الدعوة بين الخبرات والحماسات


الدعوة بين الخبرات والحماسات

 

تتكوَّن الدعوة إلى الله – دائمًا – من عنصرين أساسِيَّين؛ عنصر يَهْديها الطريق، وآخَر ينقلها إليه، عنصر تتمثَّل فيه القوَّة العلمية، وآخر يحمل شعلة القوة العملية، عنصر الأصالة والرُّسوخ، وعنصر التجديد والإبداع…

 

هما عنصر الخبرة، وعنصر الحماسة.

 

وقد امتزجا جميعًا فمثَّلا دعوة النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – في مكة والمدينة، وكانا نواة للدعوة الإسلاميَّة إلى يومنا هذا، امتَزَجا ولم يصطَدِما، امتزجا على اختلاف خصائصهما.

 

فالحديث عن الدعوة النبويَّة – على صاحبِها الصلاة والسلام – يعني الحديثَ عن منظومة من الشباب، وأخرى من الكهول، امتزجا جميعًا بخصائصهما في قالبٍ دعوي واحد، لا يملأ أحدُهما – مهما بلغ مما هو ممكن – فراغَ الآخر، ودورَه المنوط به.

 

ولسنا بحاجةٍ لكي نبرهن على هذا المعلِّم الدَّعوي وأثَرِه في الدَّعوة الأولى التي أرساها النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – وظل أصحابُه – رضي الله عنهم – من بعده يتعاقبون عليه، ويكفي النَّظر في سيرته – صلَّى الله عليه وسلَّم – وسيرة أصحابه؛ لاستخلاصه واضحًا جليًّا.

 

كما ليس المعنيُّ هنا إثباتَ أن النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – أقام دعوته على عنصُرَي الشباب والكهول، فإنَّ هذا شيء يتَّفق اتفاقًا لكلِّ دعوة كانت، بل المقصود كيف استطاع – صلَّى الله عليه وسلَّم – بما أوتي من حكمةٍ أن يوظِّف خصائص المرحلتين، ويستفيد من فروقهما دون صدامٍ أو مجرَّد احتدام.

 

وهذا ما يحتاج حَدُّه ودراستُه إلى بحثٍ كامل، يتناوله من منظورٍ دعويٍّ لتاريخ الدَّعوة الإسلامية في العصر الأول.

 

وكان يُفترض أن تسير كلُّ دعوة في الأمة بعد ذلك على سيرة الجماعة الأولى، محتفِظةً بِعُنصري تكوينها، وعنصري عمَلِهما في واقعها، متحدِّية كلَّ عقبة أمام اتِّحادها المبارك، هذا الاتِّحاد الملائم لقوانين السَّير والعطاء في الكون.

 

إلاَّ أن واقعنا يشهد انفصالاً بين تِلْك القوتينِ، بل ويمكن القول: إنَّ الخبرة وجماعتها، والحماسة وفريقها – كلاهما في واقعنا الدعوي المعاصر على طرفَيْ نقيضٍ من الآخر، إن لم يكونا عاملَ هدم لبعضهما البعض! فبدل أن يشكِّلا قوة في اتِّحادهما، سبَّبا شرخًا في سياج الدعوة، يَنْفذ منه أعداء الدعوة والمتربِّصون بها في الداخل والخارج.

 

والحديث عن هذا الشَّرخ في الواقع الدَّعوي، ومخاطرِه على الدعوة الإسلامية، ومظاهره، وأسبابه، وسبُلِ تخطِّيه… ينبغي أن يكون من أولويَّات الإصلاح في داخل المنظومة الدعويَّة؛ لما يترتَّب عليه من تضييعٍ للجهود الدعوية، وتعطيلٍ لإنجازاتها.

 

مخاطر هذا الشرخ في الواقع الدعويِّ: ولو لم يكن من مخاطر هذا الفَصْل بين الخبرات والحماسات، وبين قوَّتَي العلم والعمل – لو لم يكن سوى انقطاعِ الفائدة الدعويَّة عن الطرفين لكفى، فما بالنا بانقطاع الأجيال ذاتِها؟

 

إن قضية تعطيل “التَّوارث الدعويِّ” من أعظم ثمار اختلاط الأجيال في العمل الدَّعوي، فإذا انقطع هذا التوارث جُفِّف مصدرٌ أصيل من مصادر التلقِّي العمَلي في الواقع، ولم يعد للدعوة سنَدٌ يصلها بِسَلفها، فتتخطَّفها عراقيلُ متغايرة.

