الزراعة وإحياء الموات
الزراعة وإحياء الموات
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهقال: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها»؛ رواه الإمام أحمد؛ والفسيلة: هي الواحدة من صغار النخل تغرس في الأرض لتنمو وتكبر، فتصير فيما بعد نخلًا ذات أكمام، وهذا الحديث يعتبر معجزة من معجزات الإسلام، فليست المعجزة ما كان خارقًا للعادات فحسب بل أيضًا ما كان خارقًا في التوجيهات، ونحن تجاه هذا الحديث أمام توجيه خارق، أمام حالة خارقة من حالات الأمر والتكليف، فما معنى أن تقوم الساعة التى تعلن انتهاء الحياة، ولا يصير للعمل جدوى لا سيَّما إذا تمثل في زرع نبتة أو غرس فسيلة تحتاج لزمان حتى ينتفع بها أو بثمارها، ثم نؤمر بألا نذهل في سكرات يوم القيامة وغمراتها عما بأيدينا من زرع وغرس؛ بل على الواحد منا أن يتم عمله ويغرس فسيلته كما لو كان موكب الحياة لا يزال يمضي هادرًا؟! فإن كان الناس يمارسون الزراعة، وقامت القيامة بغتة، فماذا ينتظر من الرسول أن يقول لهم؟ نحن نتصور أنه سيقول لهم: كفوا عما تعملون، وفروا إلى الله مستغفرين نادمين، فإذا أخلف الرسول الظنون، وقال: أتموا ما بأيديكم من زراعة، فذلك أعجب ما يقال في هذا المقام، وذلك أبلغ حث وأجل حض على القيام بأعمال الزراعة….[1] ومن الأحاديث التي تحث على القيام بالحرث والغرس والسقي- أي: أعمال الزراعة- قوله عليه الصلاة والسلام: «التمسوا الرزق في خبايا الأرض»؛ أخرجه الترمذي….[2]، ولم يكتفِ عليه الصلاة والسلام بهذه الأحاديث للحث على ممارسة الزراعة؛ بل مضى في اتجاه آخر أيضًا؛ حيث كان نهجه عند رغبته في توجيه المسلمين لعمل معين يبين لهم فضله وثوابه في الدنيا والآخرة، فيتسابقون إليه ويتنافسون فيه، لا يهنأ لهم بال، ولا يرتاح لهم جسد، ولا يغفل لهم جفن إلا باكتساب المزيد من الصدقات من جزاء هذا العمل؛ لذا فقد جاءت الأحاديث الشريفة تتناول فضل زراعة الأرض باعتباره من الصدقات التي ينال عليها العبد جزيل الثواب، روى الإمام أحمد أن صحابيًّا قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام بأذني هاتين يقول: «من نصب شجرة فصبر على حفظها والقيام عليها حتى تثمر كان له في كل شيء يصاب من ثمرها صدقة»….[3]، وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحيا أرضًا ميتة فله فيها أجر، وما أكلت العوافي- أي: السباع والطير والناس-منها فهو له صدقة»[4]، ولا يتبادر إلى الفهم من إطلاق لفظ الأجر إلا الأجر الأخروي، روى البخاري ومسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة». عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره: من علم علمًا، أو كرى نهرًا، أو وسع مجراه، أو حفر بئرًا، أو غرس نخلًا، أو بنى مسجدًا، أو ورث مصحفًا، أو ترك ولدًا يستغفر له بعد موته»؛ رواه البذار، وأبو نعيم والبيهقي. وقد كان المسلمون واسعي الاطلاع في علم النباتات، فقد أنشأوا الغابات والحدائق والبساتين، وأدخلوا من النباتات في تحضير الأدوية، ما جهله علماء اليونان في هذا المجال، ومن الأقوال المأثورة التى قالها المؤرخون عن المسلمين أنهم يهتمون عند فتح البلاد بشيئين هما: تنظيم الحقل، وبناء المسجد[5].
