السنة النبوية وحي (خطبة)


السنة النبوية وحي

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:

فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

اللَّهُمَّ صَلِّ علَى مُحَمَّدٍ وعلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كما صَلَّيْتَ علَى إبْرَاهِيمَ وعلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ علَى مُحَمَّدٍ وعلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كما بَارَكْتَ علَى إبْرَاهِيمَ وعلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

 

يقول الله جل جلاله في محكم التنزيل: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 115، 116].

 

هؤلاء المؤمنون المذكورون في الآية الكريمة، هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين قال الله جل جلاله عنهم: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100].

 

وأخرج الترمذي في “جامعه” من حديث عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليأتينَّ على أُمَّتي ما أتى على بني إسرائيل حَذْوَ النَّعلِ بالنَّعلِ ، حتَّى إن كانَ مِنهم من أتى أُمَّهُ علانيَةً لَكانَ في أمَّتي من يصنعُ ذلِكَ، وإنَّ بَني إسرائيل تفرَّقت على ثِنتينِ وسبعينَ ملَّةً، وتفترقُ أُمَّتي على ثلاثٍ وسبعينَ ملَّةً ، كلُّهم في النَّارِ إلَّا ملَّةً واحِدةً، قالوا: مَن هيَ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ما أَنا علَيهِ وأَصحابي)).

 

فيا ترى ما هي سمات هذه الفرقة الناجية؟ وما هي خصال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين مَدَحَهم الله جل جلاله في القرآن الكريم حتى نكون عليه- إن شاء الله- في الدنيا فنكون معهم- إن شاء الله – في الآخرة؟ إن أردنا التعرف على بعضٍ من هذه الخصال، فلنتأمَّل معًا ما أخرج البخاري في “صحيحه” في حديث صلح الحديبية وهو حديث طويل من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم إلى أن قالا: ((ثُمَّ إنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أصْحَابَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعَيْنَيْهِ، قالَ: فَوَاللَّهِ ما تَنَخَّمَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نُخَامَةً إلَّا وقَعَتْ في كَفِّ رَجُلٍ منهمْ، فَدَلَكَ بهَا وجْهَهُ وجِلْدَهُ، وإذَا أمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أمْرَهُ، وإذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ علَى وَضُوئِهِ، وإذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وما يُحِدُّونَ إلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا له، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إلى أصْحَابِهِ، فَقالَ: أيْ قَوْم، واللَّهِ لقَدْ وفَدْتُ علَى المُلُوكِ، ووَفَدْتُ علَى قَيْصَرَ، وكِسْرَى، والنَّجَاشِيِّ، واللَّهِ إنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أصْحَابُهُ ما يُعَظِّمُ أصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُحَمَّدًا، واللَّهِ إنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إلَّا وقَعَتْ في كَفِّ رَجُلٍ منهمْ، فَدَلَكَ بهَا وجْهَهُ وجِلْدَهُ، وإذَا أمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أمْرَهُ، وإذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ علَى وَضُوئِهِ، وإذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وما يُحِدُّونَ إلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا له، وإنَّه قدْ عَرَضَ علَيْكُم خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا)).

 

هكذا كان ينظر أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركون إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا منهم ذلك الحب وذلك الاتباع والاستمساك، وعلموا يقينًا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفدونه ويفدون دينه وسنته بأرواحهم وبالغالي والنفيس، تيقن المشركون أن لا منفذ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى سنته وشريعته، وبمقارنة سريعة مع حال عموم المسلمين اليوم إلا من رحم الله جل جلاله نجد الفرق واضحًا جليًّا بين ما كان عليه استمساك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين حال غالب الأمة اليوم، نجد هذا واضحًا عندما تتحدث مع كثير من المسلمين فتبلغه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتجد السؤال الذي يوشك أن يصبح ثابتًا (هل ما تقوله سنة أم فرض؟) فإذا كان الجواب سنة، فكأنك لم تقل شيئًا! سبحان الله! وكأن السنة جُعلت لتُتْرك، ولم يكن هذا حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألم يقل الله جل جلاله في كتابه العزيز: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ [النساء: 80].

 

وقال جل جلاله: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 31، 32].

 

هذه الآية الكريمة التي سمَّاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم آية المحنة، أخرج الطبري في “تفسيره” عند هذه الآية أنها أُنزِلت في قومٍ قالوا على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا نُحِبُّ رَبَّنَا. فَأَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وعزَّ نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقولَ لهم: إن كُنتم صادِقين فيما تَقولون فاتَّبعوني، فإنَّ ذلك علامةُ صِدْقِكم فيما قُلْتُم مِن ذلك.

 

فَقَرَن الله جل جلاله طاعته بطاعة رسوله، وتأمل كيف ختم الله عز وجل الآية بقوله: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 32]، وما في ذلك من الوعيد الشديد، والله المستعان.

 

أخرج البخاري في “صحيحه” عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى)).

