الشغف بمجال الترجمة


الشَّغف بمجال الترجمة

 

تتعمق الترجمة في مكنونات اللغة، ولا تتوقف عند حدودها؛ بل تتناول ما تنقله من ثقافة ومعرفة وأفكار إلى المتلقين، فصحيحٌ أن المترجم يقوم بترجمة النص، ويبحث عن مكافآت المصطلحات، ويوافق قدر المستطاع بين أسلوب اللغة المنقول منها وأسلوب اللغة المنقول إليها، إنما الترجمة تقودنا لتخصصات أخرى مثرية، منها: القانون والطب والاقتصاد، والأدب والعلوم الدبلوماسية، والعلوم المعرفية والتجريبية، والاجتماع والوسائل التكنولوجية الحديثة، والقراءة فيها تمدُّ المترجم بالمعارف العامة عن هذه التخصصات، وهذا مهم، وكذلك تمنحه فكرة عن الكيفية التي سيُترجم بها النص الذي بين يديه، وتَمتين لغته بالمصطلحات اللازمة، فمن خلال تصفُّح مضامين هذه الميادين، يُثري المترجم مخزونه اللغوي بالمصطلحات.

ثمَّ إنَّ عمل المترجم يتطلب الهدوء التامَّ والتركيز الكبير، ولنضرب مثالًا بـالترجمة الأدبية” التي يَشْغَفُ بها كثيرٌ من طلبة الترجمة، فهي تتطلب تسخير الوقت الكافي، وتنقيح اللغة ورفع مستوى الأسلوب، ونقل الأثرِ المكافئ، والحِفاظ على مشاعر النص المصدر، وتحتاج الترجمة إلى قراءة ما دوَّنته الأنامل عديد المرات، للتأكد من تناغم الفقرات وسلاسة الأسلوب والتعبير بدقة عن مضمون ما ترجمناه.

للمترجم علاقة وطيدة بالقواميس، وأتذكَّر أنه في بدايات تعلُّقنا بالترجمة، كنا نأخذ بين أيدينا مقتطفًا من الصحافة ونُترجم الكلمات الأساسية في المقال من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية، وبعدها نبحثُ عن سِياقاتها بالضبط باللغة الفرنسية، ومَثَّلَ هذا بالنسبة إلينا نموذجًا واضحًا عن التناظر بين نصَّين، والتمعُّن في المصطلحات ومَحمولاتها الثقافية والمعرفية، بل حتَّى النصوص الطبية في الصحافة، كانت مثرية إلى حدٍّ بعيد، من خلال منح زخمٍ معرفيٍّ في تخصص الطب، من: حُقنة، خلايا، دورة دموية، دماغ وغيرها من المصطلحات، وهذا كان أكثرَ ما يجذبُ إلى الترجمة.

الترجمة لم تعد تقتصر على مجرد تخصص يُدْرَسُ بالجامعة، فهي علمٌ قائم بذاته، تارة يتعلَّق باللسانيات، وتارة أخرى ينفصل عنها الانفصال التام، ولا يتوقف هذا العلم عند حدِّ التحرير كتابةً، إنما أخذَ التعبير الشفوي منزلةً أيضًا، لِنَلِجَ حقلَ الترجمة الفورية بخصائصها المتميزة، من: طلاقة اللسان، وحُسْن نبرة الصوت، والثقافة المعرفية، وحدَّة الذكاء، وقوَّة الذاكرة، وغيرها كثيرٌ من الخصائص الأخرى.

الشغف بالترجمة من مُنطلق العلاقة باللغة ابتداءً، وأنَّها وسيلة نقل وتواصل غير أن المُثير فيها أنها تَدرس عُمْق هذا التواصل، فنَحصل على الإثراء المعرفي اللازم، والنظريات والمقاربات، والأساليب الترجمية شواهد على ذلك، ولنا: النظرية التأويلية، والمقاربة المعرفية، والأسلوبية المقارنة، والمقاربة الوظيفية، والنظرية الأدبية، والنظرية الفلسفية، والمقاربة اللسانية، وهذا هو الإثراء الذي نحن بصدد الحديث عنه.

يلزمُ لدِراسة الترجمة هذا الشَّغف، من خلال البحث اليومي، وتصفُّح مُتون الكتب والاطلاع على آراء المترجمين في الترجمة، والتمعُّن في الترجمات وخلفياتها، واقتراح آراءٍ بخصوصها، ومنح أفكار عن تحديث منظومة اللغة العربية، وتنشيط الحياة الثقافية والمعرفية بالمجتمع، والشَّغف نابعٌ من هذا الهدف بالذات، أي إنَّ للترجمة غايةً، وهي إثراء الثقافة وتعزيز المعرفة، والإفادة على جميع الأصعدة.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
اللاعنف في الإسلام
الملل والنحل ، المذاهب الإسلامية