والزراعة من فروض الكفاية التي يجب على الإمام أن يجبر الناس عليها، وما كان في معناها، كما قال القرطبي، وإذا كانت الأرض ملكًا لمن لا يقدر على أن يقوم بأعمال الحرث والسقي كاملة، فقد شرع الإسلام نظام المزارعة؛ ومعنى المزارعة في اللغة؛ أي: المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها، ومعناها هنا: إعطاء الأرض لمن يزرعها على أن يكون له نصيب مما يخرج منها؛ كالنصف أو الثلث أو الأكثر من ذلك أو الأدنى حسب ما يتفقان عليه، والمزارعة نوع من التعاون بين العامل وصاحب الأرض، فربما يكون العامل ماهرًا في الزراعة وهو لا يملك أرضًا، وربما يكون مالك الأرض عاجزًا عن الزراعة؛ فشرعها الإسلام رفقًا بالطرفين، وقد عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل بها أصحابه من بعده، روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها، من زرع أو ثمر، والمزارعة الصحيحة هي إعطاء الأرض لمن يزرعها على أن يكون له نصيب مما يخرج منها؛ كالثلث والربع ونحو ذلك؛ أي: أن يكون نصيبه غير معين، فإذا كان نصيبه معينًا بأن يحدد مقدارًا معينًا مما تخرج الأرض، أو يحدد مقدارًا معينًا من مساحة الأرض تكون غلتها له، والباقي للعامل، أو يشتركان فيه، فإن المزارعة في هذه الحالة تكون فاسدة؛ لما فيها من الضرر، ولأنها تفضي إلى النزاع[6].
أما إذا كانت الأرض مزروعة فعلًا بالشجر، ولا يقدر مالكها أو صاحب الشجر أن يقوم برعايته فهناك نظام المساقاة، ومعنى المساقاة في الشرع؛ أي: دفع الشجر لمن يقوم بسقيه وبتعَهُّده، حتى يبلغ تمام نضجه، نظير جزء معلوم من ثمره، فهي شركة زراعية على استثمار الشجر، يكون الشجر فيها من جانب، والعمل في الشجر من جانب آخر، والثمرة الصالحة مشتركة بينهما، بنسبة يتفق عليها المتعاقدان؛ كالنصف أو الثلث ونحو ذلك، ويسمى العامل بالمساقي، والطرف الآخر برب الشجر، والشجر يطلق على كل ما غرس، ليبقى في الأرض سنة فأكثر، من كل ما ليس لقطعه مدة ونهاية معلومة، سواء أكان مثمرًا أم غير مثمر، وتكون المساقاة على غير المثمر نظير ما يأخذه المساقي من السعف والحطب ونحوها، والمساقاة مشروعة بالسنة، وقد اتفق الفقهاء على جوازها للحاجة إليها، ما عدا أبا حنيفة الذي رأى أنها لا تجوز، وقد استدل الجمهور من العلماء على جوازها بما يلي: روى البخاري أن الأنصار قالت للنبي عليه الصلاة والسلام: أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: «لا»، فقالوا: تكفونا المؤونة “المؤونة؛ أي: العمل في البساتين من سقيها والقيام عليها“، ونشرككم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا. فالأنصار أرادوا أن يشركوا معهم المهاجرين في النخيل، فعرضوا ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم، فأبى، فعرضوا أن يتولوا أمره، ولهم الشطر فأجابهم، وفي نيل الأوطار، قال الحازمي: روي عن علي بن أبى طالب رضي الله عنه، وعبدالله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، وعمر بن عبدالعزيز، وابن أبي ليلى، وابن شهاب الزُّهْري، ومن أهل الرأي أبو يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن، أنهم قالوا: تجوز المزارعة والمساقاة بجزء من الثمر أو الزرع، ويجوز العقد على المزارعة والمساقاة مجتمعين، فتساقيه على النخل، وتزارعه على الأرض، كما جرى في خيبر، ويجوز العقد على كل واحدة منها منفردة[7].
