الحديث (15) “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا…” (خطبة)
سلسلة شرح الأربعين النووية
الحديث 15: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر…”
عناصر الخطبة:
• رواية الحديث.
• المعنى الإجمالي للحديث.
• المستفادات من الحديث والربط بالواقع.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]،﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]،﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أعاذني الله وإياكم من النار.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه“[1].
عباد الله، هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، واشتمل على أمور ثلاثة جمعت مكارم الأخلاق؛ وهي: قول الخير أو الصمت، وإكرام الجار، وإكرام الضيف. والالتزام بها دليل كمال الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأن معنى نفي الإيمان في الحديث ليس نفي الإيمان بالكلية؛ وإنما نفي كماله وتمامه، أو المبالغة؛ كما لو قلت لابنك: إن كنت ابني فأطعني؛ للمبالغة في حثِّه على الطاعة، وفي جميع الحالات فهو ابنك حتى ولو لم يطعك.
فما هي الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟
نستفيد من الحديث لواقعنا ما يلي:
1- التكلُّم بالخير أو الصمت: قال صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت“. ومن قول الخير إفشاء السلام والنصيحة، قال الشافعي رحمه الله في معنى الحديث: “إذا أراد أن يتكلم فليفكر، فإن ظهر له أنه لا ضرر عليه تكَلَّم، وإن ظهر له فيه ضرر أوشك فيه أمسك”[2]. فينبغي إذن التفكير قبل الكلام، فإن علم أنه لا يترتب عليه مفسدة ولا يجرُّ إلى مُحرَّم ولا مكروه؛ فليتكلَّم، وإن كان مباحًا فالسلامة في السكوت؛ لئلا يجر المباح إلى المحرم والمكروه [3].
قال الشافعي رحمه الله:
وقد سبق معنا في الحديث الثاني عشر”من حُسْن إسلامِ المرءِ تركُه ما لا يعنيه“، الحديث عن فضيلة ابتعاد المسلم عما لا يخصه ولا يهمه وما لا يفيده من الأقوال والأفعال، وعدم تدخُّله في شؤون غيره، ومنها في هذا الحديث الصمت والسكوت عما ليس فيه خير؛ كالكلام الفاحش والغيبة والكذب وقول الزور.
2- إكرام الجار: قال صلى الله عليه وسلم: “ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره“، فالجار الذي يجاورك في المسكن أو العمل كأصحاب الدكاكين، أو جاورك في مركب أو في حافلة أو طائرة. فإذا كان الجار من أقربائك فله ثلاثة حقوق: حق الجوار، والقرابة، والإسلام، وإن كان مسلمًا غير قريب فله حق الجوار والإسلام، وإن كان غير مسلم فله حق الجوار.
ومن حقوقه إكرامه كما في الحديث، وإكرام الجار يكون بـ:
الأمن من شرورك:قال صلى الله عليه وسلم: “والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن” قيل: من يا رسول الله؟ قال: “الذي لا يأمن جاره بوائقه“[4]؛ أي: لا يسلم جاره من كيده وآذاه، كالذي يرمي بالقمامة أمام منزله، أو يزعجه برفع صوت التلفاز مثلًا، أو يترك أطفاله يقلقون راحته، أو غير ذلك، أو يعتدي على عرضه بالتحرش ببناته أو زوجته. عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: “أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك” قال: قلت له: إن ذلك لعظيم، قال: قلت: ثم أي؟ قال: “ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك” قال: قلت: ثم أي؟ قال: “ثم أن تزاني حليلة جارك”[5]. وهذا لأن الجار يتوقع من جاره الذب عنه وعن حريمه، وقد أمر بإكرامه والإحسان إليه، فإذا قابل هذا كله بالزنا بامرأته وإفسادها عليه مع تمكُّنه منها على وجه لا يتمكَّن غيره منه كان في غاية من القبح.
الانتفاع بك: كأن تُسلِّم إذا مررت عليه، أو تهدي له إذا كان غنيًّا، أو تتصدَّق عليه إذا كان فقيرًا، وتشاركه في أفراحه وأحزانه، وتسأل عنه إذا غاب عنك، وتعوده إذا مرض، وتُسخِّر سيارتك مثلًا لقضاء بعض أغراضه، وأوجه إكرامه كثيرة.
فاللهم اجعلنا ممن يتكلمون بالخير، ويكرمون جيرانهم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن لآثارهم اقتفى، أما بعد:
عباد الله، نستفيد كذلك:
3-إكرام الضيف؛ قال صلى الله عليه وسلم: “ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه“، فإذا جاءك ضيف فأكرمه، والإكرام يكون بالطعام من غير إسراف، قال تعالى: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]، وبعض الناس لا يفهم من الإكرام إلا الإسراف. ولا بأس ببعض التكلف، كما فعل إبراهيم عليه السلام مع أضيافه قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾ [هود: 69].
ومن إكرامه إيثاره على نفسك وأبنائك في المأكل والمشرب، وعدم ترك الأبناء يقلقون راحته، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من يضم أو يضيف هذا“، فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاءً، فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح غدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: “ضحك الله الليلة، أو عجب، من فعالكما” فأنزل الله: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9][6].
وعلى الضيف احترام زمن الضيافة والكرم؛ وهي ثلاثة أيام فقط، وألا يحرج أهل البيت، وألا يتدخل فيما لا يعنيه كما رأينا في الحديث الثاني عشر، ولا يتجسَّس على أهل البيت فللبيوت أسرار.
فاللهم اجعلنا ممن يكرمون ضيفهم، آمين. (تتمة الدعاء).