الشعر نثرا


الشعرُ نثرًا

 

النثرُ لغةً من مادة نَثَرَ، وتعني: رمى الشيءَ وألقاه على نحو مبعثَرٍ، وجاء في المعجم الوسيط في تعريف النثر: “الكلام المرسل غير الموزون ولا المقفَّى… الكلام الجيد يُرسَل بلا وزن ولا قافية، وهو خلاف النظم”.

 

عرف العرب سابقًا مجالاتٍ أخرى في الفصاحة والبيان غير الشعر، إلا أن ما للشعر من مَيزةٍ تتمثل في سهولةِ حفظِهِ، ساعد في استمراره مع تجاهُل أو اندثار غيره، وهذا ما يشير إليه القول: “ما تكلَّمت به العربُ من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون، فلم يُحفَظ من المنثور عُشرُهُ، ولا ضاع من الموزون عُشرُه”[1]؛ ولهذا إن أتينا لفنِّ الخطابة على سبيل المثال، سنجده قديمًا اقتصر دوره في المحافل الرسمية، وهو ما أكسبه مكانة أخلاقية رفيعة لندرة حضوره بين الناس، واقتصاره على المناسبات؛ يقول شوقي ضيف: “الخطابة كانت من لوازم سادتهم… ومن أجل ذلك كانت تقترن بها الحكمة والشرف، والرياسة والشجاعة”[2]، على عكس الشعر.

 

ومع تطوُّر حركة الأدب ما بعد التدوين، ظهر النثر منافسًا للشعر في قدرته على التعبير، وللتدليل على أن التعبير ليس حكرًا على الشعر بعد أن خسِر الشعر شيئًا من ميزته المتمثلة في سهولة الحفظ، ومن بين أشهر الكتَّاب في العصر الأموي عبدالحميد الكاتب، الذي قيل عنه: “بدأت الكتابة بعبدالحميد” فيعتبر مؤسسًا وواضعًا أصولها.

 

لن نطيل الحديث عن مراحل تطور النثر، فما يُهِمُّنا هنا هو قضية حلِّ الشعر أو النثر المنظوم، فبعد أن أصبحت الرسائل الكتابية تنافس الشعر في الأهمية؛ وفي هذا يقول الباقلاني عن الرسائل: “إن معظم براعة كلام العرب في الشعر، ولا نجد في منثور قولِهم ما نجد في منظومه، وإن كان قد أحدث البراعة في الرسائل على حدٍّ لم يُعهد في سالف أيام العرب، ولم يُنقَل في دواوينهم وأخبارهم”[3]، ومن هنا بدأت مرحلة أخرى تتمثل في تمازُج النثر والشعر معًا، فبدأت مع كتابة الرسائل التي يتخلَّلها الشعر بين أسطُرِها، ثم وصل الأمر إلى أن أصبحت هناك قضية نثر المنظوم أو نظم المنثور؛ لتكون محلَّ نقاشٍ بين النُّقَّاد ما بين مؤيِّد ومعارض؛ إذ اعتبر البعض منهم بأنه يندرج ضمن السرقات، وهذا ما أشار إليه أبو هلال العسكري[4]، حين جعل “أحد أسباب إخفاء السرقة أخذ معنى النظم وإيراده في النثر أو العكس”[5]، وعدَّه ابن رشيق[6] أيضًا من السرقات، ولم يُبقِ النثرُ للشعر سوى الوزن – على حد تعبير ابن خلدون – في قوله: “وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينه في المنثور، من كثرة الأسجاع، والتزام التقفية، وتقديم النَّسِيب بين يدي الأغراض، وصار هذا المنثور إذا تأمَّلتَه من باب الشعر وفنِّه، ولم يفترقا إلا في الوزن”، فالمسألة لم تقتصر على استعمال الأغراض الشعرية في النثر، بل كذلك من ناحية الأساليب أيضًا والسجع – والذي هو تقفية آخر الكلام – وانتشر هذا النوع من الكتابات، ونُورد مثالًا عليه للتوضيح مما جاء في رسائل التوحيدي: “ما هذا الذي تسوِّل لك نفسُك، ويدوي به قلبك، ويلتوي عليه رأيك، ويتخاوص دونه طرفك، ويسري فيه ضغنك، ويترادُّ معه نفسك، وتكثُر به صعداؤك، ولا يفيض به لسانك…”[7]، وهكذا تُكتَب بذات الأسلوب المسجوع جميعُ الرسائل، وكان مثل هذا النوع من التأليف مشهورًا في فترة من فترات ذلك العصر، وكُتبت على هذا النحو مؤلفات كثيرة، والواضح أن السجع كان فنًّا معروفًا منذ الجاهلية، فنزل القرآن بهذا الأسلوب في التناغُم والتقفية بين الآيات؛ لسهولة حفظها وتدارسها، وهو ما يشير إلى أن العرب كانوا يعرفونه ويمارسونه من قبلُ؛ مثل قوله تعالى في سورة الواقعة: ﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ﴾ [الواقعة: 10 – 17]، وأغلب السور القرآنية كانت بهذه الصورة من الترتيب والسجع، وقد تكون العودة لهذا النوع من الكتابات تأثرًا في تدارس القرآن، وتتُّبعًا لنظم آياته، أو تساهلًا عند من استصعب كتابة الشعر.