 

فتجد أقوامًا من جلدتنا يلبسون ثياب المسلمين، ويتحدثون بلسان يشبه لسانهم، لكن يأبى الله جل جلاله إلا أن يفضحهم، قال الله جل جلاله فيهم: ﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 30].

 

يريدون أن يلبسوا على المسلمين دينهم ولا حول ولا قوة إلا بالله، بتهوين السنة في قلوب المسلمين، مع أن السنة النبوية وحي كالقرآن، أنزلها الله جل جلاله على نبيه صلى الله عليه وسلم كما أنزل عليه القرآن، وحفظها كما حفظ القرآن، وجعلها حجة على العباد تمامًا كالقرآن، وليس معنى أن السنة ليست معجزة في لفظها كالقرآن أو أنه ليس متعبدًا بتلاوتها أنها ليست وحيًا، فإن الوحي منه ما هو متحدًى بإعجاز لفظه، متعبد بتلاوته وهو القرآن الكريم، ومنه ما هو غير معجز بلفظه ولا متعبد بتلاوته كالسنة النبوية.

 

تأمل معي هذه الأدلة من القرآن والسنة على أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي كالقرآن الكريم، ولسنا هنا في مقام الاستقصاء، فمع الأسف لا يتسع المقام لذلك، إنما هي ذكرى على عُجالة ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37].

 

يقول الله جل جلاله في محكم التنزيل: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ ﴾ [الأنبياء: 45].

 

أخرج البخاري في “صحيحه” عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا، فَقَالَ: رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، فَالنَّجَا النَّجَاءَ، فَأَطَاعَتْهُ طَائِفَةٌ فَأَدْلَجُوا عَلَى مَهْلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْهُ طَائِفَةٌ فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَاجْتَاحَهُمْ)). فكل ما أنذر به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من الوحي، يشمل ذلك القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

وأخرج البخاري في “صحيحه” عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((مَا ‌مِنَ ‌الْأَنْبِيَاءِ ‌نَبِيٌّ ‌إِلَّا ‌أُعْطِيَ ‌مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ أُومِنَ، أَوْ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

 

فيا ترى ما هو هذا الوحي الذي أوتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

أخرج أحمد في “مسنده” عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، ‌أَلَا ‌إِنِّي ‌أُوتِيتُ ‌الْقُرْآنَ ‌وَمِثْلَهُ ‌مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِي شَبْعَانًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ))؛ الحديث.

 

فالوحي هو الكتاب ومثله معه، فيا ترى ما هو هذا الذي أوتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الكتاب سوى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

 

أخرج البزار في “مسنده” عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا النَّاسَ، فَقَالَ: «هَلُمُّوا إِلَيَّ»، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ فَجَلَسُوا فَقَالَ: «هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‌جِبْرِيلُ ‌نَفَثَ ‌فِي ‌رَوْعِي أَنَّهُ لَا تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، وَإِنْ أَبْطَأَ عَلَيْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَأْخُذُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ»، وأخرجه عبدالرزاق عن معمر من طريق آخر.

قال الإمام الشافعي: وقد قيل: ما لم يتْل قرآنًا، إنما ألقاه جبريل في رُوعه صلى الله عليه وسلم بأمر الله، فكان وحيًا إليه.

 

 

قال الله جل جلاله: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36].

 

وقال جل جلاله: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]، يقول العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين: أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحكِّموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل، ولم يكتفِ في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق من قضائه وحكمه، ولم يكتفِ منهم أيضًا بذلك حتى يسلِّموا تسليمًا، وينقادوا انقيادًا.

 

قال الإمام الشافعي رحمه الله في الرسالة: هذه الآية يعني قوله تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ﴾ هذه الآية نزلت فيما بلغنا -والله أعلم- في رجلٍ خاصم الزبير في أرضٍ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بها للزبير، وهذا القضاء سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حكم منصوص في القرآن، والقرآن يدل والله أعلم على ما وصفت؛ لأنه لو كان قضاء بالقرآن لكان حكمًا منصوصًا في كتاب الله، وأشبه أن يكونوا إذا لم يسلموا لحكم كتاب الله نصًّا غير مشكل، الأمر أنهم ليسوا بمؤمنين إذ ردوا حكم التنزيل فلم يسلموا.

 

يقول الشاطبي في الموافقات في قوله تعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ﴾ [المائدة: 92]، قال: وسائرُ ما قرن الله فيه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بطاعته فهو دالٌّ على أن طاعة الله ما أمر به ونهى عنه في كتابه، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمر به ونهى عنه مما جاء به مما ليس في القرآن؛ إذ لو كان في القرآن لكان من طاعة الله.

 

وقال الله جل جلاله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴾ [النساء: 105].

 

وقال الشافعي رحمه الله تعالى – في تعليقه على حديث اللعان فيما نَقل عمَّن سبقه -: فأَمْرُ الله تعالى إياه وجهان:

أحدهما: وحْيٌ ينزل، فيُتلى على الناس، والثاني: رسالةٌ تأتيه عن الله تعالى، بأن افعل كذا فيفعله.

