العدل بين الأولاد في العطية
العدل بين الأولاد في العطية
الحمد لله الحَكَمِ العدل الجليل، الذي يقول الحق ويهدي السبيل، أحمَده سبحانه على سوابق فضله الجزيل، وأشهد أن لا إله إلا الله، اتَّصف بالعدل، وجعله اسمًا من أسمائه الحسنى لنستبين طريقَ الحق والعدل، وأشهد أن محمدًا رسول الله، خير من أقام العدل بين الناس، وطبَّقه على نفسه وذويه، فأرشدنا إلى خير السُّبُلِ، وهدانا إلى صراط الله الحميد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهَدْيِهِ، واتَّبع سُنَّتَه إلى يوم الدين؛ أما بعدُ:
• فيجب على الأب أن يعدِلَ في الهِبَةِ بين أولاده؛ لما روى البخاري ومسلم، عن النعمان بن بشير ((أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نَحَلْتُ ابني هذا غلامًا فقال: أكلَّ ولدك نحلتَ مثله؟ قال: لا، قال: فارجعه))، ومعنى: (نحلت ابني غلامًا) أي: أعطيتُه غلامًا عبدًا.
ورواه البخاري عن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: ((أعطاني أبي عطيَّةً، فقالت عَمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشهِدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيتُ ابني من عمرة بنت رواحة عطيَّةً، فأمرتني أن أُشهِدك يا رسول الله، قال: أعطيتَ سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا، قال: فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم، قال: فرجع فردَّ عطِيَّتَه)).
وفي لفظ لهما: ((قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفعلتَ هذا بولدك كلهم؟ قال: لا، قال: اتقوا الله، واعدلوا في أولادكم، فرجع أبي فردَّ تلك الصدقة)).
وفي لفظ لمسلمٍ عن الشعبي، حدثني النعمان بن بشير أن أمَّه بنت رواحة سألت أباه بعض الموهبة من ماله لابنها، فالتوى بها سنةً، ثم بدا له فقالت: لا أرضى حتى تُشهِدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما وهبتَ لابني، فأخذ أبي بيدي، وأنا يومئذٍ غلامٌ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمَّ هذا بنت رواحة أعجبها أن أُشهِدَك على الذي وهبتُ لابنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بشيرُ، ألك ولدٌ سوى هذا؟ قال: نعم، فقال: أكلهم وهبتَ له مثل هذا؟ قال: لا، قال: فلا تُشهِدْني إذًا؛ فإني لا أشهَدُ على جَورٍ)).
ووجه الدلالة من الحديث ظاهرةٌ من وجوه:
الأول: أمره بالعدل والأمر يقتضي الوجوب.
الثاني: بيانه أن تفضيل أحدهم أو تخصيصه دون الباقين ظلم وجَورٌ، إضافة إلى امتناعه عن الشهادة عليه وأمره بردِّه، وهذا كله يدل على تحريم التفضيل.
واستدل العلماء أيضا بحُجَجٍ عقلية؛ فمنها:
ما ذكره ابن حجر في فتح الباري؛ حيث قال رحمه الله: “ومن حُجَّةِ مَن أوجب: أن هذا مقدمة الواجب؛ لأن قطع الرحم والعقوق محرَّمان، فما يؤدي إليهما يكون محرمًا، والتفضيل مما يؤدي إلى ذلك”.
ويؤيد ذلك ما جاء في لفظ عند مسلم قال: ((فأشْهِدْ على هذا غيري ثم قال: أيسُرُّك أن يكونوا إليك في البِرِّ سواءً؟ قال: بلى، قال: فلا إذًا)).
وفي رواية صحيحة عند ابن حبان: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل لك معه ولد غيره؟ قال: نعم، قال: فهل آتيتَ كلَّ واحدٍ منهم مثلَ الذي آتيت هذا؟ قال: لا، قال: فإني لا أشهد على هذا، هذا جَورٌ أشهِدْ على هذا غيري، اعدِلوا بين أولادكم في النُّحل، كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البِرِّ واللُّطفِ)).
