في جنب عبد مؤمن”، بل كان يمسك بلسانه ويقول: “هذا الذي أوردني الموارد”، وكان يبكي كثيرًا ويقول: “ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكَوا”.

 

وكان إذا قام إلى صلاة كأنه عود من خشية الله جل جلاله، وقال: “والله لوددت أني كنت هذه الشجرة تُؤكَل وتُعضد”.

 

وهذا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ سورة الطور إلى أن بلغ قوله: ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ﴾ [الطور: 7]، فبكى واشتد بكاؤه حتى مرِض وعاده الناس، وقال لابنه وهو يموت: “ويحك ضَعْ خَدِّي على الأرض؛ عساه أن يرحمني، ثم قال: ويل أمي إن لم يغفر الله لي؛ ثلاثًا”، ثم قضى؛ أي: مات.

 

وهذا أبو الدرداء رضي الله عنه كان يقول: “لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت لَما أكلتم طعامًا على شهوة، ولا شربتم شرابًا على شهوة، ولا دخلتم بيتًا تستظلون فيه، ولَخَرَجْتُم إلى الصعيد تضربون صدوركم، وتبكون على أنفسكم، ولوددت أني شجرة تُعضد ثم تُؤكل”.

 

رباه قلب تائب ناجاكَ، أترده وترد صادق توبتي، حاشاك ترفض تائبًا حاشاك.

فليرضَ عني الناس أو فليسخطوا
أنا لم أعُدْ أسعى لغير رضاكا

(3) الذنوب وهلاك الأمم من قبلنا:

قال تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ [الشورى: 30].

 

أخي الحبيب:

هل سألت نفسك يومًا عن سبب هلاك الأمم من قبلنا؟ أمَا علِمتَ أنهم أُهلِكوا بسبب إعراضهم عن طاعة ربهم وعدم توبتهم؟

 

وإذا لم تكن الذنوب هي سبب هلاكهم، فما الذي أخرج الأبوين الكريمين عليهما السلام من الجنة؛ دار اللذة والنعيم، والبهجة والسرور، إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟

 

وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماوات، وطرده ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه، فجُعلت صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع؟

 

وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال؟

 

وما الذي سلَّط الريح على قوم عاد، حتى ألقتهم على وجه الأرض، كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودمرت ما مرت عليه من ديارهم إلى يوم القيامة؟

 

وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحةَ، حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم، وماتوا عن آخرهم؟

 

وما الذي رفع قوم لوط عليه السلام، حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم، ثم قلبها عليهم، فجعل عاليها سافلها، فأهلكهم جميعًا، ثم أتْبَعهم حجارة من السماء أمطرها عليهم، فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمة غيرهم، ولإخوانهم أمثالها، وما هي من الظالمين ببعيد؟

 

وما الذي أرسل على قوم شعيب سحابَ العذاب كالظُّلَلِ، فلما صارت فوق رؤوسهم، أمطر عليهم نارًا تلظَّى؟

 

وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر فنُقلت أرواحهم إلى جهنم، فالأجساد للغرق، والأرواح للحرق؟

 

وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟

 

وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرها تدميرًا؟ وما الذي أهلك قوم صاحب ياسين بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم؟

 

وما الذي بعث على بني إسرائيل قومًا أولي بأس شديد، فجاسوا خلال الديار، وقتلوا الرجال، وسبوا الذرية والنساء، وأحرقوا الديار، ونهبوا الأموال، ثم بعثهم عليهم مرة ثانية، فأهلكوا ما قدروا عليه، وتبَّروا ما علَوا تتبيرًا؟

 

وما الذي سلَّط عليهم أنواع العقوبات مرة بالقتل والسلب وخراب البلاد، ومرة بجور الملوك، ومرة بمسخهم قردة وخنازير؛ وآخر ذلك أقسم الرب تبارك وتعالى: ﴿ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأعراف: 167].

 

أخي الكريم، تأمل هذا الحديث المهيب عن جبير بن نفير قال: “لما فُتحت قبرص، فُرِّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالسًا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة الْمُلْك، تركوا أمر الله، فصاروا إلى ما ترى”[2].

 

الخطبة الثانية

الحمد لله رب الأولين والآخرين، سبحانه فهو الذي لا خيرَ ولا راحة إلا في طاعته، ولا ذُلَّ ولا شقاء إلا في مخالفة أمره، والصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أتقى الناس لله، وأخشاهم له؛ أما بعد:

(4) ورقة عمل:

فيا عباد الله:

تعالَوا بنا إلى أن ننزل هذا الكلام الطيب الذي سمعناه على أرض الواقع، كيف نتوب ونرجع إلى الله تعالى؟

قال الإمام النووي رحمه الله: “قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي، فلها ثلاثة شروط:

أحدهما: أن يقلع عن المعصية، الثاني: أن يندم على فعلها، الثالث: أن يعزم على ألَّا يعود مرة أخرى، فإن فقد هذه الثلاثة لا تصح توبته، وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي، فشروطها أربعة: هذه الشروط الثلاثة، وأن يبرأ من صاحبها؛ فإن كانت مالًا أو نحوه ردَّه إليه، وإن كانت حدَّ قذف ونحوه مكَّنه منه، أو طلب عفوه، وإن كانت غِيبة استحلَّها، فإن تاب من بعضها، صحت توبته عند أهل الحق من ذلك الذنب، وبقِيَ عليه الباقي.

 

هذا، وأسأل الله تعالى أن يتوب علينا، وأن يغفر لنا ذنوبنا، وأن يكفر عنا سيئاتنا، إنه غفور رحيم.


[1] رواه مسلم (2702).

[2] رواه أحمد في الزهد.





Source link

أترك تعليقا
مشاركة
حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم
توقيع كتاب السيرة الذاتية للشيخ صالح كامل “من مكة وإليها” بمعرض الرياض (صور)