الشجاعة الأدبية عند النساء


الشجاعة الأدبية عند النساء

 

كم يودُّ صاحب هذا المقال لو كان شاعرًا وثَّاب الخيال، مُطلق العاطفة، جزل الألفاظ، ثري المعاني! إذًا لاستطعت أن أصوغ للقُرَّاء من سير النساء المسلمات الفضليات في الشجاعة الأدبية، قصائدَ عصماء أضمِّنُها مناقبهن، وما مناقبهن إلا مناقب النساء الكاملة في أشرف وأجَلِّ معانيها.

 

ولكن وا أسفاه! لست شيئًا من ذلك الشاعر الذي أتمنى أن أكونه، إنْ أنا إلا مؤرخ يعرض لوقائع الحياة العامة من ناحيتها الوضعية جهد طاقتي، وأشد خيالي الراكد إلى تلك الوضائع، فلا يأذن لي ولا بمحاولة التطاير والتحليق، وأكتم عاطفتي حتى لا يطغى عليها سلطانها، فيتنكب سبيل المؤرخ الذي هَمُّه البحث والتحقيق، ثم العرض البسيط للأشياء؛ فيقنع القارئ الكريم بالصورة المجملة التي أرسمها، حتى يتأذن الله بظهور شاعر عظيم ينْظِم الإلياذة العربية، فيطالع فيها إذ ذاك فصلًا عن هؤلاء النساء يكون من أبلغ ما خَطَّه شاعر وأروعه.

 

فلقد كرَّم الإسلام المرأة أيما تكريم، فجعل حُسْن الخلق معها ليس أن نكف الأذى عنها فحسب، ولكن أن نبالغ في ترضيتها، وتطييب خاطرها فنحتمل أذاها، ونغفر إساءتها، ونعفو عن ذلَّتها، ونقودها نحو الصلاح برفق واصطبار، بل تخطى الأمر ذلك، فجعل من حقِّها مراجعة زوجها في الأمور التي قد تراها على غير سجيتها، كما أن الأمر يتطلب من الرجل أن يكون هاشًّا باشًّا، هيِّنًا ليِّنًا، لطيفًا لطوفًا، حبيبًا حبوبًا، يألف ويُؤْلف، والكريم من غلبه أهله داخل بيته؛ لسماحته ومروءته.

 

فقد قال صعصعة لمعاوية بن أبي سفيان: يا أمير المؤمنين، كيف ننسبك إلى العقل وقد غلب عليك نصف إنسان؟ يريد غلبة امرأته وأخته عليه، فقال معاوية: يا هذا، إنهن يغلبن الكرام، ويغلبهن اللئام.

 

وقد كانت جميع نساء النبي محمد صلى الله عليه وسلم يراجعنه الكلام، ويهجرنه الليل حتى الصبح، فلا يثور ولا يغضب؛ بل يحتمل ذلك منهن صابرًا كريمًا، وكان عمر يهدئه بقوله: يا رسول الله، لو رأيتني وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم[1].

 

فالمرأة جهاز روحي عجيب، يُلقي في قلب الرجل أسرار القوة ومعاني الثقة، فهي إنسان كريم، أسمى ما فيها إنسانيتها الرفيعة، ومشاعرها الحانية، وقد قضت سُنَّة الله أن تجعل كرامتها منوطة برعاية أماناتها الخاصة، وأن تجعل سعادتها منوطة بأداء وظائف تلك الأمانات، سواء أكانت أُمًّا أو زوجة أو ربة بيت، فإن كانت أُمًّا ففي طاعتها رضوان الله تعالى، وتحت أقدامها الجنة.

 

وإن كانت زوجة صالحة فهي أفضل ذخر يستفيده المرء من دنياه بعد تقوى الله، فبكلمة واحدة منها لبَعْلها وهو يشكو جور الزمان، أو منافسة الأقران، أو مكايد الرجال، كفيلة أن تمده بطاقات الهمة والأمل والثقة بالنفس، فهي الستر والوقاية، الحفظ والرعاية، تلتقي بزوجها فتكاشفه بسِرِّها، ويُفضي بين يديها بجملة حاله، تعرف ماضيه وحاضره، وتتطلع إلى مشاريعه ومستقبله. وإن كانت ربة بيت فحسنت وأحسنت، وخشعت وأخشعت، وصَلُحت وأصلحت، ووُعِظت ووعَظَت، ونذرت نفسها لأهلها وأنذرت.