قال ابن القيم رحمه الله مبينًا وجوبَ العدل بين الأبناء: “وهذا أمر تهديدٍ لا إباحة؛ فإن تلك العطيةَ كانت جورًا بنص الحديث، ورسول الله لا يأذَن لأحدٍ أن يشهَدَ على صحة الجَورِ، ومن ذا الذي كان يشهد على تلك العطية، وقد أبى رسول الله أن يشهد عليها، وأخبر أنها لا تصلح، وأنها جور، وأنها خلاف العدل؟”.
فتفضيلُ بعضهم على بعض يُورِث حتمًا العداوة والبغضاء فيما بينهم، وأيضًا فيما بينهم وبين أبيهم، فمنع منه.
وعن إبراهيم قال: كانوا يستحبُّون أن يعدِلَ الرجل بين ولده حتى في القُبَلِ.
وهذا عمر بن عبدالعزيز رحمه الله يضمُّ ابنًا له وكان يحبه، فقال: يا فلان، والله إني لأحبك، وما أستطيع أن أُوثِرَك على أخيك بلُقمة.
• والحديث وإن كان واردًا في الأب، وكذلك الأم يشملها النهي؛ فهي أحد الوالدين، وهي داخلة في عموم الحديث قطعًا؛ لأن المفسدة المتوقَّعة بتفضيل الأب متوقَّعة بتفضيل الأم.
• والعطية كالميراث؛ فالعدل بين الأولاد في الهِبَةِ يكون بإعطاء الذكر مثل حظِّ الأُنْثَيَينِ؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (الاختيارات): “ويجب التعديل في عطية أولاده على حسب ميراثهم؛ وهو مذهب أحمد”؛ [انتهى].
وقال شريح القاضي لرجل قسم ماله بين أولاده: “قسمة الله أعدل من قسمتك، فاردُدْهم إلى قسمة الله وفرائضه، وأشْهِدْني، وإلا فلا تُشهدني، لا أشهد على جَورٍ”؛ [رواه ابن أبي شيبة في مصنفه].
وقال عطاء: “ما كانوا يقسِّمون إلا على كتاب الله تعالى”؛ [المغني].
• وقال بعض أهل العلم: إن العلماء اختلفوا في صفة التسوية بين الأولاد؛ فقال محمد بن الحسن وأحمدُ وإسحاقُ، وبعض الشافعية والمالكية: العدل أن يُعطَى الذَّكَرُ مثلُ حظِّ الأُنْثَيَينِ كالميراث، وقال غيرهم: يُسوَّى بين الذكر والأنثى؛ وهذا القول الأخير هو الأظهر إن شاء الله؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((سوُّوا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضِّلًا أحدًا، لَفضَّلْتُ النساء))؛ [أخرجه سعيد بن منصور، والبيهقي من طريقه، وحكم الحافظ في الفتح بأن إسناده حسن].
ويحرُم على الأب أو الأم تفضيلُ بعض الأولاد لغير سبب، ولتصحيح الخطأ؛ فالأبوان لهما أحد أمرين:
1- إما استرداد العطية والرجوع فيما وهباه، والأصل حرمة استرداد العطية، لكن الأبوين مستثنيان من ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحِلُّ للرجل أن يُعطيَ العطية ثم يرجع فيها، إلا الوالد فيما يُعطي ولده))؛ [رواه الإمام أحمد وغيره بإسناد صحيح].
2- أو إعطاء بقية الأولاد، للذكر مثل حظ الأنثيين؛ اقتداءً بقسمة الله، فلا أعدل من الله عز وجل، ولأن هذا المال لو بقِيَ حتى الوفاة، لاستحقوه على هذه الصفة، إضافةً إلى أن حاجة الذكر أكثر من حاجة الأنثى؛ فنفقتها تَجِبُ على غيرها، بخلاف الذكر، تَجِبُ نفقته ونفقة من تحته عليه.