 

وللعلم فلا يشترط للنبوة الكتاب؛ وإنما يشترط لها الوحي، فمن المجمع عليه أن الكتب والصحف إنما نزلت على بعض الأنبياء والرسل عليهم السلام، أما أغلب الأنبياء والرسل عليهم السلام فليس عندهم كتب ولا صحف، إنما ينزل عليهم الوحي بما يريده الله جل جلاله ولو كان يُشترط وجودُ الكتاب لصحة النبوة أو الرسالةِ لأُلغِيت نبوةُ كثيرين ورسالتهم من الرسل والأنبياء عليهم السلام؛ لعدم وجود ذلك عندهم.

 

قال الله جل جلاله: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 163، 164].

 

وقال الله جل جلاله عن سيد البشر صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110].

 

وتأمل قول الله جل جلاله في محكم التنزيل: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 1 – 4].

 

قال الإمامُ ابنُ حزم الظاهريُّ: لما بيَّنَّا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع؛ نظرنا فيه فوجدنا فيه إيجابَ طاعة ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم (ووجدناه جل جلاله يقول فيه واصفًا لرسوله صلى الله عليه وسلم ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ فصح لنا أن الوحْيَ ينقسم من الله جل جلاله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى قسمين: أحدهما: وحْيٌ متلُوٌّ، مؤَلَّفٌ تأليفًا، معجزُ النظام، وهو القرآن، والثاني: وحيٌ مرويٌّ، منقولٌ غيرُ مؤلَّفٍ، ولا معجز النظام، ولا متلُوٍّ، لكنه مقروء، وهو الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المبيِّنُ عن الله عز وجل مرادَه منا، قال الله تعالى: ﴿ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [النحل: 44].

 

فقوله جل جلاله ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴾ لفظة عامة؛ تشمل جميع ما يلفظه صلى الله عليه وسلم؛ لأنها سياق النفي، وقوله: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ حصر ذلك بالوحي؛ لأن معناه- والعلم عند الله تعالى – ما هو إلا وحي يوحى إليه.

 

وإذا كان كلُّ ما يقولُه صلى الله عليه وسلم: إنما هو وحيٌ يُوحى إليه به، دل على أن السنة النبوية هي وحي. والله تعالى أعلم.

 

أما في ذكر “الحكمة ” في القرآن الكريم، فإنك تجد الأدلة دامغة على أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي من الله جل جلاله: ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 18].

 

قال الله جل جلاله: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129] في أربع آيات كريمات، تكرَّرَ فيها عطفُ الحكمة على الكتاب، فالحكمة المعطوفة على الكتاب – هي السنة النبوية – وهي وحي منزل من عند الله تعالى بدلالة الآيات التاليات.

 

قال الله جل جلاله: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِه ﴾ [البقرة: 231].

 

وقال الله جل جلاله: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113].

 

وقال الله جل جلاله: ﴿ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ﴾ [الإسراء: 39].

 

ولا يصح أن يقال: إن «الحكمة» هنا هي «الكتاب» بدلالة قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 34].

 

قال الإمام الشافعي رحمه الله: ذَكَر الله الكتابَ – وهو القرآن – وذكر الحكمةَ، فسمعتُ مَن أرضى مِن أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمةُ سنةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يشبه ما قال، والله تعالى أعلم.

 

لأن القرآن ذُكِر، وأُتبعته الحكمةُ، وذَكَر الله مَنَّه على خَلْقه: بتعليمهم الكتابَ والحكمةَ، فلم يَجُز – والله أعلم – أن يُقال الحكمة ههنا: إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

وقد تكفَّل الله جل جلاله ببيان القرآن الكريم، وحفظ البيان لازم حفظ القرآن.

 

قال الله جل جلاله: ﴿ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [سورة القيامة: 16 – 19].

 

وقال الله جل جلاله: ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [النحل: 64].

 

وقال الله جل جلاله: ﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾ [الأنعام: 50].

وقال الله جل جلاله: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي ﴾ [الأعراف: 203].

 

وهذا البيان هو الذي قال الله جل جلاله عنه: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44].

 

وهذا الذكر قال الله جل جلاله فيه: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].

 

فكان من تمام حفظ القرآن الكريم أن تحفظ السنة النبوية معه، فهي أولًا من جملة الذكر الذي تكَفَّل الله جل جلاله بحفظه، وهي بيان القرآن الكريم، الذي لا يكمل حفظه إلا بحفظ بيانه.

 

أما الأدلة من السنة النبوية على أن السنة وحي من الله جل جلاله كثيرة جدًّا نذكر منها- إن شاء الله – على سبيل الاختصار، منها ما جاء في ألفاظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التصريح بلفظ “أوحي إلي” منه ما أخرجه البخاري في “صحيحه” عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في حديث خسوف الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((‌وَإِنَّهُ ‌قَدْ ‌أُوحِيَ ‌إِلَيَّ ‌أَنَّكُمْ ‌تُفْتَنُونَ ‌فِي ‌الْقُبُورِ مِثْلَ أَوْ قَرِيبَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ…))؛ الحديث.

