الشجاعة الأدبية عند العلماء


الشجاعة الأدبية عند العلماء

 

رغبت منذ زمن أن أكتب في مجال شجاعة العلماء الأدبية؛ لأنني أراه وعيًا متقدمًا، ورؤية مبكرة ومبتكرة الطرح لقيم العلم والعلماء؛ لإضاءة ما هو مكنون لهم من الخفايا والأسرار بعد ما رأيناه من مهازل بعض علماء ومشايخ السلطان اليوم؛ لأن النظر إلى هذا الأمر يُمثِّل مظهرًا أسلوبيًّا؛ لكونه يدل على مدى الانفعال والتمسُّك بأمور وحقيقة مبادئ الدين؛ لأنها الأساس في البناء العقدي لكل عالم، يمكن أن تتحسَّس الجمال الديني فيه، والذي يُكرِّس قِيَم الجمال؛ لكونه خلقًا جديدًا تتشابك فيه مستويات الصياغة الأدبية، فتؤكد فيه المثاليات المألوفة في علوم الدين، وتتكرر الأنماط، وتتكاثر المنبِّهات البديهية في الدفاع عن بديهياته، وهنا لن يكون الحديث عن علماء من أمثال الفرنسي روجيه جارودي، أو الإنجليزي أنتوني فلو، أو الأمريكي مايكل هارت، أو السويسري هانس كونج الذي قال: محمد نبيٌّ حقيقيٌّ بمعنى الكلمة، ولا يمكننا إنكار أنه هو المرشد القائد على طريق النجاة، وإنما الحديث عن علماء الأُمَّة.

 

ولا أقصد بما سبق تعصبًا للعلماء، فالمسلم إذا تعصَّب إنما يتعصَّب ضد التعصُّب وكفى؛ لأن دينه سمح قوي يتَّسِع لكل نافع يتمشى مع المُثُل العُلْيا والأخلاق الفاضلة، وكل ما يسعد الناس ويؤدي إلى خير البشر، فالإسلام لا ينكر العلم وفضل العلماء، ولا يمنع النظر إلى ما بين أيدينا من مظاهر الكون وما فيه؛ بل إن المسلم هو الذي يعرف أن القرآن جاء مفرقًا بين العلم والجهل، بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فهو واضح غاية الوضوح في الدعوة إلى العلم وصلاح العلماء، فعندما استعرض القرآن جانبًا من قوى الكون، لم يعرضها على السمع والبصر لتسمع وتشاهد وتستمتع، لتسمع شَدْوَ اليَمامِ وهديلَ الوَرْقاء، ولترى قطرات الندى تترقرق في البحر على حدود الآس والنسرين؛ ولكنه يعرضها على العقل وحده بالتدبُّر والتفكُّر، والكشف عمَّا فيها من الأسرار؛ لذا كانت الخشية والإجلال والتعظيم من العلماء الحكماء الأجِلَّاء.

 

إن الله عز وجل خلق الناس أصنافًا، وإن كانوا في الحقيقة سواء، وصرفهم في صنوف العلم، وضروب المجالات، فجعل منهم العلماء في أشرف الجهات، فبهم ينتظم للعلم محاسنه، وبنصائحهم يصلح الله للخلق سلطانهم، ويعمر بلدانهم، لا يستغني الخلق عنهم، ولا يوجد كاف عنهم، فموقعهم من الناس والملوك موقع الأسماع التي يسمعون بها، والأبصار التي يبصرون بها، والألسن التي ينطقون بها.

 

كما أن الأمم الناهضة، تهفو نفوسها دائمًا إلى علماء، حكماء، نبهاء، بهم من الأخلاق والسجايا والعلم والشجاعة الأدبية ما بهم، لتقوى بهم على النهوض إلى المعالي؛ لأن سيرهم لا تزال منبعًا ثريًّا، ومنهلًا عذبًا عطيًّا، يرتاده العطشى، فيرتوي منهم ظمؤهم، ويشفي منهم عليلهم، وإنك لتجد في سيرهم أحوالًا عظيمة، وأهوالًا جسيمة، جعلت منهم القدوة في العلم والدين والدفاع عن الإسلام والمسلمين، لمَ لا؟ وقد قال الله تعالى فيهم: ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [الأحزاب: 39].

 

إن النظر في حياة العلماء وسيرهم، لاستجلاء الخصال الحميدة التي تَحلَّوا بها وإبرازها، أمر يجدر بالدعاة اليوم الانتباه إليه، لا الالتفات عنه؛ لكون تلك الخصال ممَّا يُرَبون عليه أنفسهم والناس، ومن أهمها الشجاعة الأدبية، ليتمكَّنُوا من الدفاع عن العقيدة وإحياء معالم الدين، فما بين منطوق لم يُقصَد، ومقصود لم يُنطَق، تضيع الكثير من الفضائل.

