الشمس وحرارتها آية بينة (خطبة)


الشمس وحرارتها آية بيِّنة

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:

فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهَدْيِ هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

إن آيات الله عز وجل في الكون عجيبة باهرة، تدل على عظيم قدرة الله، وبديع خلقه وصنعه، وإذا تأمل المرء في خلق الله وتفكَّر وتدبَّر، فإن إيمانه يزداد، ويقينه في الله يقوى ويعظُم، وكثيرًا من الآيات في كتاب الله عز وجل يأمرنا بالنظر في الأرض وفي السماء نظرَ تفكُّر واعتبار؛ حتى يقوى هذا الأصل العظيم، ويتعمق في قلب العبد، وينشأ عنه خصاله وشُعَبُه؛ وهو الإيمان بالله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 185].

 

ينفعك إيمانك في حياتك عبدَ الله، فلا تزال منعمًا في الدنيا وفي الآخرة، ما دمت مؤمنًا، ودمت على الإيمان.

 

ومن عظيم آيات الله تعالى المشاهَدة، ومخلوقاته العجيبة، هذه الشمسُ التي نراها بأعيننا، ونُحِسُّ بآثارها، وننتفع بضوئها، وهي آية النهار.

فيها من الآيات ما يبهر النفوس، وأنها مخلوقة مسخَّرة مدبَّرة.

 

قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54].

 

﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس: 5].

 

﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ [إبراهيم: 33].

 

﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [يس: 38].

 

عن أبي ذرٍّ رضي الله تعالى عنه قال: ((كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس، فقال: يا أبا ذرٍّ، أتدري أين تغرب الشمس؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فذلك قوله تعالى: ﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [يس: 38]))[1].

 

ومن عظيم آيات الشمس التي خلق الله عز وجل فيها ذلك الحر الشديد، الذي هو آية وعِظة، وطريق إلى الله، وسَير له ولدار كرامته، والاستعاذة به سبحانه من شر خلقه، ومن شر حرها؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((اشتكَتِ النار إلى ربها، فقالت: ربِّ أكَلَ بعضي بعضًا، فأذِن لها بنَفَسَين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحرِّ، وأشد ما تجدون من الزَّمهرير))[2].

 

وهذا الحرُّ – عباد الله – يذكِّرنا بحرِّ جهنمَ: ﴿ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا [المزمل: 12، 13].

 

ويقول أهل الجنة بعضهم لبعض في الجنة: ﴿ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور: 27، 28].

 

وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تقرأ في الصلاة: ﴿ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ﴾ [الطور: 27]، فتقول: “مُنَّ عليَّ وقِني عذاب السموم”[3].

 

وسموم – عباد الله – هي الريح الحارة تدخل المسامَّ، نسأل الله العافية.

 

وهذا الحر الذي بلغ غاية في الحرارة، وأن أحدنا لا يقدر على أن يقف فيه مدة يسيرة، فكيف بعذاب الله إن وقع ليس له دافع؟ ﴿ يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم: 17].

 

عباد الله، إن هذا الحر الشديد لا يكون سببًا في تركنا الفرائضَ، بل نصلي الصلاة في وقتها في بيت من بيوت الله، منشرحي الصدر، راغبين في الخير، نريد ما عند الله، ونتذكر قول من نكثوا عن الجهاد في سبيل الله من المنافقين: ﴿ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة: 81].

 

والمشي إلى الصلاة في بيت من بيوت الله أيسرُ من ذلك بحمد الله، نسأل الله تعالى أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه من كل ذنب يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه؛ أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنكم ملاقو الله، فقدموا لأنفسكم ما يقربكم إلى الله والجنة، ويباعدكم عن سخطه والنار؛ ﴿ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون: 102، 103].

 

عباد الله:

إن من عظيم ما نستفيد من آية الشمس وما ينشأ عنها من حرٍّ شديد أن نشكر الله على نعمه العظيمة، التي أنعم بها علينا من نعمة السكن والظلال والثياب؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل: 81].

 

فجعل لنا بيوتًا نستقر بها، وجعل لنا من المكيفات والمبردات ومن وسائل النقل ما يحفظنا من الحر، فلله الحمد وله الشكر على الدوام.

 

ومن عظيم الدروس – عباد الله – الصبر على ذلك الحرِّ؛ فإن الصبر على أقدار الله المؤلمة من أعظم مقامات الدين، ولا نجعل ذلك مادة للسخرية والاستهزاء، فلو نظرت إلى أناس، جماعاتٍ جماعات، أكلهم الحرُّ، وأصابهم الجوع، لا يجدون مكانًا يؤويهم، ولا لقمة تسد جوعهم، ولا ثيابًا تستر جميع أجسادهم، ما يجعلنا نشكر الله شكرًا كثيرًا.

 

وفي هذه الأحوال الشديدة عباد الله، علينا أن نقوم بسُقيا الماء الذي هو من أعظم الصدقات – إن لم يكن أعظمها – للمارة وللطيور وللبهائم – ولا سيما في الأماكن التي يقل فيها الماء والأماكن المنقطعة – ولا سيما أهل البر والإبل والغنم – فنجعل لهم أحواضًا تملأ ماءً، حتى يُطفَأ عطش عطشان، وظمأ صَدْيان؛ وفي الحديث: ((في كل كبد رطبة أجر))[4].

 

وعلينا – عباد الله – أن نستشعر نعمة الكهرباء التي لم تكن من قبل، فإنها والله نعمة عظيمة اندفع بسببها كثير من الشر، وجلبت لنا خيرًا كثيرًا، فنحمد الله ونشكره على ذلك، وعلينا أن نسترشد في استعمال الكهرباء، ولا نسرف في استعمالها، ونقوم بتشغيل ما نحتاج إليه باقتصاد واعتدال، فلا إسراف ولا تبذير.

 

نسأل الله تعالى أن يمُنَّ علينا بهداية من عنده، وأن يحفظنا بحفظه.


[1] البخاري (4802)، ومسلم (159).

[2] أخرجه البخاري (3260)، ومسلم (617).

[3] حلية الأولياء، 2/ 47.

[4] البخاري، 2466.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
الدراسات الإستشراقية، رؤية وايضاح في المنهج
همسة ود