الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس


حديث: الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذرَ ورثتَك أغنياء خيرٌ مِن أن تذرهم عالةً يتكففون الناس

 

عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنةٌ لي واحدة، أفأَتصدَّق بثُلُثَي مالي؟ قال: ((لا))، قلت: أفأتصدَّق بشطرِه؟ قال: ((لا))، قلت: أفأتصدق بثُلُثه؟ قال: ((الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذرَ ورثتَك أغنياء خيرٌ مِن أن تذرهم عالةً يتكففون الناس))؛ متفق عليه.

 

المفردات:

سعد بن أبي وقاص: هو سعد بن مالك بن أبي وقاص بن وهيب بن عبدمناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر الزهري القرشي، أبو إسحاق، أحد السابقين الأولين، ابن عم آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقال له: خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أولُ مَن رمى بسهمٍ في سبيل الله، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد: ((ارمِ، فداك أبي وأمي)).

 

وقد روى البخاري ومسلم من طريق سعيد بن المسيب قال: سمعتُ سعدًا يقول: جمع لي النبي صلى الله عليه وسلم أبوَيْه يوم أحد.

 

وقد اختُلِف في تاريخ وفاته؛ فقيل: سنة خمسين، وقيل: سنة خمس وخمسين، وكانت وفاتُه بقصره بالعقيق، فحُمِل إلى المدينة على رِقاب الرجال، وقد رغبت عائشة وبعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يمروا بجنازته في المسجد فيصلين عليه، ففعلوا، فوقفوا به على حُجَرِهن يصلين عليه، وقد ترك مائتَي ألف وخمسين ألف درهم، وترك أكثر من عشرة أولاد وعشر بنات، وقد سمَّى له ابنُ سعد في الطبقات ثمانيةَ عشر من الأولاد الذكور، مات قبله منهم إسحاق الأكبر وعمير الأكبر، وثماني عشرة من البنات رضي الله عنه.

 

أنا ذو مال؛ أي: صاحب مال.

 

ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة؛ أي: وليس ورائي من الولد سوى بنت واحدة، والمراد بها عائشة بنت سعد رضي الله عنها.

 

أفأتصدق بثلثي مالي: يحتمل أنه أراد بالصدقة الوصية بمعنى هل أوصي بثلثي مالي في عمل البر بعد موتي؟ ويحتمل أنه أراد الصدقة المنجَزة.

 

قال: لا؛ أي: لا تتصدَّق بثُلُثَي مالك.

 

أفأتصدَّق بشطره؛ أي: هل أتصدق بنصفه؟ فالمراد بالشطر هنا النصف.

 

قال: لا؛ أي: لا تتصدق بنصف مالك.

 

أفأتصدق بثلثه؛ أي: هل أتصدق بثلث مالي، وأُبقِي لورثتي الثُّلُثين؟

 

قال الثلث: يجوز نصبه على الإغراء، أو على تقدير فعل؛ أي: أعطِ الثلث، ويجوز رفعه على أنه فاعل؛ أي: يكفيك الثلث، أو أنه مبتدأ حذف خبره، أو خبر محذوف المبتدأ.

 

والثلث كثير: وفي رواية: ((والثلث كبير))؛ أي: إن التصدق بالثلث ليس بشيء قليل يسير.

 

أن تَذَر ورثتك أغنياء؛ أي: تركك ورثتك وذريَّتك مستغنين عن الناس.

 

خير مِن أن تذرهم عالةً؛ أي: أفضل مِن أن تتركهم بعد موتك فقراء محتاجين، والعالةُ جمع عائل وهو الفقير.

 

يتكفَّفون الناس؛ أي: يسألونهم بمدِّ الأكُف إليهم.

 

البحث:

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لو غض الناس إلى الربع؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الثلث والثلث كثير أو كبير.

 

وقد ساق البخاري رحمه الله حديثَ سعد رضي الله عنه بلفظ قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودُني وأنا بمكة، وهو يكرَهُ أن يموت بالأرض التي هاجر منها، قال: ((يرحم الله ابن عفراء))، قلت: يا رسول الله، أُوصِي بمالي كله؟ قال: ((لا))، قلت: فالشطر؟ قال: ((لا))، قلت: الثلث؟ قال: ((فالثلث، والثلث كثير، إنك أن تَدَعَ ورثتك أغنياء خير مِن أن تدعَهم عالةً يتكفَّفون الناس في أيديهم، وإنك مهما أنفقتَ مِن نفقة، فإنها صدقة، حتى اللقمة التي ترفعها إلى فِي امرأتك، وعسى الله أن يرفعَك فينتفع بك ناسٌ، ويُضَرَّ بك آخرون))، ولم يكن له يومئذٍ إلا ابنة.