 

وكفى بنا تشبيهًا لفساد العلماء قول الله تعالى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ﴾ [الأعراف: 175 – 177] إن مَثل الكلب هنا مضروب للذي آتاه الله علمًا، فانسلخ عن آيات الله، وتخلَّى عن علمه، ترك الحق واتَّبَع الباطل، أخلد إلى الأرض واتَّبَـع هواه، هـذا العالم الضالُّ المضِلُّ، الذي لم يستفِدْ من علمه، ولم يلتزم به، يلهث وراء المطامع والشهوات، مثله كمثل الكلب الذي يلهث باستمرار، يلهث إنْ طُرِد وإن لم يُطْرَد، إن سار، وإن وقف، وإن جلس، صورة مُزْرية منفِّرة لذلك العالم الضالِّ المنحرف عن مُقررات ما تعلَّمه، ويكفيه قبحًا وسوءًا وتشويهًا لصورته عرضه في القرآن على تلك الهيئة.

 

إنه مشهد من المشاهد العجيبة الجديدة كل الجدة على ذخيرة هذه اللغة من التصوُّرات والتصويرات، إنسان يؤتيه الله آياته، ويخلع عليه من فضله، ويكسوه من علمه، ويعطيه الفرصة كاملةً للهدى والاتصال والارتفاع؛ ولكن ها هو ذا ينسلخ من هذا كله انسلاخًا، ينسلخ من آيات الله، ويتجرَّد من الغطاء الواقي، والدِّرْع الحامي، وينحرف عن الهدي ليتبع الهوى، ويهبط من الأفق المشرق فيلتصق بالطين المعتم، فيصبح غرضًا للشيطان لا يقيه منه واقٍ، ولا يحميه منه حامٍ، فيتبعه ويلزمه ويستحوذ عليه، ثم إذا هو مسخ في هيئة الكلب، كل هذه المشاهد المتحرِّكة تتتابع وتتوالى، والخيال شاخص يتبعها، فكم من عالم رأيناه يعلم حقيقة دين الله، ثم يزيغ عنها، ويُعلن غيرها، ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة، والفتاوى المضلة.

 

لم يقرن شيء إلى شيء أفضل من إخلاص إلى تقوى، ومن حلم إلى علم، ومِن صِدْق إلى عمل؛ لأن نهضة الدولة الراسخة البناء، الرائعة الطلاء، محمودة العاقبة، لا يرسخ بناؤها، ويروع طلاؤها، وتُحمَد عاقبتها، إلَّا أن تكون موصولةً بنَظْم الدين، مصبوغةً بآدابه، ولن يكون ذلك إلَّا بعلماء درسوا علوم الشريعة، عناية بالقيام على ما استحفظوا من هداية، مُتحلِّين بأدبية الشجاعة، فلا يذروا شيئًا يشعرون بأنه موكول إلى أمانتهم إلا أحسنوا أداءه.

 

ينظر أهل العلم وعلماؤه، بشجاعة أدبية في حال الناس من جهة ما يتقرَّبون به إلى الخالق، ويزنون أعمالهم ليُميِّزوا البدعة من السُّنَّة، ومن جهة ما يدور بينهم من المزاعم الباطلة، والأحاديث المصنوعة، فينفون خبثها نفي النار لخبث الحديد، وينظرون من جهة ما يجري بينهم من المعاملات التي نهى عنها الدين من غير هوادة؛ كالربا والميسر والخمر، إلا حيث قلَّ من يعظ الناس في ارتكابها، ويبسط القول في شؤم عاقبتها.

 

نظر أهل العلم وعلماؤه أيضًا في سير أرباب المناصب والمعالي، فإذا أبصروا منهم عِوجًا، نصحوا لهم بشجاعة أدبية كي يستقيموا، ويقيموا أمرهم، وإذا رأوا حقًّا مهملًا، لفتوا إليه أنظارهم، ومتى كان في ولاة الأمور شيء من العدل، وكان في العالم حكمة وإخلاص، نجحت الدعوة في سعيها، وبلغت بتأييد الله مأربها، وينبغي أن يكون العالم رفيقًا في خطابه، ليِّنًا في إرشاده، أمَّا إذا أراده ذو قوة على أن يقول ما ليس بحق، أو يأتي ما ليس بمصلحة، أخذ بالتي هي أرضى للخالق، وكان مثالًا للاستقامة صالحًا.