• قال ابن قدامة في المغني: “ولا خلاف بين أهل العلم في استحباب التسوية، وكراهة التفضيل”.
ثم اختلفوا في حكم التفضيل بينهم على أقوالٍ، أقواها من جهة الدليل قولان؛ وهما:
القول الأول: أنه يحرُم التفضيل مطلقًا؛ وهو المشهور عند الحنابلة، وهو مذهب الظاهرية؛ يعني: سواء كان هذا التفضيل لسببٍ أو لغير سبب.
القول الثاني: أنه يحرُم التفضيل إلا إذا كان لسببٍ شرعيٍّ؛ وهو رواية عن أحمد اختارها ابن قدامة في (المغني)، وابن تيمية في (مجموع الفتاوى).
واستدلَّ أصحاب القول الثاني على جواز التفضيل لحاجة أو مصلحة أو عذرٍ بما رواه مالك في الموطأ بسنده عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: “إن أبا بكر الصِّدِّيق كان نحلَها جادَّ عشرين وَسْقًا من ماله بالغابة – موضع – فلما حضرته الوفاة – لما مرِض مرضَه الذي تُوفِّيَ منه وأحسَّ من أسباب الموت ما تيقن به الوفاة – قال: والله يا بُنية ما من الناس أحدٌ أحب إليَّ غِنًى بعدي منكِ، ولا أعز عليَّ فقرًا بعدي منكِ – قال لها هذا القول على سبيل التأنيس لها – وإني كنت نحلتُكِ جادَّ عشرين وَسْقًا – جداد عشرين وسقًا من تمرِ نخلِهِ إذا جدَّ – فلو كنتِ جددتِهِ واحْتَزْتِه، كان لكِ – يقتضي أن الحيازة والقبض شرط في تمام الهبة، وأنها لما لم تحُز ما وهبها في صحته لم تتم الهبة – وإنما هو اليوم مالُ وارثٍ، وإنما هما أخواك وأختاك، فاقتسِموه على كتاب الله، قالت عائشة: فقلتُ: يا أبتِ، والله لو كان كذا وكذا لتركتُه، إنما هي أسماءُ، فمَنِ الأخرى؟ فقال أبو بكر: ذو بطن بنت خارجة، أراها جاريةً”؛ [قال ابن حجر في الفتح: إسناده صحيح، ورواه الإمام مالك في الموطأ بإسناد صحيح].
ووجه الدلالة منه ما ذكره ابن قدامة: “يحتمل أن أبا بكر خصَّها بعطية لحاجتها وعجزها عن الكسب، مع اختصاصها بالفضل، وكونها أمَّ المؤمنين، وغير ذلك من فضائلها”، ففضَّل الصِّدِّيق ابنته الصِّدِّيقة بعشرين وسقًا من التمر من بين أولاده، وأقرَّته عائشة على ذلك.
وعن القاسم بن عبدالرحمن الأنصاري: أنه انطلق هو وابن عمر حتى أتَوا رجلًا من الأنصار، فساوموه بأرضٍ له، فاشتراها منه، فأتاه رجل فقال: إني رأيتُ أنك اشتريت أرضًا وتصدقت بها، قال ابن عمر: “فإن هذه الأرض لابني واقد؛ فإنه مسكين”، نَحَلَهُ إياها دون ولده؛ [رواه البيهقي بإسناد حسن، وهذا القول رواية في مذهب الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام].
لكن أُجيبَ عنه بما ذكره الحافظ في الفتح قال: “قد أجاب عروة عن قصة عائشة بأن إخوتها كانوا راضِينَ بذلك”.
وقد أطلق ابن القيم رحمه الله في (إغاثة اللهفان) القولَ بالتحريم؛ وقال: “لو لم تأتِ السُّنَّة الصحيحة الصريحة التي لا معارِضَ لها بالمنع منه، لكان القياس وأصول الشريعة، وما تضمَّنته من المصالح ودرء المفاسد يقتضي تحريمه“.