 

ونورد مثالًا في مسألة نظم المنثور (العقد)، وهو يعني تحويل النثر إلى شعر، ما صاغه شعرًا العباسُ بن الأحنف في قوله:




أُحْرَمُ مِنكم بِما أقولُ وقدْ
نالَ به العاشقونَ مَن عَشِقوا
حتى كأني ذُبالة نُصِبَتْ
تُضيءُ للنَّاسِ وهْيَ تَحْترِقُ

 

ناظمًا قول عمر بن الخطاب: “أنا لكم ذُبالة تضيء وتحترق”[8].

 

وفي قول أبي العتاهية:




مَا بَالُ مَنْ أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ
وَجِيْفَةٌ آخِرُهُ يَفْخَرُ

يرى القزويني أنه عقد قول علي بن أبي طالب: “وَمَا لابْـنِ آدَمَ وَالفَخْرَ، وَإنما أَوَّلُه نطْفَةٌ وَآخِرُهُ جِيْفَةٌ”[9].

 

أما في نثر المنظوم، فيعتبر ابن الأثير رائدًا في هذا الفن، فأورد نثرًا لهذا البيت للمتنبي:




لعلَّ عتبكَ محمودٌ عواقبُه
وربما صحَّت الأجسادُ بالعللِ

فقال: “العتاب وإن آلَمَ فإنه يشفي من أمراض الوداد، وكثيرًا ما يصح بالعلل مرضُ الأجساد”[10].

 

وأيضًا قام بحلِّ بيت المتنبي:




لا تعذل المشتاق في أشواقه
حتى يكون حشاك في أحشائه

فيقول ابن الأثير: “نثرت هذا المعنى، فمن ذلك قولي:




لا تعذل المحب فيما يهواه
حتى تطوي القلب على ما طواه[11]

فما يحاول ابن الأثير تأكيده على أن الشعر يمكن أن يكون نثرًا في تخلُّصِهِ من الوزن، وإبقاء ما للشعر من بلاغة وحسن صياغة الكلام منثورًا، وإن كان زكي مبارك يرى “أن الموضوعات هي التي تحدد نوع الصياغة، فليس ينبغي أن يُفترَض أن الشعر صالح لكل موضوع، ولا أن النثر صالح لكل موضوع، فهناك مواطن للقول لا يصلح فيها غير النثر، ومواطن أخرى لا يصلح فيها غير الشعر”[12].

 

وشخصيًّا لا أتفق كثيرًا مع قول زكي مبارك؛ إذ إن الموضوعات لا تختلف في قالبها الشكليِّ وصياغتها، ما دام الشاعر أو الكاتب قادرًا على مَنْحِها صورًا بلاغية وبيانية، وأبدع في ذلك نثرًا كان أم شعرًا، وتظل القدرة على هذه أو تلك هي النتيجة الخلَّاقة التي تمنح حُكمًا لمدى إبداع الناظم أو الناثر، وليس وفقًا للموضوع نفسه؛ أي الفارق يبقى في الصياغة، وفيما للشعر من غموض، وما للنثر من وضوح، فلا يمكن للنثر ألَّا يكون واضحًا، فيكون بمقام التفسير لرمزية الشعر وغموضه؛ لذا لا يتكئ النثر على الغموض كما الشعر، وهو ما يميز الشعر عن غيره.


[1] العمدة في محاسن الشعر وآدابه، ابن رشيق القيرواني، ج1، ص 20.

[2] الفن ومذاهبه في النثر العربي، شوقي ضيف، ص 28.

[3] إعجاز القرآن، الباقلاني، ج1، ص 155.

[4] أبو هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري، عالم لغوي وأديب.

[5] الصناعتين: الكتابة والشعر، أبو هلال العسكري، ص 178.

[6] أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني، شاعر وأديب ونحوي.

[7] رسائل أبي حيان التوحيدي، آفاق للنشر، ص 66.

[8] انظر: حلية المحاضرة، ابن المظفر الحاتمي، ج1، ص 107.

[9] انظر: الإيضاح في علوم البلاغة، الخطيب القزويني، ص 319.

[10] الوشي المرقوم في حل المنظوم، ابن الأثير.

[11] المصدر السابق.

[12] النثر العربي في القرن الرابع، زكي مبارك، ص24.







Source link

Leave a comment

Share
مكتبه السلطان – كتب كتاب حليم وامل كامل 💍 حليم حضني وعيط 👑
بداية فكرة التسجيل الصوتي للقرآن الكريم كاملا (المصحف المرتل)