الشيخ هيثم إدلبي كما عرفته


الشيخ هيثم إدلبي كما عرفته

 

صَحِبتُ الشيخَ الداعيةَ هيثم إدلبي أستاذًا وجارًا ومربيًا ناصحًا، أكثرَ من ثلاثين سنةً ألخِّصُها الآن بهذه الكلمات التي تصفُ ما عايشته ولامسته شخصيًّا، وإن كانت لا تفي بمقام الشيخ رحمه الله.

 

الشيخ هيثم جارًا:

جاورتُ الشيخ هيثم منذ أن عاد من دَير عَطِيَّة إلى بيته في الزاهرة وعرفتُه من قربٍ، فوجدتُّه نِعمَ الجارُ خُلقًا وأحسنهم تعاملًا، يحفظ حقَّ جاره ويكرمه ويطعمه من طعامه ويستقبله في داره، مطبِّقًا سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم.

 

أذكر أن في حديقة بيت الشيخ مجموعةً من نباتات الزينة وشجرة ليمون، وكان يعتني بها بيده وينظفها ويسقيها كلَّ يوم في الصيف بعد صلاة الفجر، حتى إذا أثمرت طرق عليَّ البابَ وأعطاني ثمراتٍ منها. وفي رمضان كان يجيء بوعاءٍ من العِرقسوس كلَّ جمعة ويأتي به إلى بيتي بشخصه، وإذا امتنعتُ عن أخذه ألحَّ عليَّ وحدَّثني بكلماتٍ تدلُّ على تواضعه الجمِّ كأن يقول: (هذا ما أستطيع تقديمَه وهو لا يساوي شيئًا من أفضالكم)!.

 

ومما عرفتُه عنه أنه كان يصنع الطعامَ بيديه ويطبخه، وعندما يُعِدُّ الطعامَ كان يأتي ويقول: (لقد اشتهيتكم بهذا الطعام). وكان يدعوني وأولادي إلى بيته ويُتحفنا بلطائفه الفريدة وذكرياته العذبة ونصائحه الثاقبة، ويقول لي: (أنت تطرق البابَ وتدخل البيتَ دون موعد). وكان يزورني في بيتي في كل مناسبة ويُضفي على المجلس حُسنًا ودُعابة ومعرفة، فكان في كل نجاح لأبنائي في الشهادة يأتي خصِّيصَى ويهنِّئهم ويقدِّم لهم كتابًا هديةً ويشجِّعهم على المضيِّ قدُمًا في طلب العلم والتحصيل.

 

ومن فرائد الشيخ أنه كان في الأعياد يزورُ جيرانه في الحيِّ بيتًا بيتًا، حتى وإن كان أحدُهم ليس من روَّاد المساجد، ويُضفي السرورَ على أهل البيت فيجلس هُنَيهةً ويمضي دون أن يكلِّفَهم شيئًا.

 

لازمتُ الشيخ في جامع زيد منذ أن عاد من دير عطية، كنت أصحَبُه في ذهابه إلى الجامع بالدرَّاجة الهوائية، فكان نِعمَ الصاحبُ والرفيق. وفي جامع الأشمر كنت أروح وأعود معه في صلاتَي الفجر والعشاء، كما صاحبته عدَّة مرَّات في زياراته لدير عطية في السنوات الأخيرة، لن أنسى تعاملَه الذي لا يوصَف في تلك الأثناء.

 

وكان لي تواصلٌ مع بعض تجَّار دير عطية، وعندما علموا أني من طلَّاب الشيخ هيثم زادت ثقتُهم بي؛ إذ كانوا يُكِنُّون له كلَّ الاحترام والتقدير، ويُثنون عليه وعلى أعماله الدعوية المؤثِّرة في نفوسهم وصلاحهم وقربهم من الله عز وجل، وكنتُ إذا سمعتُ كلامهم شعرت أن الشيخ واحدٌ من أهلهم وأقربائهم لما تركَ في قلوبهم من محبَّة له.

 

الشيخ هيثم داعيةً:

كان الشيخ هيثم واسعَ الاطِّلاع، كثيرَ القراءة، لا ينتهي من مطالعة كتاب إلا ويبدأ بكتاب جديد. ويتابع آخرَ الرسائل والأبحاث العلمية، ويحدِّد على الكتب المواضيعَ المهمَّة ليسهلَ الرجوعُ إليها، ويدوِّن في أوراقٍ خاصةٍ أبياتَ الشعر واللطائفَ ليراجعها ويحفظها، وغدت مكتبتُه موسوعةً شاملة فيها من كل أصناف العلوم.

 

ومن الجدير ذكرُه أن للشيخ ذاكرةً عجيبة، فهو يحفظ آلافَ أبيات الشعر، ولا يخلو مجلسٌ من مجالسه من ذكر قصائدَ للشيخ عبد القادر القصاب لما فيها من حكمة، وله في كل درس طُرَفٌ ظريفة ولفَتاتٌ لطيفة في اللغة العربية. وكان يحضُّ طلَبة العلم ألا يذهبوا إلى مكان إلا والقلمُ معهم حتى يدوِّنوا ما يرَونَه مفيدًا ونافعًا. وممَّا يميز الشيخَ علمُه الواسع بعلوم البلاغة والإعراب وعلم المنطق وعلم الفرائض والعقيدة وأصول الفقه، فكان يشرحها بطريقة تدخل العقلَ بسهولة.