 

ومنه ما رواه مسلم عن عياض بن حِمارٍ رضي الله عنه أنه قال: قام فينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطيبًا، إلى أن قال: ((وإن الله أَوْحى إليَّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يَبْغي أحدٌ على أحد))؛ الحديث.

 

وأخرج البخاري في “صحيحه” عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((ما غرتُ على امرأةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما غرتُ على خديجةَ؛ لكثرة ذِكرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إياها، وثنائِه عليها، وقد أُوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبشِّرها ببيت لها في الجنة، من قَصَب)).

 

وأما الأحاديث التي ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسأل عن المسألة فلا يجيب حتى ينزل إليه الوحي بالجواب، فأكثر من أن نحصيها هنا، أفرد بعضها البخاري في “صحيحه” في كتاب “الاعتصام بالسنة” بَابُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُسْأَلُ مِمَّا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، أَوْ لَمْ يُجِبْ، حَتَّى يُنْزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَلَمْ يَقُلْ بِرَأْيٍ وَلَا بِقِيَاسٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ بِمَا أَرَاكَ اللهُ ﴾ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرُّوحِ فَسَكَتَ حَتَّى نَزَلَتْ.

 

ومنها ما أخرجه البخاري في “صحيحه” أَنَّ يَعْلَى بن أمية قَالَ لِعُمَرَ رضي الله عنه: أَرِنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ يُوحَى إِلَيْهِ قَالَ: فَبَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْجِعْرَانَةِ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَهُوَ ‌مُتَضَمِّخٌ ‌بِطِيبٍ، فَسَكَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاعَةً، فَجَاءَهُ الْوَحْيُ فَأَشَارَ عُمَرُ رضي الله عنه إِلَى يَعْلَى، فَجَاءَ يَعْلَى وَعَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ، فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُحْمَرُّ الْوَجْهِ وَهوَ يَغِطُّ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ: أَيْنَ الَّذِي سَأَلَ عَنِ الْعُمْرَةِ، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ فَقَالَ: اغْسِلِ الطِّيبَ الَّذِي بِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَانْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ» قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَرَادَ الْإِنْقَاءَ حِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَغْسِلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَ: نَعَمْ.

 

وأخرج البخاري في “صحيحه” عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ((خَرَجَتْ سَوْدَةُ بَعْدَمَا ضُرِبَ الْحِجَابُ لِحَاجَتِهَا، وَكَانَتِ امْرَأَةً جَسِيمَةً، لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُهَا، فَرَآهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: يَا سَوْدَةُ، أَمَا وَاللهِ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا، فَانْظُرِي كَيْفَ تَخْرُجِينَ، قَالَتْ: فَانْكَفَأَتْ رَاجِعَةً، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي، وَإِنَّهُ لَيَتَعَشَّى وَفِي يَدِهِ عَرْقٌ، فَدَخَلَتْ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي خَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي، فَقَالَ لِي عُمَرُ كَذَا وَكَذَا، قَالَتْ: فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ رُفِعَ عَنْهُ، وَإِنَّ الْعَرْقَ فِي يَدِهِ مَا وَضَعَهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَاجَتِكُنَّ)).

 

وأخرج البخاري في “صحيحه” عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه، يُحَدِّثُ: ((أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فَقَالَ: إِنِّي مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي ‌مَا ‌يُفْتَحُ ‌عَلَيْكُمْ ‌مِنْ ‌زَهْرَةِ ‌الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ، تُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يُكَلِّمُكَ؟ فَرَأَيْنَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَمَسَحَ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ، فَقَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ…))؛ الحديث، وفي رواية أخرى عند البخاري في “صحيحه” ((فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قُلْنَا: يُوحَى إِلَيْهِ وَسَكَتَ النَّاسُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرَ)).

 

وأخرج البخاري في “صحيحه” عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: ((كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَرْثٍ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَسْأَلُوهُ، لَا يُسْمِعُكُمْ مَا تَكْرَهُونَ، فَقَامُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، حَدِّثْنَا عَنِ الرُّوحِ، فَقَامَ سَاعَةً يَنْظُرُ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَتَأَخَّرْتُ عَنْهُ حَتَّى صَعِدَ الْوَحْيُ، ثُمَّ قَالَ: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ [الإسراء: 85])).

 

وأخرج البخاري في “صحيحه” عن جَابِر بْن عَبْدِاللهِ يَقُولُ: «مَرِضْتُ، فَجَاءَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي، وَأَبُو بَكْرٍ، وَهُمَا مَاشِيَانِ، فَأَتَانِي وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ فَأَفَقْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: فَقُلْتُ: أَيْ رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي، كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي؟ قَالَ: فَمَا أَجَابَنِي بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ)).

 

وكل ما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ الأمر فهو يقينًا من الوحي، فمن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى الله جل جلاله.

 

أخرج البخاري في “صحيحه” عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((‌أُمِرْتُ ‌أَنْ ‌أُقَاتِلَ ‌النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ)).