 

وفي لفظ للبخاري من حديث سعد رضي الله عنه قال: مرِضتُ فعادني النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، ادعُ الله ألا يُردَّني على عقبي، قال: ((لعل الله يرفعك، وينفَعُ بك ناسًا))، قلت: أريد أن أوصي، وإنما لي ابنةٌ، قلت: أُوصِي بالنصف؟ قال: ((النصف كثير))، قلت: فالثلث؟ قال: ((الثلث، والثلث كثير أو كبير))، قال: فأوصى الناس بالثلث، وجاز ذلك لهم.

 

أما مسلم رحمه الله، فقد ساق حديثَ سعدٍ رضي الله عنه بعدة ألفاظ:

منها قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مِن وجع أشفَيتُ منه على الموت، فقلت: يا رسول الله، بلغني ما ترى من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة أفأتصدَّق بثُلُثي مالي؟ قال: ((لا))، قال: قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: ((لا، الثلث والثلث كثير، إنك أن تَذَرَ ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكفَّفون الناس، ولستَ تُنفق نفقةً تبتغي بها وجهَ الله إلا أُجِرتَ بها، حتى اللقمة تجعلها في فِي امرأتك))، قال: قلت: يا رسول الله، أُخلَّف بعد أصحابي، قال: ((إنك لن تُخلَّف فتعمل عملًا تبتغي به وجه الله إلا ازددتَ به درجه ورفعة، ولعلك تخلَّف حتى يُنفَع بك أقوام، ويُضَر بك آخرون، اللهم أمضِ لأصحابي هجرتَهم، ولا تردَّهم على أعقابهم؛ لكن البائس سعد بن خولة)) قال: رثى له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من أن تُوفِّي بمكة.

 

وفي لفظ: ولم يذكُرْ قولَ النبي صلى الله عليه وسلم في سعد بن خولة غير أنه قال: وكان يكرَهُ أن يموت بالأرض التي هاجر منها.

 

وفي لفظ له عن سعد رضي الله عنه قال: مرِضتُ، فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: دَعْني أقسِمْ مالي حيث شئت، فأبَى، قلت: فالنصف؟ فأبى، قلت: فالثلث؟ قال: فسكت بعد الثلث، قال: فكان بعدُ الثلثُ جائزًا.

 

وفي لفظ له، قال: عادني النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: أوصي بمالي كله؟ قال: ((لا))، قلت: فالنصف؟ قال: ((لا))، فقلت: أَبِالثُّلث؟ فقال: ((نعم، والثلث كثير)).

 

وفي لفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على سعدٍ يعوده بمكة، فبكى، قال: ما يبكيك؟ فقال: قد خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرتُ منها، كما مات سعد بن خولة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم اشفِ سعدًا، اللهم اشفِ سعدًا))، ثلاثَ مرارٍ، قال: يا رسول الله، إن لي مالًا كثيرًا، وإنما يرِثُني ابنتي، أفأُوصِي بمالي كله؟ قال: ((لا))، قال: فبالثلثين؟ قال: ((لا))، قال: فالنصف؟ قال: ((لا))، قال: فالثلث؟ قال: ((الثلث والثلث كثير، إن صدقتَك مِن مالك صدقة، وإن نفقتَك على عيالك صدقة، وإن ما تأكُل امرأتُك مِن مالك صدقة، وإنك أن تَدَعَ أهلك بخيرٍ – أو قال: بعيشٍ – خيرٌ مِن أن تدعهم يتكفَّفون الناس))، وقال بيده؛ اهـ.

 

وفي قوله في بعض ألفاظ الحديث: ((وعسى الله أن يرفعَك فينتفع بك ناسٌ، ويُضَر بك آخرون)).

 

وفي بعض ألفاظه: ((ولعلَّك تُخلَّف حتى يُنفَع بك أقوام، ويُضَر بك آخرون)).

 

معجزة من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أطلعه الله من غيب، فإن سعدًا لم يَمُت حتى فتح الله على يدَيْه العراق وبلادًا من فارس، فرفع الله به أقوامًا دخلوا في الإسلام على يدَيْه، وضرَّ به آخرين قتلهم على الكفر، واستولى على بلادهم، وطال عمره، وبقي بعدَ جماعاتٍ كثيرة من أصحابه، فكان كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

ما يفيده الحديث:

1- لا يجوز لمن أراد الوصية بشيء من ماله أن يزيد على الثلث.

 

2- يستحب لمن أراد أن يوصي بشيء من ماله أن ينقص عن الثلث.

 

3- استحباب العمل على ترك الذرية أغنياء.

 

4- أن النفقة على الأقارب من أحسن الصدقات والقربات.



Source link

أترك تعليقا

مشاركة
إعلام الكراهية، كتاب جديد لـ مايكل فارس لمواجهة الخطابات العنصرية
عثمان أبوزيد: الكتاب والكباب! – النيلين