 

وينبغي على العالم أن يقوم بإسداء النصيحة إلى ذي قوة، أو لا يوافقه فيما يخدش أمانته وتقواه، متى قدر مقامه العلمي قدره، وكأن شأن العلم أسمى في نظره من كل شأن، وهذا الشعور هو الذي يُهيِّئه بعد داعية الغيرة لأن يُجاهد في سبيل الحق، مستهينًا بكل ما يعترضه من أذًى محتملًا في سبيل النصيحة ما يناله من مكروه وأذًى، وكم من عالم قام في وجه الباطل، فأُوذي فتجلَّد للأذى.

 

وبهذا قصد الإسلام أن يُخرج للناس أُمَّةً تُجلُّها القلوب، وتهابها العيون، وإنَّما تُجِلُّها وتهابها على قدر اعتصامها بهدي الله وهدي نبيِّها، وعلى قدر ما تأخذ به من مظاهر القوة والمنعة، ولا تعتصم الأُمَّة بهدي الله وهدي نبيِّها، ولا تظهر في قوة ومنعة، إلا أن يُقيِّض لها علماء يملأ الخوفُ من الله قلوبهم، حتى لا يدع فيها للخوف من مخلوق مثقال ذرة، وتظفر مع هذا بولاة أمور يحرصون على إقامة العدل، ويستقيمون على طريق الرُّشْد، أكثر من حرصهم على ما تشتهي أنفسهم، وتلذُّ أعينهم من حُلل ومتاع الدنيا.

 

لذا عني الإسلام بأن يكون في الأُمَّة علماء لا يكتمون عن أحد نصائحهم، ورؤساء دول يُحبُّون أن يسمعوا كلمة الحق تتردَّد في مجالسهم، والتاريخ الصادق يُحدِّثنا أن بلاد الإسلام قد حظيت بعلماء يزهدون في الحياة الدنيا، ويبيعونها بكلمة حق يقولونها ابتغاء أن يكون لها في إصلاح حال السلطان أيًّا كان سلطانه، أثر كبير أو صغير، كيف لا؟ وقد أجاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي سأله: أي الجهاد أفضل؟ قال: ((أفضلُ الجهاد كلمةُ حقٍّ عند سلطان جائر))[1] ، كما حظيت برؤساء دول يرتاحون لوعظ العالم الأمين، ويسيغونه إساغة الظمآن للماء القراح الصافي، وبمثل هؤلاء العلماء والرؤساء تسعد الأُمَّة، ويعظم شأن الدولة.

 

والتاريخ الصادق قد حدَّثنا أن في أهل العلم مَنْ فَتَنَتْه الدنيا بزخرفها، فانطلق يجري وراءها، لا يرعى للحق عهدًا، ولا لجانب الله حُرْمةً، وحدَّثنا أن في الرؤساء من يكون نصيب اللهو والانهماك في الشهوات منه أكثر من نصيب الجد والرشد، فضاعت دول وأقيمت أخرى، فإذا كان العالم على علم وشجاعة أدبية، كان حليمًا في موضع الحلم، فهيمًا في موضع الفهم، حكيمًا في موضع الحكم، مِقْدامًا في موضع الإقدام، محجامًا في موضع الإحجام، مؤثرًا للعفاف والعدل والإنصاف، كتومًا للأسرار، وفيًّا عند الشدائد، عالمًا بما يأتي من النوازل، يضع الأمور مواضعها، والطوارق أماكنها؛ لأن الشجاعة غذاء من أغذية الأُمَّة في طور التحرير، لا يتهاون به إلا صغار النفوس، والذين لا يستعذبون موارد العبودية، وإن لم تفرض عليهم، نظروا في كل فنٍّ من فنون العلم فأحكموه، فإن لم يحكموه فقد أخذوا منه بمقدار ما يكتفي به، يُعرفون بغريزة العقل وحسن الأدب، وفضل التجربة على ما يرد عليهم قبل وروده، وعاقبة ما يصدر عنهم قبل صدوره، فيعدون لكل أمر عدَّته وعتاده، ويهيئون لكل وجه هيئته وعتاده.

 

المراجع:

أ.د. هاني الشتلة، الشجاعة الأدبية في القرآن والسنة النبوية، الطبعة الثالثة، مطبعة الشروق، المنوفية، جمهورية مصر العربية، 2022.


[1] رواه طارق بن شهاب، المحدث الألباني، المصدر: صحيح النسائي، رقم 4220، خلاصة حكم المحدِّث: صحيح.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
تحميل كتاب التسرب الإسباني إلى شواطيء الصحراء المغربية (1860 – 1934) pdf
تحميل كتاب رافي بركات وسر الرمال الغامضة – رواية pdf