• والراجح أنه يجب التسوية بين الأولاد في العطية، إلا إذا وُجِد مُسوِّغٌ شرعيٌّ للتفضيل على الراجح من أقوال أهل العلم رحمهم الله تعالى.
فيجوز تفضيل بعض الأولاد على بعض في حالين:
الأولى: إذا رَضِيَ بقية الأولاد بتفضيل أحدهم؛ لأن النهيَ لأجلهم، فلهم إسقاطُ حقِّهم.
الثانية: إذا كان التفضيل لمعنًى في المفضَّل؛ لصلاح المفضَّل، أو كونه في عون أبويه، أو ضعفه، أو غير ذلك من الأوصاف؛ لأن هذا هو العدل، والمساواة مع مَيزةٍ لأحدهم ليس من العدل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “والحديث والآثار تدل على وجوب العدل… ثم هنا نوعان:
1- نوع يحتاجون إليه من النفقة في الصحة والمرض، ونحو ذلك، فالعدل فيه أن يُعطِيَ كل واحد ما يحتاج إليه، ولا فرقَ بين محتاج قليل أو كثير.
2- ونوع تشترك حاجتهم إليه، من عطية أو نفقة أو تزويج، فهذا لا ريب في تحريم التفاضل فيه.
وينشأ من بينهما نوع ثالث؛ وهو أن ينفرد أحدهم بحاجة غير معتادة؛ مثل: أن يقضي عن أحدهم دَينًا وجب عليه من أَرْشِ جناية – عقوبة مالية تُدفَع مقابل كل جناية بدنية – أو يعطي عنه المهر، أو يعطيه نفقة الزوجة، ونحو ذلك، ففي وجوب إعطاء الآخر مثل ذلك نظرٌ”.
وقال ابن قدامة رحمه الله في (المغني): “فإن خصَّ بعضهم لمعنًى يقتضي تخصيصه؛ مثل: اختصاصه بحاجة، أو زَمانة، أو عَمًى، أو كثرة عائلة، أو اشتغاله بالعلم، أو نحوه من الفضائل، أو صرف عطيته عن بعض ولده لفسقه، أو بدعته، أو لكونه يستعين بما يأخذه على معصية الله، أو ينفقه فيها؛فقد رُوِيَ عن أحمدَ ما يدل على جواز ذلك؛ لقوله في تخصيص بعضهم بالوقف: لا بأس به، إذا كان لحاجة، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثَرَة، والعطية في معناه”؛ [انتهى].
وقال الشيخ أبو الفيصل البدراني في (المسلم وحقوق الآخرين): “فلا يجوز تفضيل بعض الأبناء على بعض في الهبة والعطية دون سبب شرعي، وضابط التفضيل المحرَّم بين الأولاد: هو كل تفضيل من غير حاجة ولا مسوِّغ معتبر، يُورِث البغضاء والشحناء والتنافر في قلوب الإخوان، ويُذكِي العداوات بين الأولاد”؛ [انتهى].
فعلى هذا يجوز أن يَرْفِدَ الأبوان أحدَ أبنائهما لفقرِهِ، أو لعدم وجود عمل له، أو لإصلاح سيارته، أو تسديد ما عليه من حقوق للآخرين، وغير ذلك، ولا يلزمهما إعطاء بقية الأولاد، وكذلك يجوز أن تُخَصَّ بعض البنات المتزوجات بعطية؛ لأجل حاجة زوجها، أو لكونه لا يعطيها حوائجها وحوائج أولادها.
ولا شكَّ أن تحفيز بعض الأبناء على الدراسة، أو التفوق، أو حفظ القرآن، أو نحو ذلك هو من المعاني المعتبرة، والمقاصد المشروعة الصالحة، فإذا كافأ الوالد ولدَه الْمُحْسِنَ في ذلك، أو المجِدَّ المجتهد، فلا بأس به؛ لأن ذلك ليس تفضيلًا محضًا، وإنما هو تفضيل لمعنًى معتبر، ظاهرٍ للأبناء.