 

وأخرج البخاري في “صحيحه” عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((‌أُمِرْتُ ‌أَنْ ‌أَسْجُدَ ‌عَلَى سَبْعَةٍ، لَا أَكُفُّ شَعَرًا وَلَا ثَوْبًا)).

 

وأخرج مسلم في “صحيحه” عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: ((كُنَّا مَعَ عُمَرَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَتَرَاءَيْنَا الْهِلَالَ، وَكُنْتُ رَجُلًا حَدِيدَ الْبَصَرِ، فَرَأَيْتُهُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَآهُ غَيْرِي. قَالَ: فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِعُمَرَ: أَمَا تَرَاهُ؟ فَجَعَلَ لَا يَرَاهُ، قَالَ: يَقُولُ عُمَرُ: سَأَرَاهُ وَأَنَا مُسْتَلْقٍ عَلَى فِرَاشِي. ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا عَنْ أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ‌كَانَ ‌يُرِينَا ‌مَصَارِعَ ‌أَهْلِ ‌بَدْرٍ ‌بِالْأَمْسِ يَقُولُ: هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ. قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا أَخْطَئُوا الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَجُعِلُوا فِي بِئْرٍ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ فَقَالَ: يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي اللهُ حَقًّا. قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تُكَلِّمُ أَجْسَادًا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيَّ شَيْئًا)).

 

وكذلك كل ما جاء بلفظ النهي، ومنه أخرج مسلم في “صحيحه” عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ((كَشَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم السِّتَارَةَ – وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ – فَقَالَ: ‌أَيُّهَا ‌النَّاسُ، ‌إِنَّهُ ‌لَمْ ‌يَبْقَ ‌مِنْ ‌مُبَشِّرَاتِ ‌النُّبُوَّةِ ‌إِلَّا ‌الرُّؤْيَا ‌الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ، أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عز وجل، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ)).

 

وكذلك كل ما جاء بلفظ التخيير، ومنه ما أخرج البخاري في “صحيحه” عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا. فَعَجِبْنَا لَهُ، وَقَالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ، يُخْبِرُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ‌عَبْدٍ ‌خَيَّرَهُ ‌اللهُ ‌بَيْنَ ‌أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُخَيَّرَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمَنَا بِهِ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، إِلَّا خُلَّةَ الْإِسْلَامِ، لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ)).

 

أما الأدلة من دلائل النبوة فمنه ما أخرج البخاري في “صحيحه” عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَامَ فِينَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَقَامًا فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ ‌حَتَّى ‌دَخَلَ ‌أَهْلُ ‌الْجَنَّةِ ‌مَنَازِلَهُمْ ‌وَأَهْلُ ‌النَّارِ ‌مَنَازِلَهُمْ، حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ.

 

ومنها كذلك إخباره صلى الله عليه وسلم بالغيوب الماضية، وأما الأدلة من الإعجاز العلمي في السنة النبوية فلا نستفيض فيها، ونكتفي بثلاثة أحاديث فيها من الإعجاز العلمي ما ثبت بالبرهان اليقين وما يكفي لدحض شبه الملحدين وأذنابهم إن كانوا حقًّا يبحثون عن الحق المبين، وإن كنا في الأساس لا نعبأ بكلامهم ونؤمن يقينًا بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء وصل إلى ذلك العلم أم لا، وما هذه الأخيرة إلا استئناسًا لا أكثر.

 

خلق الإنسان:

منها الحديث الشهير في خلق الإنسان، وتأمل قول ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق، الصادق فيما يخبر، والمصدوق فيما يخبره به ربه جل جلاله. أخرج البخاري في “صحيحه” عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((حَدَّثَنَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو الصَّادِقُ المَصْدُوقُ، إنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ في بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يَكونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إلَيْهِ مَلَكًا بأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فيُكْتَبُ عَمَلُهُ، وأَجَلُهُ، ورِزْقُهُ، وشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فيه الرُّوحُ، فإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ النَّارِ، حتَّى ما يَكونُ بيْنَهُ وبيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عليه الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ، حتَّى ما يَكونُ بيْنَهُ وبيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عليه الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ)).

 

أما عن جسم الإنسان وأن فيه ثلاثمائة وستين مفصلًا، أخرج مسلم في “صحيحه” عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنه خُلق كلُّ إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مَفصِلٍ،…))؛ الحديث.

 

ومنه حديث الذباب المشهور الذي أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله، ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه شفاء، وفي الآخر داء)).