كما شرعت الإجارة لحاجة الناس إليها، فهم يحتاجون إلى الدواب للركوب، ويحتاجون إلى الأرض للزراعة، وإلى الآلات لاستعمالها في حوائجهم المعيشية، وقد لا يقدرون على شرائها؛ فشرعت الإجارة، روى أحمد وأبو داود والنسائي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: كنا نكري الأرض بما على السواقي من الزرع، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأمرنا أن نكريها بذهب أو وَرِق، ويشترط لصحة الإجارة رضا العاقدين، فلو أكره أحدهما على الإجارة فإنها لا تصح، ويشترط معرفة المعقود عليها معرفة تامة تمنع من المنازعة، وأن يكون المعقود عليه مقدور الاستيفاء حقيقة وشرعًا، والقدرة على تسليم العين المستأجرة مع اشتمالها على المنفعة، وأن تكون المنفعة مباحة لا محرمة ولا واجبة، وأن تكون الأجرة مالًا متقومًا معلومًا بالمشاهدة أو الوصف؛ لأنه ثمن المنفعة، ويصح استئجار الأرض، ويشترط بيان ما تستأجر له، من زرع أو غرس أو بناء، وإذا كانت للزراعة فلا بد من بيان ما يزرع فيها، إلا أن يأذن له المؤجر بأن يزرع فيها ما يشاء، والعين المستأجرة أمانة في يد المستأجر؛ لأنه قبضها ليستوفي منها منفعة يستحقها، فإذا هلكت لا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير في الحفظ[8]، هذا بالنسبة للأراضي التي يعرف لها مالك.
أما تلك التي لا تكون مملوكة لأحد، وتكون بعيدة عن العمران، لكيلا تكون مرفقًا من مرافقه؛ كأن تتخذ كطريق أو مرابض للحيوان، أو ملاعب للخيل، أو مستراضًا للرياضة البدنية ونحو ذلك، أو يتوقع أن تكون من مرافقه، فهذه الأرض يطلق عليها الأرض الموات[9]، وحيث إن الإسلام دعا إلى عمارة الأرض، وإصلاح فسادها، ونشر العمران في ربوعها، فوضع حافزًا قويًّا تشجيعًا للمسلمين على المضي في تعمير كل شبر من الأرض؛ ألا وهو امتلاك ما تستصلحه أيديهم من هذه الأرض الموات، وقد أجاز محمد بن الحسن والشافعي تملُّك الأرض التي تحيا إذا كانت لا ينتفع بها، وإن كانت قريبة من العمران[10]، عن هشام بن عروة عن عبيدالله بن عبدالرحمن بن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وما أكلت العافية منها فهي له صدقة»؛ رواه أحمد والنسائي وابن حبان[11]، وفي رواية أخرى: «من عمر أرضًا ليست لأحد فهو أحق بها»؛ رواه البخاري وأحمد، وعن أسمر بن مضرس قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فقال: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له»، قال: فخرج الناس يتعادون؛ “أي: يسرعون“ يتخاطون؛ “أي: يضعون على الأرض علامات بالخطوط“؛ رواه أبو داود، وخطب عمر رضي الله عنه على المنبر فقال: يأيها الناس، من أحيا أرضًا فهي له، أخرجه أبو عبيد في كتاب الأموال، وعن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عمر أرضًا ليست لأحد فهو أحق بها»، قال عروة: وقضى به عمر في خلافته»؛ رواه البخاري[12].
أما عن كيفية إحياء الموات؛ فيرى الحنابلة أن الإحياء للأرض يتحقق بما يتعارف عليه الناس، وهو رأي سديد يتفق مع القواعد الشرعية، خاصة وأن الحديث الوارد في الإحياء لم يربط الإحياء بفعل معين، فإرجاع ذلك إلى العرف أفضل؛ لأنه يختلف باختلاف الزمان والمكان، ويتحقق الإحياء بإزالة السبب المانع من الانتفاع بالأرض الموات، فإن كان السبب في مواتها فساد تربتها، فإحياؤها بحرثها وريِّها وإصلاحها، وإن كان السبب غمرها بالماء، فيكون أحياؤها بتجفيف المياه، وإنشاء وسائل صرف المياه عنها، وإقامة السدود حولها، وإن كان السبب في مواتها عدم وصول المياه إليها، فيكون إحياؤها بإيصال المياه إليها، وزراعتها أو البناء فيها، وإمداد الخدمات والمرافق لها، أو بأي وسيلة تجعلها صالحة للمعيشة والاستثمار[13].
ومن إحياء الموات أيضًا: إنشاء القرى، فمن وجد صحراء، فأنشأ فيها قرية عامرة، فإنه يعد قد أحياها؛ ولذلك قالوا: إذا أراد أن تكون الأرض الميتة قرية، فإحياؤها يكون بتسوية أرضها، وبناء جدار حولها، وتقسيمها بيوتًا ودورًا وحوانيت ونحو ذلك، وبذلك تعمر الصحاري ويتحول بقعها إلى عمران[14]، وعلى الحكومة الإسلامية تقديم الوسائل اللازمة لإتمام عملية الإحياء للمستصلحين، فقد خصص عمر بن عبدالعزيز عشرات الألوف من الدنانير تقدم للفلاحين ليستعينوا بها على إصلاح أراضيهم.