 

فقد تغيرت النفوس والعقول بتأثير الإسلام تغيُّرًا عظيمًا، فعادت البنت أو المرأة التي كان يتعير بها أشراف العرب، وجرت عادة وَأْدِها في بعض القبائل فرارًا من العار، وزهدًا في البنات، حبيبةً يتنافس في تربيتها المسلمون، وامرأةً يُستشار بأخذ رأيها في أهم الأمور، فكانوا سواسية لا يرجح بعضهم على بعض إلا بفضل أو حق، وأصبحت لها الكلمة المسموعة في ملتقى نوادي العرب وأحاديثهم؛ بل وأخذ مشورتهن.

 

ولنا في أم سلمة رضي الله عنها في سداد الرأي والمشورة على النبي صلى الله عليه وسلم في صُلْح الحديبية خيرُ مثالٍ على هذا الأمر؛ حيث قال النبي لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا… حتى قال ذلك ثلاثًا، فلمَّا لم يَقُم منهم أحد دخل على أم سلمة غاضبًا ذاكرًا لها ما لقي من قومه. فقالت له: يا نبي الله، أتحبُّ ذلك؟ اخرج ولا تكلِّم أحدًا منهم كلمةً حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلق لك، فلما رأى المسلمون ذلك قاموا ففعلوا فعله؛ فكانت خير مراجعة لحل هذا الإشكال، وكان نِعْم الرأي!

 

فقد فهمت رضي الله عنها أن الصحابة قد وقع في أنفسهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتحلُّل أخذًا بالرخصة في حقهم، وأنه يستمر على الإحرام أخذًا بالعزيمة في حق نفسه، فأشارت عليه أن يتحلل لينتفي عنهم هذا الاحتمال، فعَرَف صواب رأيها وما أشارت به ومراجعتها له فيه؛ فأخذ برأيها، فكان ذلك رأيًا سديدًا ومشورةً مباركةً.

 

وفي ذلك دليل على استحسان مشاورة المرأة الفاضلة، ما دامت ذات فكرة صائبة ورأي سديد، ولا حرج أن تراجع المرأة زوجها في أمر قد تراه هي على غير سجيتها، لا فرق في ذلك بين أن تأتي المشورة من رجل أو امرأة، ما دامت مشورتها صائبة ومراجعتها ثاقـبة، وهذا عين التكريم لها، فطالما احترم الإسلام واعترف برأي المرأة فليس هناك أكثر من أن تشير على نبي مرسل، ويعمل به النبي محمد صلى الله عليه وسلم لحل مشكلة اصطدم بها وأغضبته وأرَّقته؛ إذ كيف للصحابة أن يعصوه ولا يطيعوا أمره.

 

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعرض شأن وشأو المرأة المسلمة دائمًا وأبدًا، فهو الغيور الحذور، وهو الواقف على الميزان فيما تُعطاه وفيما تُعطيه، فلا هي بظالمة ولا مظلومة في كل أمر يرجع إليه؛ فعن عمر رضي الله عنه قال: تغضبت يومًا على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟! فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، قال: فأفزعني ذلك، فانطلقت فدخلت على حفصة، فقلت: أتراجعين رسول الله؟ قالت: نعم. قلت: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم. قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسرت[2].

 

نعم، هذا مفزع لعمر، وقد كان ولا ريب مفزعًا لرسول الله أن تعلو كلمة على كلمته في بيته في غير حق، لكن طريقة محمد صلى الله عليه وسلم في تغليب الكلمة طريقة نبي يؤم متَّبعيه، وطريقة عمر طريقة مريد مؤتم بنبيِّه، ولا جُناح على عمر ألا يلحق بشأو محمد في كل ما سبق إليه.

 

فعمر رضي الله عنه رجل عظيم، ومحمد بلا شك إنسان أعظم، وهذا هو الفارق بينهما، أن الرجل العظيم يرحم المرأة، كما يرحمها الجندي في معرض القوة والكفاح والنضال، ولكنه يأنف أن يستكين لسلطانها في معرض الهوى والفتنة، فيكسرها ولا ينكسر لها إذا ألحت في الغرور وانطلقت في عنانه.

