الحديث (13) لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (خطبة)
سِلْسِلَةُ شَرح الأَربَعِينَ النَّوَويَّةِ
حديث: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ))
عناصر الخطبة:
• رواية الحديث.
• المعنى الإجمالي للحديث.
• المستفادات من الحديث والربط بالواقع.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهَدْيِ هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عن أبي حمزة أنسِ بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يؤمن أحدكم، حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه))[1].
عباد الله: هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كَلِمِه صلى الله عليه وسلم، ومعدودٌ من أصول الأدب، كما ينصُّ على الضابط لمعاملة الآخرين، ويفيد عمومًا أن ما يحبه الإنسان لنفسه من قول أو فعل، فعليه أن يُحِبَّه للآخرين، وما يكرهه لنفسه من قول أو فعل، فعليه أن يكرهه للآخرين، وأن يعامل الناس كما يُحِبُّ أن يعاملوه.
فما هي الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟
نستفيد من الحديث لواقعنا ما يأتي:
1-الفهم الصحيح لمعنى (لا يؤمن أحدكم)؛ قال العلماء: ليس المراد ذهاب الإيمان كليةً، وإنما المراد نفي كمال الإيمان؛ أي: لا يؤمن إيمانًا تامًّا بحيث يبلغ حقيقة الإيمان ونهايته، وهذا النفي معروف في كلام العرب، وكلام الناس كما نقول في الكلام الدارج: (نتا ماشي بنادم)، وتقول العرب: “فلان ليس بإنسان”[2]، فالمقصود نفي صفة من صفاته، وهنا نفي صفة من صفات الإيمان فيه؛ وهي: عدم حبِّه للناس مثل ما يحب لنفسه، فأصبح ناقصًا لافتقاده صفة: أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وهذا يدلُّكم على أن الإيمان يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي.
2- يجب نشر المحبة بين أفراد المجتمع، وتركُ الحقد والحسد، والكراهية والأنانية: لا يمكن لحقود أو حاسد، أو مُحِبٍّ لذاته أن يُحِبَّ لأخيه ما يحب لنفسه؛ لأن تلك الأمراض تُورِث الكراهية والبغضاء بين الناس؛ ولذلك يرتقي في مدارج الإيمان من يحب الخير للناس، ويبذل ما في وسعه وطاقته لنفعهم، ويُحزنه آلام إخوانه، فيمرض لمرضِهم، ويحزن لحزنهم، ويفرح لفرحهم.
وهذ لا يقتصر على إخوانه في الإيمان، بل في الإنسانية، فيحب للكافرِ دخولَه في الإسلام، كما يحب لأخيه الثباتَ على الدين، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بالهداية للمشركين، فقد حاصر أهلَ الطائف فجاءه أصحابه فقالوا: يا رسولَ الله، أحرقتنا نِبالُ ثقيفٍ، فادْعُ الله عليهم فقال: ((اللهم اهدِ ثقيفًا))[3]، كما أن المؤمن يدعو بالهداية للعُصاة، ويحب لهم التوبة؛ كما فرِح الصحابة رضوان الله عليهم بنزول توبة الثلاثة الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك؛ قال تعالى: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 118].
قال كعب بن مالك وهو أحد الثلاثة الذين نزلت توبتهم: “وآذَنَ – أي أعلَم – رسول الله صلى الله عليه وسلم الناسَ بتوبة الله علينا حين صلَّى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب نحو صاحبيَّ مبشِّرون، وركض رجل إليَّ فرسًا، وسعى ساعٍ من أسْلَمَ، حتى أوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمِعت صوته يبشرني، نزعت ثوبي، فكسوتهما إياه بشارةً، والله ما أملك يومئذٍ غيرهما، واستعرت ثوبين فلبِستُهما، ثم انطلقتُ أتيمَّمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقَّاني الناس يبشرونني بالتوبة، يقولون: لِيَهْنِكَ توبةُ الله عليك، حتى دخلت المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ حوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيدالله، فحيَّاني وهنَّأني، ووالله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعب بن مالك لا ينساها لطلحةَ، قال كعب: فلما سلَّمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي ووجهه يبرُق من السرور: ((أبْشِرْ بخيرِ يومٍ مرَّ عليك منذ ولدتك أمك))[4]، وهكذا فرِح الرسول صلى الله عليه وسلم وفرِح الصحابة بنزول توبتهم؛ لأنهم يُحِبُّون لإخوانهم مثل ما يحبون لأنفسهم.
فاللهم اجعلنا ممن يحبون لإخوانهم مثل ما يحبون لأنفسهم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن لآثارهم اقتفى؛ أما بعد عباد الله:
فنستفيد كذلك:
3- التشبُّهُ بالسلف الصالح في هذه الخَصلة العظيمة، وقد سبق معنا فرح الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة بنزول توبة الثلاثة الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك؛ ومن نماذج الاقتداء كذلك:
• حبُّه صلى الله عليه وسلم لصحابته ما يحب لنفسه: عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا أبا ذرٍّ، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تَأَمَّرَنَّ على اثنين، ولا تَوَلَّيَنَّ مالَ يتيم))[5]؛ قال ابن رجب رحمه الله: “وإنما نهاه عن ذلك؛ لِما رأى من ضعفه، وهو صلى الله عليه وسلم يحب هذا لكل ضعيف، وإنما كان يتولى أمور الناس؛ لأن الله قوَّاه على ذلك، وأمره بدعاء الخلق كلهم إلى طاعته، وأن يتولى سياسة دينهم ودنياهم”[6].
• وقال الإمام الشافعي رحمه الله: “ما ناظرتُ أحدًا قطُّ فأحببتُ أن يُخطئ”[7]، ويقول: “وددت أن الناس تعلَّموا هذه الكتب ولم ينسبوها إليَّ”[8]، فانظروا – رحمكم الله – إلى تواضع هذا الإمام، وحبِّه لخصمه إصابةَ الحق كما يحب لنفسه، فأين علماؤنا وطلبة العلم من هذا الخُلُقِ؟ حتى أصبح الانتصار للنفس والمذهب هو ديدن أكثرهم، إلا من رحم ربك، وقليلٌ ما هم.
• وكان محمد بن واسع يبيع حمارًا له، فقال له رجل: أترضاه لي؟ قال: لو رضيتُه لم أبِعْهُ، وهذه إشارة منه إلى أنه لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه[9]، وهذا كله من جملة النصيحة لعامة المسلمين، فأين هذا ممن يبيع سلعةً ثم يسكت عن عيوبها، فهل تحب أن يعاملك الناس بالمثل؟
فاللهم أوْرِثْنا خُلُقَ أسلافنا في التواضع والمحبة، آمين.
(تتمة الدعاء).