ومن وضع يده على أرض موات، ولم يقم بإعمارها خلال ثلاث سنوات، فإن قام غيره بإعمارها فهو أحق بها، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «ليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين»؛ والمحتجر: هو “من وضع علامة على أرض موات ليوحي أنها آلت إليه“، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من عطل أرضًا ثلاث سنين لم يعمرها، فجاء غيره فعمرها، فهي له[15]، وقد أجمع الفقهاء على أن الأرض الميتة لا تملك بمجرد تحجيرها؛ بل لا بد من إحيائها فعلًا، بفعل ما يؤدي إلى إحيائها، من بناء أو زرع أو حرث، واتفق الفقهاء على أنه يترك للمحتجر أجل ثلاث سنوات، فإذا أمضت ولم يقم بإحيائها، انتزعت منه، وأعطيت لغيره، وإذا تم إحياؤها فترة، ثم تركها بعد ذلك مواتًا، تنزع منه، قال الإمام مالك: إن ملكية الأرض تزول إذا زال الإحياء؛ لأن العلة في الملك هي الإحياء، وقد زال، وإن زال السبب بطل المسبب[16]، ولا يشترط في إحياء الموات إذن الإمام، وهو قول الجمهور، وعند أبي حنيفة لا بد من إذنه، ولا يجوز الإذن لكافر بالإحياء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «عاري الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم»، والخطاب للمسلمين؛ عاري الأرض “ما لا يملكه أحد“[17].ويجوز للحاكم العادل أن يقطع بعض الأفراد من الأرض الميتة والمعادن والمياه ما دامت هناك مصلحة، سواء بإعمار الأرض، أو تأليف الناس على الإسلام، وقد فعل ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام، كما فعله الخلفاء من بعده، أما إذا لم تكن هناك مصلحة من الإقطاع، كما يفعل الحكام الظالمون، من إعطاء بعض الأفراد محاباة له بغير حق فإنه لا يجوز[18]، ولكي يخرج كلامنا إلى واقع التطبيق العلمي، ونلمس فائدة توجيهات الإسلام وإرشاداته، وكيفية أن كل صغيرة وكبيرة منها تهدف إلى إسعاد الإنسان، وسعة رزقه، فلنعلم أن الصحاري تحتل من أرض الوطن العربي ما مساحته (600) مليون هكتار، وإذا علمنا أن المساحة الإجمالية للوطن العربي تبلغ (1394) مليون هكتار، فمعنى ذلك أن الصحراء تحتل منه (43%)؛ بينما الرقعة الصالحة للزراعة تقدر بـ (132) مليون هكتار؛ أي: (9.4%) من مساحته الإجمالية، بينما الرقعة المستغلة في الزراعة (53) مليون هكتار أي(3.8%) فقط من مساحته الإجمالية و(40.2%) من الرقعة الصالحة للزراعة على أقل تقدير[19]. وفي إحصاء آخر لمساحة الأراضي القابلة للزراعة، سواء المستغلة أو غير المستغلة وجد أنها (197) مليون هكتار[20]، وتشير الأرقام -وهي أصدق لغة- إلى أن هناك (60%) من الأراضي الصالحة للزراعة بالإضافة إلى مئات الملايين من الهكتارات أراض صحراوية لم يلجأ الإنسان إليها زارعًا أو مستصلحًا أو عامرًا؛ مما يدل دلالة قاطعة على أن هناك وفرة في عنصر الأرض، وهو أهم إحدى عناصر العملية الإنتاجية، ولكن تقاعس المسلمين وعدم اهتدائهم بشرع الله في إحياء الموات تحول دون استثمارها واستغلالها، ولو أخذ به ما كنا نجد تلك المساحات الشاسعة -التي أشرنا إليها- ينأى الإنسان بجهده عنها؛ بينما المدن تكتظُّ بالسكان، وبينما الأراضي المزروعة تعجز عن سد حاجاته الغذائية، ويجول بين الدول متسولًا لإشباع جوعه. وتتميز الدول الإسلامية بتنوع وتعدد أجوائها المناخية وبيئتها الطبيعية، مما يتيح لها فرصة زراعة العديد من المحاصيل النباتية، كما يمكن إنتاج ما يكفي حاجاته منها، فبالإمكان زيادة إنتاج المواد الغذائية في العالم أجمع خمس مرات على الأقل عما هو الآن من خلال توسيع مساحة الأراضي المزروعة؛ ومن ثم القضاء على ظاهرة الجوع المهددة لشعوب العالم الثالث بالفناء[21].