 

أما الإنسان الأعظم، فهو يشمل برعايته وحنانه وعطفه ورأفته ورحمته ضعف الإنسانية كله، ويعطف عليه ويربت على كتفَيه، ومنه ضعف المرأة في غرورها، واعتزازه بدلال الضعف على القوة؛ لأنه في حقيقته اعتزاز بمكانها منه، ومكانتها عنده، وتقديرًا لتلك القوة في بعض نواحيها، فهو يرى في تكبُّر المرأة إذا كانت كبيرة عنده نوعًا من الاعتراف بكبره، وزهوًا بفخره، وهو لا يقف معها في ميدان كما يقف كل ذكر وأنثى؛ لأن ميدانه هو يشمل الميدانين مجتمعين؛ إذ هو ميدان الرجولة كلها، وميدان الإنسانية جمعاء. فتراجع المرأة زوجها فيتعامل معها بتعامل الإنسان الأعظم، لا بتعامل الرجل العظيم.

 

وللمرأة أن تأبى الخشونة في زوجها ولا تستريح إليها، ويأباها الرجل في زوجه، ولكن دارس الأخلاق لا ينبغي أن يعيب هذه الخصلة إلا بمقدار ما فيها من نقص في الطبائع الإنسانية الأصيلة؛ إذ المحقق أن الخشونة حرمان من الصقل والمرونة، ولكننا نخطئ كل الخطأ إذا حسبناها حرمانًا من البر والرحمة؛ لأن المرء قد يكون ناعم الملمس وهو قاسٍ مفرط القسوة، وقد يكون خشن الملمس وهو رحيم مفرط الرحمة، ويغلب في هذه الحالة أن تكون الخشونة درعًا يستر بها مواضع اللين في الخلق، وضربًا من الخجل أن يطلع على ناحية فيه يتطرق إليها الضعف، وتنفذ منها الرماية، رحمة في غلاف، وليست رحمة مكشوفة لكل ناظر ولامس.

 

إنها خشونة مناضل يشحذه النضال، إذا لقي أنداده من الأبطال وأقرانه من الرجال، الإساءة تتبعها الإساءة، والتحدي يعقبه التحدي، وكلما قوبل البطش بمثله تضرمت ثورة الغضب، وثارت نحيزة وطبيعة القتال، وكأن الرحمة لم تخلق في النفس، ولم يُسمَع لها في حنايا الصدور صوت.

 

خطب عمر رضي الله عنه أُمَّ كلثوم بنت أبي بكر رضي الله عنهما من عائشة فأطمعته، وقالت: أين المذهب بها عنك؟! فلما ذهب. قالت الجارية: أتزوجينني من عمر وقد عرفت غيرته وخشونة عيشه؟ والله لئن فعلت لأخرجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصيحن به. إنما أريد فتًى من فتيان مكة يصب الدنيا عليَّ صبًّا. فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص فأخبرته ما كان من الخبر. فقال: أنا أكفيك.

 

ثم ذهب إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين، لو ضممت إليك امرأة؟ قال عمر: عسى أن يكون في أيامك هذه. قال عمرو: ومن ذكرت؟ قال عمر: أم كلثوم بنت أبي بكر. قال عمرو: مالك وللجارية تنعى إليك أباها بكرة وعشيًّا. قال عمر: أعائشة أمرتك بهذا؟ قال عمرو: نعم. فتركها وتزوجها طلحة بن عبيدالله.

 

فمن الأماني الحلوة الجميلة التي تداعب خيال الفتيات، الزواجُ برجل عظيم الشأن في قومها، وهنا يتقدم عمر خاطبًا وهو أمير المؤمنين غير آمر ولا مُكرِه، وفي تمام الحرية والتصميم وبشجاعة أدبية رصينة، ترفض الفتاة عمر رفضًا أبيًّا مسببًا، ويبلغ أمير المؤمنين الرفض فيعدل عن الأمر، ويُقلع غير حانق ولا ضائق ولا مُهدد ولا مُتوعِّد؛ لأنه يعلم أن الإسلام لا يرغم الفتاة على الزواج بمن لا تريد. ولقد كان عمرو بارعًا في لباقة مدخله بتبليغ الرفض، كما كان عمر لمَّاحًا في معرفة مصدره رغم دقة عمرو في الإشارة والتعبير.