 

أقول ما تسمعون وإني أستغفر الله جل جلاله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه إنه غفور رحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله جل جلاله عنه في محكم التنزيل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

 

اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على النبي الحبيب محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

لمَّا كانت السنة النبوية وَحْيًا من الله جل جلاله ولمَّا كان الله جل جلاله قد تكَفَّل بحفظها، فكان من تمام حفظها حفظ الصدور، وحفظ الكتب؛ أما حفظ الصدور فتأمل معي قول الله جل جلاله: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 48، 49] فهذه أمة عظيمة عُرفت طيلة تاريخها بحفظ الصدور الذي تمتاز به، وما نقل معلقات الشعر العربي ودواوينه منا ببعيد، وكذلك نقل السنة النبوية، وتأمل معي حال ديار المسلمين حتى وقت قريب، حيث انتشار الكتاتيب في كل مكان قبل انتشار المدارس، فقد كان الأصل الأصيل هو التلقي الشفهي المباشر الذي هو أعلى درجات التحمل، التي يقول فيها الطالب عن شيخه “حدثنا” و”أخبرنا”، أما ما يشيعه المبطلون من أن الكتب هي أعلى درجات التحمل عن الشيوخ فهذا غير صحيح، بل إن كثيرًا من أهل العلم يضعفون الرواية بالوِجادة، وهي أن يجد التلميذ كتاب شيخه فيرويه عنه دون أن يسمعه منه، وكثيرًا ما تقرأ في كتب العِلَل “لم يسمع فلان من فلان، إنما هي صحيفة وجدها” فتأمل كيف يريد المرجفون استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.

 

أما عن الكتابة، فاعلم- رحمني الله وإياك – أن تدوين السُّنَّة بدأ في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فيما ورد مرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أورد فيه روايات كثيرة صحيحة منها:

أخرج البخاري في “صحيحه” عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه كان يَقُولُ: ((مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ‌أَحَدٌ ‌أَكْثَرَ ‌حَدِيثًا ‌عَنْهُ ‌مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ)).

 

وأخرج البخاري في “صحيحه” عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث طويل في الخطبة في فتح مكة إلى أن قال رضي الله عنه: ((فَقَامَ أَبُو شَاهٍ، رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ‌اكْتُبُوا ‌لِأَبِي ‌شَاهٍ)).

 

وأخرج البخاري في “صحيحه” عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: ((لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ قَالَ: ‌ائْتُونِي ‌بِكِتَابٍ ‌أَكْتُبْ ‌لَكُمْ ‌كِتَابًا ‌لَا ‌تَضِلُّوا ‌بَعْدَهُ))؛ الحديث.

 

وأخرج ابن أبي شيبة في “مصنفه” وأحمد في “مسنده” واللفظ له عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: ‌كُنْتُ ‌أَكْتُبُ ‌كُلَّ ‌شَيْءٍ ‌أَسْمَعُهُ ‌مِنْ ‌رَسُولِ ‌اللهِ صلى الله عليه وسلم أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: تَكْتُبُ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا؟ فَأَمْسَكْتُ، حَتَّى ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: ((اكْتُبْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا خَرَجَ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ)).

 

وأخرج البخاري في “صحيحه” عن أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: ((سَأَلْنَا عَلِيًّا: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْوَحْيِ شَيْءٌ إِلَّا مَا فِي كِتَابِ اللهِ عز وجل؟ قَالَ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللهُ عز وجل الرَّجُلَ فِي كِتَابِ اللهِ جل جلاله أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا فِيهَا؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ الْأَسِيرِ، وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِمُشْرِكٍ))، وتأمل أنهم كانوا يسمون القرآن والسنة التي منها جزء مكتوب مدوَّن في صحيفة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وَحْيًا.

 

وأخرج البخاري في “صحيحه” عن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيِّ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: «خَطَبَنَا عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ آجُرٍّ، وَعَلَيْهِ سَيْفٌ فِيهِ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا عِنْدَنَا مِنْ كِتَابٍ يُقْرَأُ إِلَّا كِتَابُ اللهِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا أَسْنَانُ الْإِبِلِ، وَإِذَا فِيهَا الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ عَيْرٍ إِلَى كَذَا، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا. وَإِذَا فِيهِ: ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا. وَإِذَا فِيهَا: مَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا».

 

وأخرج أبو داود في “سننه” والترمذي في “جامعه” عن زَيْد بْن ثَابِتٍ رضي الله عنه قال: ((أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَتَعَلَّمْتُ لَهُ كِتَابَ يَهُودَ، وَقَالَ: ‌إِنِّي ‌وَاللهِ ‌مَا ‌آمَنُ ‌يَهُودَ ‌عَلَى ‌كِتَابِي فَتَعَلَّمْتُهُ فَلَمْ يَمُرَّ بِي إِلَّا نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى حَذَقْتُهُ، فَكُنْتُ أَكْتُبُ لَهُ إِذَا كَتَبَ، وَأَقْرَأُ لَهُ إِذَا كُتِبَ إِلَيْهِ)).

 

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب إلى الملوك والأمراء، وكان يكتب الاتفاقيات، وعنده كَتَبةٌ للوحي من الصحابة رضي الله عنهم وليس المقام مقام الحصر.