ولكن هل المياه تمثل عائقًا إمام استصلاح الأراضي؟ التوقعات العامة تدل على أنه توجد ثروة عربية مائية غير مستغلة، يمكن أن تشكل محور التنمية الاقتصادية في المستقبل؛ حيث إن المستغل حاليًّا من الموارد المائية يتجاوز بقليل 50 % من إجمالي صافي الموارد المتوفرة في العالم العربي؛ أي: نحو 175 مليار متر مكعب من 349 مليار متر مكعب. ولكن هناك عقبات أمام استخدام كل قطرة ماء: أولها سوء الاستخدام، والإسلام يحثنا على الاستخدام الأمثل للمورد الإنتاجي، فمهما كان هذا المورد ضئيلًا، فيما يعود من ورائه من منفعة، أو وفير لا ينضب، فلا ينبغي إلا استخدامه فيما ينفع ويفيد، وبالأسلوب الذي يحقق أعلى إنتاجية، ترشيدًا لوسائل الإنتاج، وإتقانًا للعمل، قال عليه الصلاة والسلام: «من قتل عصفورًا عبثًا عج إلى الله يوم القيامة يقول: يا رب، إن فلانًا قتلني عبثًا ولم يقتلني منفعة»، هذا في عصفور بسيط صغير فما بالك بمورد كالمياه مصدر الحياة على سطح الكرة الأرضية، قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾ [الأنبياء: 30]. وتعاني الزراعة العربية من مشكلة ضياع المياه وتغدق التربة بسبب الممارسات غير السليمة في الإرواء، ففي حين لا ينبغي أن تزيد كمية المياه اللازمة لري الهكتار الواحد على 7500 متر مكعب في السنة نجد أن معدل الاستهلاك المائي لري الهكتار الواحد في الوطن العربي قد بلغ ما مقداره 13000 متر مكعب في السنة[22]، بالإضافة إلى أن هناك كميات مياه تضيع هدرًا في البحر، بدون أي استخدام، فما زال البحر الأبيض المتوسط، يتلقى من مياه النيل كميات لم يحسن تنظيم استخدامها، وتركت لتهدر بلا عائد، وتقدر بحوالي 12 مليار متر مكعب[23]، وكذلك الوضع نفسه بالنسبة لمياه شط العرب “تلاقي نهري دجله والفرات“ تضيع هدرًا في البحر، كما يفقد حوالي 4.8% من المياه السطحية العربية بعملية التبخير دون فائدة[24]. ومن العقبات أيضًا أمام استخدام كل قطرة ماء، غياب الخلافة الإسلامية؛ فتركيا التي كانت يومًا ما مركز الخلافة الإسلامية باتت اليوم بعد أن تحولت للعلمانية تهدد كل من العراق وسوريا مائيًّا، فقد قامت الحكومة التركية بتحويل مجرى نهر الفرات لمدة شهر كامل في يناير عام 1990م من أجل تخزين المياه خلف سد أتاتورك الذي أنشئ حديثًا وهو ما تسبب في انقطاع المياه عن كل من سوريا والعراق طيلة تلك المدة، ولا شك أن ذلك يشكل سابقة خطيرة وأولى في نوعها قد تلجأ إليها العديد من الدول الأخرى خاصة دول المنابع التي تبدأ روافد الأنهار من أراضيها. كما أن إثيوبيا هي الأخرى والتي كانت يومًا ما المركز الثاني الذي انطلق منه الإسلام بعد مكة؛ حيث هاجر الصحابة الأولون إليها، وذلك في شهر رجب من العام الثامن قبل الهجرة، وكانت هذه الهجرة البعثة الإسلامية الأولى وقد أحسن النجاشي استقبالهم وأسلم سرًّا، إثيوبيا والتي ثلثا سكانها من المسلمين، لقد باتت هي الأخرى وبدافع من إسرائيل تهدد أمن مصر والسودان المائي؛ حيث إن 85 % من المياه المستخدمة في مصر تأتي عن طريق إثيوبيا عن طريق النهر الأزرق و15% فقط تأتي من دول النيل الأبيض في كينيا وأوغندا وتنزانيا ورواندا وبورندي وزائير. كما أن السودان الإسلامية أصبحت هي الأخرى سببًا في ضياع فرصة توفير مياه للزراعة في