 

ومع هذا الجلال يتحدث من يتحدث عن المرأة ووضعها في الإسلام، ألا فلتعرفي أيتها المرأة من أنت، تبيني حقوقك فيه، واحرصي عليها وتمتعي بها، ودافعي عنها، واعرفي كذلك واجباتك والتزاماتك لتؤديها كما تؤديها كل عفيفة.

 

كان رضي الله عنه يعرف للمرأة فضلها في الحس والشعور، والنظر والتفكير، وأنه وكما كان يستشير الرجال فقد كان كذلك يستشير النساء، حيث كان يقدم الشفاء بنت عبدالله القرشية في الرأي، فماذا بقي بعد ذلك للمرأة حتي تبحث عنه في غير الإسلام، إذا كان أمير المؤمنين نفسه يستشيرها في أعمال الدولة ويرضى بها وبرأيها؟!

 

وهنا قطعة حية أخرى من سير الشجاعة الأدبية عند النساء، رسمها القرآن الكريم بأسلوبه الموحي، لا تملك روايات البشر التاريخية عن تلك الفترة أن ترسمها، فالتعبير القرآني أكثر إيحاءً، وأبعد آمادًا، وهو يستخدم الحادثة المفردة لتصوير الحقيقة المجردة، الباقية وراء الحادثة ووراء الزمان والمكان، كما هو شأن وشأو القرآن الكريم كله.

 

ها هي ذي امرأة فرعون، لم يصدَّها طوفان الكفر الذي تعيش فيه في قصر الفرعون، عن طلب النجاة وحدها، وقد تبرَّأت من القصر طالبة إلى ربِّها بيتًا في الجنة، وتبرأت من صلتها بفرعون، فسألت ربَّها النجاة منه، وتبرأت من عمله، مخافة أن يلحقها من عمله شيء، وهي ألصق الناس به، وتبرأت من قوم فرعون وهي تعيش بينهم، ودعاؤها وموقفها مَثَل للاستعلاء على عرض الحياة الدنيا في أزهى صورة.

 

فقد كانت أعظم ملوك الأرض يومئذ في قصر فرعون، أمتع مكان تجد فيه امرأة ما تشتهى، ولكنها استعلت على هذا بالإيمان، ولم تعرض عن هذا العرض فحسب، بل اعتبرته شرًّا ودنسًا وبلاءً تستعيذ منه بالله، وتتفلت من عقابيله، وتطلب النجاة منه، وهي امرأة واحدة في مملكة عريضة قوية، وهذا فضل آخر عظيم.

 

فالمرأة الحية أشدُّ شعورًا وحساسية بوطأة المجتمع وتصوُّراته، ولكن هذه المرأة وحدها في وسط ضغط المجتمع، وضغط القصر، وضغط الملك، وضغط الحاشية، والمقام الملكي في وسط هذا كله رفعت رأسها إلى السماء وحدها، في خِضَمِّ هذا الكفر الطاغي، وهي نموذج عالٍ في التجرُّد لله، من كل هذه المؤثرات وكل هذه الأواصر والمعوقات؛ ومِنْ ثَمَّ استحقت هذه الإشارة في كتـاب الله الخـالد، الـذي تتـردَّد كلمـاته في جنبات الكون، وهي تتنزل من الملأ الأعلى.

 

وإفراد امرأة فرعون بالذكر هنا مع مريم ابنة عمران والدة عيسى عليه السلام، يدل على المكانة العالية التي جعلتها قرينة مريم في الذكر، بسبب ملابسات حياتها، وهاتان الاثنتان نموذجان للمرأة المتطهِّرة المؤمنة المصدقة القانتة، يضربهما الله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم بمناسبة الحادث الذي نزلت فيه آيات صدر السورة، ويضربهما للمؤمنات من بعد في كل جيل، قال تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [التحريم: 11].

 

وموقف المرأة هنا من الشجاعة الأدبية موقف إيجابي، يتمنَّاه الضمير الحي الموعز بوشائج الإيمان، المتحلي بعناصر وصفات الإسلام، تسعفه النفس السوية، والفطر العلية، والآفاق الذكية.