وإنما الممنوع من ذلك أن يجتهد أكثر من واحد من أبنائه، أو ينجح، أو نحو ذلك، فيُعطي بعضهم دون بعض.
وإذا كان عنده غير واحد من الأولاد، ممن يحفظ أو يطلب العلم، فلا ينبغي له أن يكافئ بعضهم دون بعض؛ لأن هذا مَدعاةٌ إلى تكاسل مَن لم يكافئه، وإهماله لشأنه، لا سيما إن نجحوا جميعًا، أو بذلوا ما عندهم؛ فلا شكَّ أن هذا منعه ظاهر.
فالمكافأة إذا كانت للتشجيع على الحفظ أو طلب العلم، فهذا مَقْصِد معتبر، يُشرع التفضيل لأجله، لكن ليس له أن يخصَّ بعض ولده دون بعض، إن اجتهدوا، أو حفظوا جميعًا.
فإن تفاوتوا في الحفظ، فكان بعضهم أسرع حفظًا، أو أكثر محفوظًا من بعض، فلا يعطي الأفضل منهم، ويَدَع الآخر بالكُلية، فإن كثيرًا من هذا التفاوت لا يكون مرجعه إلى الجِدِّ والإهمال، بل يكون لتفاوت الْمَلَكَاتِ والقدرات، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فإن رأى أن الأقل حظًّا منهم بَذَلَ مجهوده، فليس له أن يمنعه المكافأة والعَطِيَّة.
وفي هذه الحالة إن أعطى الأكثر حفظًا، أو الأعلى درجة، أكثرَ ممن هو دونه، فهذا محل نظر، وتردد.
ولو سوَّى بينهم لكان أحسن، وأبرأ لذمَّتِهِ على كل حال، ما دام ذلك لا يترتب عليه مفسدة الإهمال، ولا التضييع.
إذا لم يكن عند بعض الأبناء مَلَكَةُ الحفظ، أو التفوق الدراسي، أو نحو ذلك، فينبغي العناية به، وتنمية مواهبه وملكاته في الباب الذي يُحسِنه، ويُظهِر صلاحه له، ثم تشجعيه، وتحفيزه فيه، ومكافأته على الإحسان في هذا الجانب، وبذل ما يُطلَب منه فيه.
• قال الشيخ ابن باز: “وإذا كان ابنك هذا فقيرًا مُحتاجًا إلى المال، فلا حرج عليك أن تساعده في النفقة، وهذا لا يحتاج إلى استئذان من إخوانه، أو طلب رضاهم؛ لأن من العدل بين الأولاد أن يُنفق على من يحتاج منهم إلى نفقة”.
ومن فتاوى ابن باز لأمٍّ سائلة: “إن كان في أولادكِ من هو مُقصِّرٌ، عاجز عن الكسب، لمرض، أو علة مانعة من الكسب، وليس له والد، ولا أخ ينفق عليه، وليس له مرتب من الدولة يقوم بحاجته – فإنه يلزمكِ أن تنفقي عليه قدر حاجته، حتى يُغنيَه الله عن ذلك”.
• إذا أراد الأب تخصيص أحد أولاده بشيء، فلا بد أن يكون ذلك برضا باقي أولاده البالغين الراشدين، وأما غير الراشدين فإنهم يُعطَون كما يُعطَى أخوهم.
ويجب أن يكون رضاهم عن طِيبِ نفسٍ حقيقي منهم، فلا يحِلُّ للوالد أن يجعلهم يوافقون بإكراه، أو خوف، أو إحراج، فإن وافقوا مُكرهين أو حياءً، لم يحِلَّ لوالدٍ أن يُعطِيَ أخاهم شيئًا.
• النفقة على الصغار مأكلًا ومشربًا، ومسكنًا وتعليمًا، يدخل في النفقة، لا في الهبة، فلا يلزم فيه التسوية، بل يعطي كل واحد منهم مقدار كفايته، قليلًا كان أم كثيرًا.