 

هذا، بالإضافة إلى وقوع الشِّقاق في الصف الدعويِّ، وانشغال كلِّ طائفة بأختها عن عملها الدعويِّ، وولوج الشيطان بِهم أبواب القَدْح والتَّجريح.

 

مظاهر الأزمة: وإذا أرَدْنا أن نتتبَّع مظاهر تلك الأزمة في واقعنا المعاصر، فعلينا أن ننظر قدر الخللِ التعاوني في مجالات الدعوة المختلفة، كما علينا كذلك أن ننظر حجمَ الخلافات الواقعة جرَّاءه.

 

أسباب تلك الفجوة: لا شكَّ أن السبب الرئيس في صناعة تلك الفجوة بين عنصُرَي الدعوة هو خلافُ خصائص المرحلة فيهما، فللمَرْحلة العمريَّة في الشباب خصائصُها، وكذلك الأمر للكهول والخبرات.

 

وتصوُّر تلك الخصائص لكل مرحلة يضْفي على الحوار الدعويِّ تفاهمًا أكبر، وفي المقابل جَهْل هذه الخصائص يحوِّل الحوار المفترض إلى صدامٍ وصراع.

 

ففي حين تمتاز مرحلة الشباب بالهمَّة العالية، والحماسة الشديدة، والقوة العملية، تمتاز مرحلةُ الكهولة أو الخبرة بالعقل الرَّصين، والتجرِبة الحيَّة، والقوة العلميَّة… وتلك خصائصُ أغلبيَّة غير لازمة، فقد تتحقَّق لبعض الشبابِ بعضٌ من خصائص المرحلة الأخرى، والعكس.

 

الشَّتات الدعوي: ومن أعظم أسباب استِفْحال الفجوة بين هذين الرُّكنين العظيمين في الدَّعوة إلى الله تعالى: فِقدانُ العمل الدعوي المشترَك، الذي يجمع كلَّ أطياف الدعاة ومن مختلِف الأعمار، ويبني قاعدة ائتلافيَّة تتَّحِد في ظلالها التصوُّرات والمفاهيم، وتأتي تلك التصوُّرات والمفاهيم وقد صُبِغت بصبغة الجماعة بكلِّ خصائص أفرادها.

 

إنَّ من إشكاليات الأزمة أنَّ ناسًا من الدُّعاة على الطرفين لم يعتادوا العمل الدَّعوي الميدانيَّ، الذي يفرض على الدعوة تصوُّرًا كاملاً للواقع وآليَّات العمل فيه، كما يفتح مجالاتٍ أرحب للطاقات والخصائص المتباينة، فباتت الأوهام والظُّنونُ عند الكثيرين منهم حقائقَ!

 

فالشباب الذي لم يجمعه عملٌ دعوي واقعي، أو مشروع دعوي تنظيري يضمّ قدرًا معتبرًا من الخبرات – أنّى له تصوُّر ضرورة هذه الفئة بين كلِّ رَكْب دعوي؟

 

والخبرات التي جدَّ على واقعها الدعويِّ الكثيرُ وهي لا تزال تَفْتأ تؤصِّل في ماضٍ منصرم – أنَّى لها تحديد معالم الدعوة وقيادتها؟

 

إن كلَّ مشروع دعوي إذًا – ولو كان تنظيريًّا في طور التصوُّر والإعداد فقط – يحتاج لأن يضع لبناتِه عنصرَا الدعوةِ جميعًا، بعيدًا عن التناول المختزَل لكلِّ طائفة في واديها، وبعيدًا كذلك عن التصوُّر المنقوص لهما، فإذا صحَّت لنا البداية، كان العمل الدعوي ذاتُه فيما بعد قادرًا على سدِّ تلك الفجوة.

 

الحلول: وأما سبل علاج تلك الأزمة، فبوضعها في حيِّز الاهتمام، وبتجنُّب أسبابها.

 

وبعد، فعسيرٌ على الدَّعوة أن تتلمَّس المخارج من تحدياتها في الواقع وهي – بعدُ – لم تَصِل إلى جذور تلك الإشكاليات أو العقبات، فإن عامَّة ما تواجهه الدَّعوة اليوم من أزماتٍ إفرازاتٌ لازمة لواقع وُجدت فيه، أو فُرض عليها، وإن كان هذا لا يبرِّر التخاذل أو ترك المُستطاع؛ وإنما يوقفنا على أولويَّات العمل والتحرُّك في واقعنا المعاصر.

 

والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبِعَهم بإحسان إلى يوم الدِّين.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
الإسلام يراعي أحوال الناس وطبائعهم
مشروعية التوسط في مدة خطبة الجمعة بلا تقصير مخل ولا تطويل ممل