 

أما عن مدخل جنود إبليس وأعوانه إلى التشكيك في تدوين السنة فقد جاء من عدة أمور، أولها الخلط بين الكتابة والتدوين والتصنيف، فكتابة السنة النبوية ثابتة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والتدوين بمعناه الواسع- وهو الجمع؛ أي: تقييد المتفرق المشتت، وجمعه في ديوان أو كتاب – قد بدأ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما التصنيف الذي هو ترتيب ما دُوِّنَ في فصول محدودة وأبواب مميزة مثل ما تم في دواوين السنة التي على الأبواب الفقهية فلم تظهر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وظهرت بعد ذلك، وهذا أمر طبيعي في تطوُّر نقل العلوم.

 

وأما عن النهي عن كتابة السُّنَّة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فقد صحَّ حديث أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه موقوفًا عليه ولكن كما ذكرنا في الأحاديث السابقة أن الأمر استقر في حياته صلى الله عليه وسلم على إباحة الكتابة، بل وأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم صراحة كما في حديث أبي شاه وغيره.

 

وللصحابة رضي الله عنهم جهود فائقة في تدوين السُّنَّة المطهَّرة ونقلها إلى الأمَّة، منها على سبيل المثال لا الحصر أنهم كانوا يكتبون السُّنَّة بعضهم إلى بعض، ومن أمثلة ذلك:

كتب أسيد بن حضير الأنصاري رضي الله عنه بعض الأحاديث النبوية، وقضاء أبي بكر وعمر وعثمان، وأرسله إلى مروان بن الحكم.

 

وكتب جابر بن سمرة رضي الله عنه بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث بها إلى عامر بن سعد بن أبي وقَّاص بناء على طلبه ذلك منه.

وكتب زيد بن أرقم رضي الله عنه بعض الأحاديث النبوية وأرسل بها إلى أنس بن مالك رضي الله عنه.

 

وكتب زيد بن ثابت في أمر الجَدِّ إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك بناء على طلب عمر نفسه.

 

وجمع سمرة بن جندب رضي الله عنه ما عنده من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث به إلى ابنه سليمان، وقد أثنى الإمام محمد بن سيرين على هذه الرسالة فقال: “في رسالة سمرة إلى ابنه علمٌ كثيرٌ”.

 

وكتب عبدالله بن أبي أوفى بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر بن عبيد الله.

 

أما عن حثِّ الصحابة رضي الله عنهم تلاميذهم على كتابة الحديث وتقييده، فالأمثلة كثيرة، ومن ذلك:

كان أنس بن مالك الأنصاري رضي الله عنه يحثُّ أولاده على كتابة العلم فيقول: “يا بني، قيِّدوا العلم بالكتاب”، وكان يقول رضي الله عنه: “كنا لا نعد علم من لم يكتب علمه علمًا”.

 

وروى الخطيب بسنده عن عدة من تلاميذ عبدالله بن عباس رضي الله عنه حَبْر الأمَّة أنه كان يقول: “قيِّدوا العلم بالكتاب، خير ما قُيِّد به العلم الكتاب”.

 

وروى أيضًا بأسانيده من عدة طرق إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: “قيِّدوا العلم بالكتاب”.

 

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: “من يشتري مني علمًا بدرهم”، قال أبو خيثمة: “يقول: يشتري صحيفةً بدرهمٍ يكتب فيها العلم”.

 

وأما تدوين الحديث في الصحف وتناقلها بين الشيوخ والتلاميذ فقد كانت هذه الصحف هي النواة الأولى لما صنف في القرنين الثاني والثالث من الجوامع والمسانيد والسنن وغيرها، ومن أمثلة هذه الصحف ما يلي:

صحيفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فيها فرائض الصدقة، فقد روى الخطيب بسنده إلى أنس بن مالك: “أن أبا بكر الصديق بعثه مصدِّقًا، وكتب له كتابًا فيه فرائض الصَّدَقة، وعليه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: “هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين”؛ الحديث بطوله.

 

صحيفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه التي سبق ذكرها، وصحيفة عبدالله بن عمرو بن العاص، المعروفة بالصحيفة الصادقة، عن مجاهد قال: “أتيت عبدالله بن عمرو فتناولت صحيفة من تحت مفرشه، فمنعي، قلت: ما كنت تمنعني شيئًا، قال: هذه الصادقة، هذه ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه أحد”.

 

هذه الصحف الثلاث كلها كتبت في حياته صلى الله عليه وسلم، وهناك غيرها كثير مما كتب في حياته صلى الله عليه وسلم.

 

وصحيفة عبدالله بن أبي أوفى، ذكرها الإمام البخاري في كتاب الجهاد من “صحيحه” باب الصبر عند القتال.

 

وصحيفة أبي موسى الأشعري، وصحيفة جابر بن عبدالله، والصحيفة الصحيحة التي يرويها همام عن أبي هريرة من حديثه، والتي تضم 138 حديثًا، رواها الإمام أحمد في مسنده، وقد طُبِعت مستقلة.