قال في (كشاف القناع): “ويجب على الأب، وعلى الأم وعلى غيرهما من سائر الأقارب التعديل بين من يرث بقرابة من ولد وغيره؛ كأب وأمٍّ، وأخ وابنه، وعمٍّ وابنه في عطيتهم… ولا يجب التعديل بينهم في شيء تافه؛ لأنه يُتسامَح به، فلا يحصل التأثر… إلا في نفقة وكسوة فتجب الكفاية دون التعديل”؛ [انتهى].
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “لا يجوز للإنسان أن يُفضِّلَ بعض أبنائه على بعض إلا بين الذكر والأنثى؛ فإنه يعطي الذكر ضعفَ ما يُعطي الأنثى؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا الله واعدلوا في أولادكم))، فإذا أعطى أحد أبنائه مائةَ درهمٍ، وجب عليه أن يعطي الآخرين مائة درهم، ويعطي البنات 50 درهمًا، أو يرد الدراهم التي أعطاها لابنه الأول ويأخذها منه، وهذا الذي ذكرناه في غير النفقة الواجبة، أما النفقة الواجبة، فيُعطي كلًّا منهم ما يستحق، فلو قُدِّرَ أن أحد أبنائه احتاج إلى الزواج، وزوَّجه ودفع له المهر؛ لأن الابن لا يستطيع دفع المهر، فإنه في هذه الحال لا يلزم أن يعطي الآخرين مثل ما أعطى لهذا الذي احتاج إلى الزواج ودفع له المهر؛ لأن التزويج من النفقة.
وأوَدُّ أن أُنبِّهَ على مسألة يفعلها بعض الناس جهلًا؛ يكون عنده أولاد قد بلغوا النكاح فيُزوِّجهم، ويكون عنده أولاد آخرون صِغار، فيُوصي لهم بعد موته بمثل ما زوَّج به البالغين، وهذا حرام لا يجوز؛ لأن هذه الوصية تكون وصية لوارث، والوصية لوارث محرمة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه؛ فلا وصيةَ لوارثٍ))؛ [أبو داود، وحسَّن الألباني الإسناد بهذا اللفظ، وصحح لفظ (لا وصية لوارث) في الإرواء].
فإن قال: أوصيت لهم بهذا المال؛ لأني قد زوَّجت إخوتهم بمثله، فإننا نقول: إن بلغ هؤلاء الصغار النكاحَ قبل أن تموت، فزوِّجهم مثلما زوجت إخوتَهم، فإن لم يبلغوا فليس واجبًا عليك أن تزوِّجهم.
فإن كان هناك ما يدعو إلى التفضيل أو التخصيص، فلا بأس؛ كأن يكون أحدهم مريضًا، أو أعمى، أو زَمِنًا (ذا عاهة)، أو كان ذا أسرة كبيرة، أو طالبَ علمٍ، ونحو ذلك من الأسباب، فلا بأس بتفضيله لشيء من هذه المقاصد.
وقد أشار إلى ذلك الإمام أحمد بقوله في تخصيص بعضهم بالوقف: لا بأس إذا كان لحاجة، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثَرَةِ”.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “فإذا فرضنا أن أحدهم في المدارس ويحتاج إلى نفقة للمدرسة؛ من كتب ودفاترَ، وأقلامٍ وحِبرٍ، وما أشبه ذلك، والآخر لا يقرأ، وهو أكبر منه، لكنه لا يحتاج، فهل إذا أعطى الأول يجب أن يعطي الثاني مثله؟
الجواب: لا يجب؛ لأن التعديل في الإنفاق يعني أن يعطي كل واحد منهم ما يحتاج إليه.
مثاله: لو احتاج الولد الذَّكَرُ إلى غترة وطاقية قيمتهما مائة ريال، واحتاجت الأنثى إلى قروط (الحُلِيِّ الذي يُجعل في الأذن) في الآذان قيمتها ألف ريال، فما هو العدل؟
الجواب: العدل أن يشتري لهذا الغترة والطاقية بمائة ريال، ويشتري للأنثى القروط بألف ريال أضعاف الذكر عشر مرات، هذا هو التعديل.