مصر، فمشروع قناة جونجلي في السودان تلك القناة التى من المقرر لها أن تكون بطول 250 كيلو مترًا وقد تم بالفعل تنفيذ ثلثي المشروع إلا أن أعمال الحفر قد توقفت منذ سنوات بسبب الحرب الأهلية في جنوب السودان، كان بإمكان مشروع قناة جونجلي في حالة اكتماله أن يوفر لمصر بليوني متر مكعب من المياه كل عام، وهو ما يعادل (5) ملايين متر مكعب من المياه كل يوم؛ وهذا يعني أن مصر فقدت إمكانية زراعة 360 ألف من الأفدنة كل عام، وأنها في السنوات الثلاث الماضية فقدت مصر إمكانية زراعة مليون فدان،كما لا يفوتنا أن نذكر أن ترك المسلمين فريضة الجهاد وخاصة جهاد اليهود فوَّت عليهم فرصة استغلال مياه أنهار تروي أراضي فلسطين والأردن ولبنان يستهلكها العدو الإسرائيلي ونشكو نحن الجفاف، حيث إن إسرائيل تتحكم حاليًّا في (2.3) مليار متر مكعب من الموارد المائية للوطن العربي[25]،فغياب الخلافة الإسلامية شتَّت من تجَمُّع الدول الإسلامية تحت راية واحدة وحكم واحد وخليفة واحد؛ بل وزَّع شتاتهم تحت رايات وعصبيات وقوميات متعددة ومتفارقة لا تمت للإسلام بصلة من قريب أو بعيد، فتفرقوا بعد وحدة، وتعادوا بعد ألفة، وتخاصموا بعد مودة، وأفرز كل هذا الواقع الأليم الذي نعيشه.
والإسلام يمنع من احتكار فرد أيًّا كان أو دولة للماء ومنعها عن جيرانها والمنتفعين بها، عن رجل من الصحابة قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعته يقول: «الناس شركاء في ثلاثة: الكلأ، والماء، والنار»؛ رواه أحمد، وأبو داود، ورجاله ثقات. وروى ابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «ثلاث لا يمنعن: الكلأ، والماء، والنار»، وإسناده صحيح. والحديث دليل على عدم اختصاص أحد من الناس بأحد من الثلاثة، والذي يهمنا في المقام هو الماء، فإنه يحرم منع المياه المجتمعة من الأمطار في أرض مباحة، وأنه ليس أحد أحق بها من أحد، إلا لقرب أرضه منها، ولو كان في أرض مملوكة، إلا أن صاحب الأرض المملوكة أحق بها، يسقيها ويسقي ماشيته، ويجب بذله لما فضل من ذلك، فلو كان في أرضه أو داره عين تابعة أو بئر احتفرها، فإنه لا يملك الماء، بل حقه فيه، تقديمه في الانتفاع به على غيره، وللغير دخول أرضه، فإن قيل: يجوز بيع العين والبئر نفسهما؟ قيل: يجوز بيع العين والبئر؛ لأن النهي وارد عن بيع فضل الماء لا البئر، والعيون في قرارهما فلا نهي عن بيعهما، والمشتري لهما أحق بمائهما بقدر كفايته، وقد ثبت شراء عثمان بن عفان، لبئر رومة من اليهودي، بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام، وسبلها للمسلمين[26]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ»، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم..منهم رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل»وفي فضل ساقي الماء، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يمشي فاشتدَّ عليه العطش فنزل بئرًا فشرب منها، ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش. فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خُفَّه ثم أمسكه بفيه، ثم رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له». قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: «في كل كبد رطبة أجر»[27].
