الجهاد في سبيل الله وعوامل النصر على الأعداء (3)
الجهاد في سبيل الله وعوامل النصر على الأعداء (3)
تكلَّمنا في الفصلين السابقين عن أهم أسباب النصر والهزيمة، وأن النصر يعتمد – أوَّلاً وقبل كل شيء – على الإيمان بالله والتوكُّل والاعتماد عليه وحده في حصول النصر، مع القيام بما فرض الله من الواجبات، واجتناب المحرمات، وإعداد المستطاع من القوة المادية والمعنوية، وإخلاص النية والعمل لله، ثم الشجاعة والإقدام والصبر والثبات أمام العدو، والتضحية بالنفس والنفيس، مع كثرة ذكر الله وطاعته وطاعة رسوله، وعدم التنازع والاختلاف المؤدِّي إلى الفشل، وتولية القيادة لِمَن عُرِفوا بالإخلاص والأمانة، واستعمال المشاورة في ذلك بين المسؤولين، كما قيل:
شَاوِرْ سِوَاكَ إِذَا تَأْتِيكَ نَائِبَةٌ يَوْمًا، وَإِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الْمَشُورَاتِ |
وحصول التعاون والتناصر بين المسلمين الذين هم كالجسد الواحد، وكالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضًا.
هذا، ومن أعظم أسباب النصر مع ما ذُكِر التوجُّهُ إلى الله بالدعاء والتضرُّع؛ حيث أمر بالدعاء وتكفَّل بالإجابة في قوله – تعالى -: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186]، ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]، ﴿أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ [النمل: 62]، فإذا آمنَّا بالله حقَّ الإيمان واستجبنا له، فأطعناه بفعل ما أمر واجتناب ما نهى، ثم دعوناه – استجاب لنا؛ لأنه – سبحانه – لا يخلف الميعاد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خاف قومًا قال: ((اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم))[1]، وكان يقول: ((اللهم أنت عَضُدي ونصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل))[2]، وكان يقول: ((مُنْزِل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم))[3]، هكذا كان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يقول ويفعل، وهكذا ينبغي أن نفعل كما أمرنا الله، وكما شرع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21]، وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم خير الأمَّة وأكرمها على الله؛ ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 22]، وقد وصفهم الله في كتابه ومدحهم وأثنى عليهم؛ ترغيبًا لنا في الاقتداء بهم وسلوك طريقهم؛ فقال – تعالى -: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ﴾ [المائدة: 54]، وهكذا وصف الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه في التوراة والإنجيل والقرآن، فقال: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ﴾ [الفتح: 29]، وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدًا عنيفًا على الكفار، رحيمًا بالمؤمنين، غضوبًا عبوسًا في وجه الكافر، بشوشًا في وجه أخيه المؤمن؛ كما قال – تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 123].
هذه بعض أوصاف المؤمنين وأسباب نصرهم.
كما أن من أسباب الهزيمة سلوكَ الطرق الملتوية المنعطفة عن طريقهم، وذلك بالإعراض عن طريق الحق الذي هو طريق الإيمان والرسول والقرآن؛ علمًا وعملاً، واعتقادًا ودعوة، كما أن من أسباب الهزيمة اللجوءَ إلى غير الله؛ محبةً وخوفًا، ورجاء وتوكلاً، ورغبة ورهبة؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ومَن تعلَّق بشيءٍ وُكِل إليه، والله – تعالى – هو الذي بيده النصر والتأييد والعز والذل، يعزُّ مَن يشاء ويذل مَن يشاء، وهو الفعَّال لما يريد، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، لا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع؛ ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]:
فَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الإِلَ هُ أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ |
وقال – تعالى -: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3]؛ أي: مَنْ يعتمد عليه فهو كافيه، وقال الشاعر:
لُذْ بِالْإِلَهِ وَلاَ تَلُذْ بِسِوَاهُ مَنْ لاَذَ بِالْمَلِكِ الْجَلِيلِ كَفَاهُ |
هذا، وأسأل العلي القدير أن يوفِّق المسلمين – حُكَّامًا ومحكومين – إلى العمل بكتابه وسنة رسوله، وأن يؤلِّف بين قلوبهم، ويصلح ذات بينهم، وينصرهم على عدوهم، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.