 

وممَّا حدثني به أنه كثيرًا ما كان يُعرَض عليه الظهورُ في الإعلام بحلَقاتٍ لبرنامجٍ خاصٍّ وبمقابلٍ مادِّي، ولكنَّه لم يرضَ بذلك؛ لأنه كان لا يحبُّ الشهرةَ ولا يحبِّذ الأضواءَ والكاميرات بل كان همُّه الدعوة إلى الله، والتواضع شيمته طَوالَ حياته، وقد أوصى تلامذتَه بنبذ الظهور وعدم نشر كل صغيرة وكبيرة تحدُث في المساجد، بل كان عملُ الشيخ خالصًا لوجه الله – نحسَبه كذلك ولا نزكِّيه – يرفض الأجرَ والمال {قُل لا أسألُكُم عليهِ أجرًا} وهذا ما يُبرز الورعَ الشديد الذي عُرف به رحمه الله.

 

كان الشيخُ عند إقامة الصلاة يلتفت يَمْنةً ويَسْرةً ليكلِّفَ أحدَ طلَّابه بالإمامة؛ تواضُعًا منه وتشجيعًا لهم على ذلك. ويعرف كلُّ مَن لقيَ الشيخ هيثم أنه كان يرفض رفضًا قاطعًا أن يقبِّلَ أحدٌ يده أيًّا كان طفلًا أو شابًّا أو شيخًا، وكان يقول لمن يحاول ذلك: (تقبيل اليدَين يكون للوالدَين بِرًّا بهما).

 

ومن عادة الشيخ هيثم أنه كان يُسند مهمَّة التدريس للشباب، ويعتني بهم عنايةً خاصَّة، ويشاركهم همومهم ويعمل على حلِّها. وكان يُولِي الأطفالَ أهميةً كبيرةً في المساجد ويشرف بنفسه على تلقينهم وتسميع القرآن لهم، كما كان في بداية كلِّ درسٍ يعلِّمهم دعاءً أو ذِكرًا مأثورًا ويكرِّره لهم ليحفَظُوه ويطبِّقُوه في كلِّ يوم.

 

وقد ألَّف الشيخ سلسلة (الثقافة الإسلامية للناشئة) التي انتشرَت انتشارًا واسعًا في معاهد تحفيظ القرآن منذ عشرين سنة، ولم يكتُب اسمَه على غلاف تلك الكتب، بل كتب (إعداد مركز زيد بن ثابت) فانظر إلى إخلاصه وتواضُعه!

 

كان الشيخ هيثم ذا إدارةٍ حكيمةٍ حازمة، يعرف ذلك من عمل معه في معاهد تحفيظ القرآن، وكان يُلقي محاضراتٍ عديدةً عن فنِّ التدريس ومواصفات المدرِّس الناجح والطريقة المُثْلى للتعامل مع الطلَّاب. ومع تواضُعه الشديد كان قويَّ الشخصية مَهِيبًا في إدارته وإشرافه على المعاهد واللجان.

 

وكان يذكُر إخوانه العلماء دومًا بخير، ويدعو لهم بالعودة إلى الشام عمَّا قريب، كما كان يبكي بحُرقة كلَّما ذَكَر أولئك المفكِّرين الكبار الذين أثَّروا فيه، ويرجو لهم الخيرَ والتوفيق.

 

عندما أُصيبَ الشيخ هيثم بكورونا (كوفيد 19)، أخذَ بأسباب الشِّفاء، حتى إذا تحسَّنت صحَّتُه لم يذهب إلى المسجد مباشرةً؛ حِرصًا على ألا تنتقلَ العدوى إلى أحدٍ من المصلِّين، فمكَثَ في بيته إلى أن تماثلَ للشفاء التام.

 

تشرَّفتُ بأن أسندَ إليَّ الشيخُ النيابةَ عنه بالخَطابة في جامع الأشمر، عندما ذهب لأداء فريضة الحجِّ في التسعينيات، وعند عودته قدَّم لي هديةً خاصَّة، ووكَّلَني بإمامة صلاة الفجر في جامع الأشمر عدَّة سنوات، فكان الشيخ ينصَحُني دائمًا بعدم إطالة الصلاة؛ رحمةً بالمصلِّين وروَّاد المسجد كبارًا وصغارًا.

 

الشيخ هيثم مربِّيًا:

تسلَّم الشيخ هيثم إمامةَ جامع الأشمر في أواخر حياة الشيخ عبد الرحمن الخطيب رحمه الله، ونهض به نهضةً مباركة، فأقام حلَقات العلم ودورات تحفيظ القرآن الكريم المكثَّفة والدورات الصيفية، حتى تخرَّج في الجامع خيرُ الشباب القارئين والمقرئين؛ أذكر منهم الأساتذة: صالح الأحمد، ود. أنس ناجي، ومعتز القيم (وهو صهر الشيخ)، ونور الدين صالحاني، وغيرهم الكثير.