 

وأما عن جهود التابعين في تدوين السُّنَّة المشرفة فحَدِّث ولا حرج، فقد تلقَّى التابعون رحمهم الله السُّنَّة، بل الدِّين كله عن الصحابة الكرام – رضوان الله عليهم – فقاموا بمهمة تبليغ الرسالة من بعد شيوخهم إلى الناس كافة، فكانوا خير جيل بعد ذلك الجيل، وقد بذل جيل التابعين في خدمة السُّنَّة وتدوينها وحفظها جهودًا كبيرة، وفيما يلي نماذج من تلك الجهود، فمن حثِّهم على كتابة السُّنَّة ما روى الخطيب بسنده من عدة طرق عن الإمام عامر الشعبي أنه كان يقول: “إذا سمعت شيئًا فاكتبه ولو في الحائط فهو خيرٌ لك من موضعه من الصحيفة فإنك تحتاج إليه يومًا ما” وعن الحسن البصري قال: “ما قُيِّد العلم بمثل الكتاب، إنما نكتبه لنتعاهده”، وعن سعيد بن جبير قال: “كنت أكتب عند ابن عباس في صحيفتي حتى أملأها، ثم أكتب في ظهر نعلي، ثم أكتب في كَفِّي”. وعن صالح بن كيسان قال: “اجتمعت أنا والزُّهْري – ونحن نطلب العلم – فقلنا: نكتب السنن، فكتبنا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: نكتب ما جاء عن أصحابه فإنَّه سُنَّة، فقلت أنا: ليس بسُنَّة فلا نكتبه، قال: فكتب ولم أكتب، فأنجح وضيعت”.

 

وروى الخطيب من عدة طرق عن معاوية بن قرة قال: “كنا لا نعد علم من لم يكتب علمه علمًا”.

 

وقد كتب في هذا العصر من الصحف ما يفوق الحصر، وقد ذكر الدكتور مصطفى الأعظمي عددًا كبيرًا منها وذلك في كتابه: “دراسات في الحديث النبوي”:

منها صحيفة أو صحف سعيد بن جبير تلميذ ابن عباس، وصحيفة بشير بن نهيك كتبها عن أبي هريرة وغيره، وصحف مجاهد بن جبر تلميذ ابن عباس، قال أبو يحيى الكناسي: “كان مجاهد يصعد بي إلى غرفته فيخرج إليَّ كتبه فأنسخ منها”، وصحيفة أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي تلميذ جابر بن عبدالله، يروي نسخة عنه وعن غيره أيضًا، وصحيفة زيد بن أبي أُنيسة الرُّهاوي، وصحيفة أبي قِلابة التي أوصى بها عند موته لأيوب السختياني، وصحيفة أيوب بن أبي تميمة السختياني، وصحيفة هشام بن عروة بن الزبير، وغير ذلك من الصحف الكثيرة التي رويت عن التابعين، والتي كانت هي الأساس الثاني بعد صحائف الصحابة رضي الله عنهم أجمعين لما أُلِّف وصُنِّف في القرنين الثاني والثالث.

 

أما التدوين في القرن الثاني الهجري، فممن اشتهر بوضع المصنفات في الحديث في هذا القرن: أبو محمد عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج (ت 150 هـ) بمكة، محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي (ت 151 هـ) بالمدينة، معمر بن راشد البصري ثم الصنعاني (ت 153 هـ) باليمن، سعيد بن أبي عروبة (ت 156 هـ) بالبصرة، أبو عمرو عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي (ت 156 هـ) بالشام، محمد بن عبدالرحمن بن أبي ذئب (ت 158 هـ) بالمدينة، الربيع بن صُبيح البصري (ت 160 هـ) بالبصرة، شعبة بن الحجاج (ت 160 هـ) بالبصرة، أبو عبدالله سفيان بن سعيد الثوري (ت 161 هـ) بالكوفة، الليث بن سعد الفهمي (ت 175 هـ) بمصر، أبو سلمة حماد بن سلمة بن دينار (ت 176 هـ) بالبصرة، الإمام مالك بن أنس (ت 179 هـ) بالمدينة، عبدالله بن المبارك (ت 181 هـ) بخراسان، جرير بن عبدالحميد الضبي (ت 188 هـ) بالري، عبدالله بن وهب المصري (ت 197 هـ) بمصر، سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) بمكة، وكيع بن الجراح الرؤاسي (ت 197 هـ) بالكوفة، أبو عبدالله محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ) بمصر، عبدالرزاق بن همام الصنعاني (ت 211 هـ) بصنعاء.

 

والحمد للهِ أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا على ما مَنَّ به علينا من نعمه العظيمة.

 

﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58] ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].

 

اللهم إنا عبيدك، بنو عبيدك، بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو عَلَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همنا وغمنا.

 

اللهم من كان من والدينا حيًّا، فأطِلْ عمره في طاعتك، ومُنَّ عليه بالصحة والعافية وحسن الخاتمة، ومن سبقنا منهم إليك، فاغفر له ذنبه، ووسع له في قبره مد بصره، وآنس وحدته ووحشته.

 

اللهم ربِّ لنا أبناءنا، وأصلح نساءنا، واهدِ بناتنا، وارزقهن العفاف، ووفِّق المسلمين لكل خير وبر.

 

وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
تحميل كتاب أيام من حياتي
Differences between House of the Dragon and George R. R. Martin’s book – Cosmopolitan UK