 

ومن السياق الكريم يتضح ما يلي:

الخلافات الزوجية أمر وارد بين الأزواج، فلكل منهم وجهة نظره، ولكن العاقل الأريب من يجعل تلك الخلافات كالثلج في المذيب، وذلك قوله: “تغضبت يومًا عليَّ امرأتي”.

 

الشجاعة الأدبية للمرأة، وجواز مراجعتها لزوجها في أمر الخلاف إذا رأت بفطـرتها خـلاف ما يـراه الزوج، وهـذا تكريم لشـأنها، ورفع مكانتها، فلها رأيها وفكرها.

 

إنكار الزوج لمراجعة امرأته له في أي أمر، ضرب من ضروب الخيال والجاهلية، خاصة إذا كان الحق معها. ولمَ لا؟ أو ليست مثلها كمثل الذكر سواءً بسواء؟!

 

قياس القول والفعل على قوله وفعله صلى الله عليه وسلم وأزواجه أمهات المؤمنين، لتنضبط رمَّانة الميزان بميزان العدل. وهذا مما أمر به الإسلام في قول الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21] وذلك قول المرأة لزوجها: ما تنكر أن أراجعك؟! فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل.

 

بيان مدى حلم النبي صلى الله عليه وسلم وصبره على غضب أزواجه وهجرانهن له، وهذا مضرب المثل في الحلم على الزوجة.

 

الاستفهام في قول المرأة: ما تنكر أن أراجعك؟! تأكيد على حقِّها لتملُّكها الشجاعة الأدبية في مراجعة الزوج، إذا كان الأمر مما تقتضيه المصلحة العامة أو تقتضيه المصلحة الخاصة.

 

الخوف والفـزع الصحابي والأتباعي، مما قد يصيب النبي من سوء، ولمَ لا وهو المبعوث رحمةً للعالمين صلى الله عليه وسلم؟

 

رابطة الحب والمودة التي تربط بين الآباء وأبنائهم، بما يدفعهم للخوف عليهم والرحمة بهم؛ لقول عمر رضي الله عنه: فانطلقت فدخلت على حفصة.

 

جواز سؤال الوالد لأبنائه عما يبدو له من خطأ في تصرفهم، قد يحيد بهم عن حيدة الحق، تأكيدًا من قول عمر: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

 

الخيبة والخسران المبين لمن يتعارض أمره مع أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك قوله: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسرت.

 

لطيفة الآيات: الإعجاز في التعبير بالتفرقة بين كتابة لفظ (امرأة) بالتاء المربوطة، و(امرأت) بالتاء المفتوحة في القرآن الكريم، وهي لمحة بيانية إعجازية في استخدام القرآن الكريم، لها إملاءات عجيبة ورهيبة تتناسب مع الرسم الإملائي الإعجازي، فكل امرأة معرفة (نعرف مَنْ هي) تُكتب بالتاء المفتوحة، وكل امرأة نكرة (لا نعرف مَنْ هي) تكتب بالتاء المربوطة، وتعريف المرأة دائمًا يكون بالإضافة إلى زوجها بضمير متصل يدل عليه، أو بالإضافة إلى اسمه مقرونًا ومصرحًا به، كالآية التي نحن بصددها الآن؛ قال تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ ﴾ [التحريم: 11] ومثل قوله تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾ [التحريم: 10].

 

فهنا كان الزوج موجودًا، فكانت (امرأت) بالتاء المفتوحة. وهذه التاء المفتوحة إملائيًّا تعطي شكل الاتساع، وهذا ما يتناسب مع كل امرأة مقرونة بزوجها مؤهلة للحمل في المستقبل، أو حملت قبل ذلك، فهي مع زوجها، ومن ثَمَّ يتناسب شكل التاء المفتوحة مع مدلول اتساع البطن عند الحمل. أما قوله تعالى: ﴿ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ﴾ [الأحزاب: 50]، هنا كانت (امرأة) غير معروفة، ولم يرد ذكر الزوج، فكانت (امرأة) بالتاء المربوطة، فكان هذا التمييز بين اللفظين، فتأمَّل الذكر الحكيم.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
Best Color Theory Books for Artists and Students – ARTnews.com
Valuation: Measuring and Managing the Value of Companies, 7th edition | Strategy & Corporate Finance