 

كان للشيخ طريقةٌ ساحرةٌ في جذب الشباب والدخول إلى قلوبهم، فكان يستمع إلى همومهم ويجيب عن تساؤلاتهم العقيدية المحيِّرة التي ينتقدها الكثيرون، ويجيبهم عنها بعلمٍ ومنطق؛ إذ كان عالمًا بالمنطق والفلسفة متعمِّقًا بهما، وكان يعامل كلَّ شابٍّ حسَب اختصاصه، فإذا كان طبيبًا جذبه بطريقة تناسبه، أو كان مهندسًا دعاه بطريقة أُخرى تناسبه، وهكذا مع كلِّ فئات المجتمع.

 

وكان الشيخُ يقول للشباب: (أيها الشباب، نحن اليومَ في زمنٍ نحتاج فيه إلى دعوة المسلمين إلى الإسلام أكثرَ من دعوة الكفَّار إليه، فكونوا أهلًا لذلك). ومنذ نحو عشر سنين أعاد الشيخُ افتتاح الدورات القرآنية والتعليمية، واستقطب شبابَ الحيِّ بدروسٍ خاصَّة يقرأ فيها كتبًا في مختلِف الاختصاصات؛ كالدروس النحوية في اللغة العربية، والمعرفة في بيان عقيدة المسلم، والمقدِّمة الحضرمية وغيرها. فأعاد للجامع حيويته بعد انقطاعٍ طويل، كما أقام الشيخ كلَّ جمعة بعد صلاة الفجر جلسةَ الصفا يقرأ فيها الأوراد التي انتقاها الشيخُ عبد الكريم الرفاعي، ثم يشرح كتابَ (سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) للشيخ عبد الله سراج الدين.

 

أمَّا دروسُ حَلْقتنا القديمة فقد قرأنا فيها أخيرًا في غرفة الشيخ في جامع الأشمر كتبَ (الإتقان في علوم القرآن) للإمام السُّيوطي، و(جامع الدروس العربية) للشيخ مصطفى الغلاييني، و(رسالة المُسترشِدين) للإمام المُحاسِبي، وقد حالت وفاةُ الشيخ ويا للأسف دون أن نُتِمَّ قراءة (الإتقان) وقد وصلنا إلى منتصف المجلد الثاني تقريبًا، وجامع الدروس العربية، وكان هذا الدرس يُعقَد كلَّ اثنين بعد صلاة العشاء ويحضُره إخوةٌ أذكر منهم: معاذ الحريري، عصام موصللي، حسام زغلول، عبد الهادي القاوقجي، أحمد عبيد، محمد الشقيري، ياسين عجلوني.

 

وفاته وجنازته:

اتصل بي الشيخُ يوم الاثنين 24 ربيع الأول 1445هـ (9/ 10/ 2023م) في الساعة السابعة مساءً قُبَيل أذان العشاء، وأخبرني أن أعتذرَ إلى الشباب عن الدرس، ولم يكن من عادته أن يعتذرَ في نفس اليوم؛ إذ كان محضِّرًا لدرسه، ولم يظهر على حديثه أيُّ تعب أو ألم، وبعد نحو ساعةٍ علمنا أن الشيخ قد فارقَ الحياة، فكانت صدمةً كبيرةً عميقةً غيرَ متوقَّعة.

 

صُلِّيَ على الشيخ هيثم ظهرَ اليوم التالي في جامع زيد بن ثابت الذي نشأ وتربَّى فيه، وغَصَّ الجامعُ بالمشيِّعين، وأمَّ الصلاةَ عليه رفيقُ دربه العلَّامة المحدِّث محمَّد نعيم العِرقسُوسي، وألقى كلمةً قصيرةً عن محاسن الشيخ. وكان في التشييع كبارُ العلماء كالشيخ نذير مكتبي، والشيخ أحمد رباح أبو فارس، والشيخ ياسر القضماني، والدكتور عبد الله الكتَّاني، والشيخ إسماعيل الزبيبي، والدكتور بديع السيِّد اللحَّام. وخرجت الجنازةُ وأغلقت الشوارعَ المؤدِّية إلى تُربة باب الصغير التي امتلأت بطلَّاب العلم وأحباب الشيخ، وصُلِّيَ عليه مرَّةً أُخرى في المقبرة بإمامة الشيخ ياسر القضماني، فرحمه الله تعالى وعوَّضه الجنَّة وجزاه عن المسلمين خيرَ الجزاء.

 

الشيخ هيثم إدلبي كما عرفته

الشيخ هيثم إدلبي رحمه الله





Source link

أترك تعليقا
مشاركة
اليابان المعاصرة المجتمع والهوية الثقافية… كتاب جديد عن كوكب اليابان
كتاب من "كهرباء لبنان" إلى وزير المال – صوت بيروت إنترناشونال