هذه هي مبادئ الإسلام، تمنع من احتكار فرد للماء، وأخوه يموت هو وزرعه وحيواناته عطشًا؛ بل تصل إلى درجة التحريم وشن القتال، من أجل المياه أو الطعام، إذا منعوا عن فرد أوشك على الموت بسبب فقره إليهما، وهما عند غيره فيهما فضل “أي زيادة“، إذن فالمشكلة هي عدم تطبيقنا لشرع الله وسنة رسوله، وليس في نقص أرض أو قلة ماء. كما يجب الإشارة إلى أن هناك مياه جوفية لم تستخدم بعد، وأشارت إليها الدراسات والأبحاث العلمية، فقد أشار مركز الاستشعار عن بعد في جامعة بوسطن بالولايات المتحدة عن وجود مياه جوفية تكفي لزراعة 200 ألف فدان لمدة 200 سنة في منطقة شرق العوينات بالصحراء الغربية، وذلك وفقًا لما أكدته أحدث البحوث الجيولوجية بالمنطقة، كما توجد مياه جوفية أيضًا في وسط وجنوب سيناء، وكشفت دراسة أخرى عن وجود نهر قديم في الواحات البحرية كان يجري من الجنوب إلى الشرق ثم إلى الشمال ليصب في منخفض القطارة، وهو ما يعني احتمال وجود جزء من مياهه على شكل مياه جوفية، وكذلك احتمال وجود الماء بالصحراء الشرقية، وهناك كميات ضخمة من المخزون في الوادي الجديد والخارجة والداخلة والفرافرة، وهذه المياه غير مستخدمة[28]. هذا فضلًا عن إمكانية استخدام مياه الصرف ومياه البحر بعد تحليتها ومياه الآبار وتجميع مياه الأمطار باستخدام التكنولوجيا الحديثة.
[1] لقاء مع الرسول، خالد محمد خالد، ص197- 203.
[2] عوامل الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي، حمزة الجميعي الدموهي، ص 62.
[3] العمل في الإسلام د. عيسى عبده، وأحمد إسماعيل يحيى، ص 93.
[4] فتح الباري بشرح صحيح البخاري للإمام الحافظ أحمد بن على بن حجر العسقلاني، ج5، ص24.
[5] مجلة صوت العرب، العدد (5)، السنة 17، مايو 1999.
[6] فقه السنة، السيد سابق، ج3، ص161-166.
[7] فقه السنة، السيد سابق، ج3، ص343-345.
[8] فقه السنة، السيد سابق، ج3، ص177-201.
[9] التكافل الاجتماعي في الإسلام، محمد أبو زهرة، ص41-42.
[10] الشريعة الإسلامية، بدران أبو العينين بدران، ص322-323.
[11] الإطار الأخلاقي لمالية المسلم، قطب إبراهيم محمد، ص98.
[12] سبل السلام، محمد بن إسماعيل الكحلاني ثم الصنعاني، ج3، ص 82.
[13] الشريعة الإسلامية، بدران أبو العينين بدران، ص322-323.
[14] التكافل الاجتماعي في الإسلام، محمد أبو زهرة، ص45.
[15] لا للفقر في ظل الإسلام، أحمد سعيد، ص91-92.
[16] التكافل الاجتماعي في الإسلام، محمد أبو زهرة، ص44.
[17] سبل السلام، محمد بن إسماعيل الكحلاني ثم الصنعاني، ج3، ص 82.
[18] فقه السنة، السيد سابق، ج3، ص172.
[19] مجلة الوحدة، العدد 76، السنة 7، يناير عام 1991م، ومجلة الأهرام الاقتصادي، العدد 1126 بتاريخ 12 أغسطس، عام 1990م.
[20] مجلة شئون عربية، العدد 62 يونيو 1990م، ذو القعدة 1411هـ، مجلة الأهرام الاقتصادي، العدد 1114، الاثنين 20 مايو 1990م.
[21] مجلة دنيا العرب، العدد 68، السنة الـ17، أغسطس 1990م، محرم 1411هـ.
[23] جريدة الشرق الأوسط، العدد 4227، الاثنين 25/6/1990م.
[24] مجلة الوحدة، العدد 76، السنة 7 يناير 1991م، ص 29.
[25] مجلة السياسة الدولية، العدد 104، إبريل 1991 م.
[26] سبل السلام، محمد بن إسماعيل الكحلاني ثم الصنعاني، ج3، ص86-87.
[27] فتح الباري بشرح صحيح البخاري للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ج5، ص39 –50.
[28] جريدة الحقيقة، السبت، 15 /6 /1991م.