الشعر بين الذاتية والوعي الجمعي
الشعر بين الذاتية والوعي الجمعي
عُرِف الشعر في بداياته نرجسيًّا، فطبيعة الحياة الصحراوية القاسية فرضت على الشاعر أن يتمركز حول الذات في النَّظْم الشعري له، وقد قيل قديمًا حول أفضل الشعراء: “امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير بن أبي سلمى إذا رغب، والأعشى إذا طرب”، فكل هؤلاء يدورون في فلك الذاتية، وشاعريتهم تخرج من خلال أحوالهم التي يكونون عليها، فالشاعر لا يناقش من خلال شعره إلا قضايا ذاتية تدور حول حياته ومشاعره وحده، معبرًا عنها في أغراض شعرية فرضتها طبيعة الحياة في عصره، فالشعر بدأ ليعكس به الشاعر ما يجول في خاطره وما يرتبط في ذاته، فينظم الشعر إما تسلية لنفسه وهو يتأمل فراغ الصحراء حوله في ترحاله، أو رغبته في التكسب ماديًّا أو اجتماعيًّا، بل حتى الفخر في القبيلة كان يصب أيضًا في فخر الذات والاعتزاز بالانتماء إليها، فهو في بدايته ونهايته في تلك الأغراض يدور حول نفسه.
إن تطور الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية عند العرب جعلت من تدرُّج نمطية القصيدة العربية فرضًا ولزومًا على مستوى الأغراض الشعرية، فمع ظهور التيارات الدينية والأحزاب السياسية كانت هناك بالضرورة أفكار تهمُّ من ينتمي لتلك التيارات والأحزاب التي تسعى لترسيخها في المجتمع وفرض آرائها، فأصبح للشاعر وظيفة للتعبير عن أفكارهم الجمعية، وهذا الوعي الجمعي منح للشعر منصة عامة ودورًا رئيسًا لنشر أفكار الجماعة التي ينتمي إليها الشاعر ويتبنَّى قضاياها، فغيَّر هذا كله في فترة ما من عمق القصيدة ومضامينها وأشكالها.
فانتقل الشاعر من الذاتية إلى الجماعة، وظهرت جليًّا معالم هذا التحول في انتقال الشعراء من الجاهلية للإسلام، فعلى سبيل المثال حسان بن ثابت انصرف عن الذاتية المتمثلة في اللهو والغزل في شعره في الجاهلية، وانتقل بعد إسلامه ليكون معبِّرًا عن روح الجماعة الدينية، منافحًا عنها في شعره، ولكن هذا الانتقال ليس عامًّا لجميع الشعراء، فالشعر بدأ ذاتيًّا واستمر كذلك عند الكثير منهم، والعصر الأموي الذي شهد ظهور تيارات سياسية ودينية عدة، أبرزت دورًا للشعراء بعيدًا عن الذاتية، فلكل حزب كان هناك شعراء رفعوا راية الدفاع عنه ونشر أفكارهم شعرًا، فعلى سبيل المثال، الكميت بن زيد الأسدي كان صوت الهاشميين، والأخطل والفرزدق صوت الأمويين، وعبيد الله الرقيات وأبو وجزة السعدي شعراء الزبيريين، والخوارج كان منهم الطرماح بن حكيم ويزيد بن حبناء.
توسعت أدوار الشعر والشعراء أكثر، وبرز في العصر العباسي نوعٌ آخر من الشعر؛ وهو الشعر الاجتماعي، وأصبح الشعر منبثقًا من روح المجتمع الذي يعيش فيه الشاعر والذي يلامس الحياة الاجتماعية، معبرًا عن الشعب وخارجًا منه ومتبنيًا هموم وقضايا حياته اليومية، فأصبح هناك شعراء ينتقدون الأوضاع السياسية وحكم بني العباس، أو يثورون على الظلم الذي يتعرضون له، أو يسخطون على الطبقية التي أنتجت فقرًا لشريحة كبيرة وأبقت على مظاهر البذخ والترف لطبقة الخلفاء ومن حولهم.
ومنه قول الشريف الرضي:
نحنُ في عُصْبةٍ ترى الجورَ عَدْلًا وتُسمِّي الضَّلالَ دارَ رَشادِ في رِجالٍ تهزا بِوفْدِ المَعالي ودِيارٍ تَسْطو على الوُرّادِ
|
وشعر المتنبي الذي حمل بعضه ثورة على الواقع الذي يعيش فيه، وإن كان له أطماع سياسية لم يحظ بها، وقيل: إن هذا هو سبب شعره الثوري، لكنه مثَّل الوضع السياسي والاجتماعي في المجتمع آنذاك وعاب عليه، ومنه قوله:
أغَايَةُ الدِّينِ أنْ تُحْفُوا شَوَارِبَكم؟ يا أُمَّةً ضَحِكَتْ مِنْ جَهْلِها الأُمَمُ!
|
وإن كان الشعر بدأ رحلته ذاتيًّا ثم انتقل إلى المجتمع، لكنه انتقال مؤقت وضرورة حتَّمَتْها الحياة والأوضاع السياسية والاجتماعية التي عانى منها المجتمع في العصر العباسي على وجه الخصوص، فالشعر وإن تعددت أغراضه ومساعي شعرائه يبقى منبعه الذات، والشاعر وإن كان لسان أمته، يظل لسانًا ينطق بلغته الخاصة وتوجُّهاته الفكرية، يعبر عن مكنونه الذي يعنيه؛ ومن ثَمَّ يعني الجماعة، أو كما عبَّر عنه أبو تمام “ولكنه صوب العقول إذا انجلت”، وإن كان هناك شواذ لكل قاعدة، فلن يخرج الشعر عن معناه الوجداني المتمثل في هتك ستر قلوب الشعراء وأفكارهم. وما أصدق من قول حسان بن ثابت:
وإنما الشِّعْرُ لبُّ المرْءِ يَعرِضُهُ على المجالسِ إن كَيْسًا وإن حُمُقا وإنَّ أشْعَرَ بَيْتٍ أنتَ قائِلُهُ بَيْتٌ يُقالُ إذا أنْشدْتَهُ صَدَقا
|
الخاتمة نحو الخلود:
بالشعر يتجدد إحياء الأمم، فهو أحد أعرق الفنون التي عرفها الإنسان عبر التاريخ وتناقلها ليتجاوز بها حاجز المكان والزمان، ارتبط وجود الشعر بوجود الإنسان، وانطلق متشعبًا ومتفرعًا في عدة فنون تنبثق منه وتعود إليه، تعددت مسارات واتجاهات شعرائه فهم الذين ﴿ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ﴾ [الشعراء: 225][1]، من أجل ترسيخه وإثباته وتثبيته كأهم وأقدم وسيلة من وسائل التعبير، وكأعظم ما أنتجته الإنسانية.
يقول ابن الرُّومي في هذا:
أرى الشعر يُحْيي المجد والبأْس والندى تُبَقِّيهِ أرواحٌ لها عَطراتُ وما المجد لولا الشِّعْرُ إلا مَعاهدٌ وما النَّاسُ إلا أعْظمٌ نَخِراتُ
|
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: “إن من البيان لسحرًا”[2]. وبالرغم من أن العلماء اختلفوا كثيرًا في كون هذه العبارة على سبيل الذم أم المدح، لكن ما يهمُّنا هنا ليس المعنى الديني لها من باب خلط الحق بالباطل أو الباطل بالحق، بل في كون العبارة تشي بأن أساليب الكلام البلاغية لها ما لها من تأثير السحر على لُبِّ السامع.