مثال آخر: إذا احتاج أحدهم إلى تزويجه، والآخر لا يحتاج، فما العدل؟
الجواب: أن يعطي من يحتاج إلى التزويج ولا يعطي الآخر، ولهذا يعتبر من الغلط أن بعض الناس يزوِّج أولاده الذين بلغوا سن الزواج، ويكون له أولاد صغار فيكتب في وصيته: إني أوصيت لأولادي الذين لم يتزوجوا أن يُزوَّج كل واحد منهم من الثلث، فهذا لا يجوز؛ لأن التزويج من باب دفع الحاجات، وهؤلاء لم يبلغوا سن التزويج، فالوصية لهم حرام، ولا تُنفَّذ أيضًا، حتى الورثة لا يجوز لهم أن ينفذوها، إلا البالغ الرشيد منهم إذا سمح بذلك، فلا بأس بالنسبة لحقِّه في التركة”؛ [من الشرح الممتع].
• تسكين الأولاد المتزوجين في شقق للأب لمدة بلا إيجار.
إن كان ذلك لحاجتهم وفقرهم، فلا حرج عليه؛ لأن ذلك داخل في النفقة عليهم؛ أي: إذا كانوا لا يملِكون الأُجرة، أو كان دفعهم لها يضر بهم؛ لأن الأب يلزمه نفقة أولاده المحتاجين، ولو كانوا كبارًا، ويدخل في النفقة المسكنُ، ولأنه إن كان في ذلك نوعُ تفضيلٍ لهم، بما وهبت لهم من أجرة الشقق، فإن هذا ليس تفضيلًا محضًا، بل هو تفضيل لعلة معتبرة.
وإن كان مع استغنائهم، فقد فضَّلتهم على بقية إخوانهم، فيلزم تقدير الأجرة خلال هذه المدة، وخصمها من نصيبهم عند توزيع الشقق عليهم.
ولو كان بعضهم محتاجًا وبعضهم غير محتاج، أخَذَ من غير المحتاج فقط، وكذا لو كان محتاجًا مدة، ثم صار غير محتاج، أَخَذَ منه أجرة المدة التي لم يكن فيها محتاجًا.
وتُقسم الشقق بالعدل، فإن كان فيها صغار وكبار، وجب تقييمها، ومن أخذ شقة كبيرة أعطاه الفرق مالًا، أو عوَّض أخاه الذي أخذ شقة صغيرة، بحيث ينتهي الأمر إلى تساوي الذكور فيما يأخذون، وتساوي الإناث فيما يأخُذْن، وأن الذكر يأخذ ضعف الأنثى.
ويُؤخذ من الإخوة الذين كانوا يسكنون بلا إيجار – مع استغنائهم – قَدْرَ الأجرة عن السنوات الماضية، أو يُخصم من نصيبهم عند تقييم الشقق.
فإن كانوا بحاجة مدة سكنهم، فلا يُؤخَذ منهم شيء، كما تقدم.
• يجوز للأب أن يأخذ أو أن يتملك من مال ولده، صغيرًا أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى، مع حاجة الأب وعدمها، ما شاء من المال، نقودًا أو طعامًا، أو ثيابًا أو سيارةً، أو غير ذلك من الأموال؛ فعن جابر رضي الله عنه ((أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لي مالًا وولدًا، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي، فقال: أنت ومالك لأبيك))؛ [رواه ابن ماجه بإسناد صحيح].
بشرط ألَّا يتضرر الولد بأخذه؛ لكونه مضطرًّا أو محتاجًا له، كأخذه طعامه وآلة حرفته، ولا مال عنده؛ لأن حاجة الشخص مُقدَّمة على غيره، وألَّا يعطيه لولد آخر، فإذا كان يحرم على الأب أن يفضِّل أحد أولاده بعطية على الآخر من ماله الخاص، فمَنْعُهُ أن يُفضِّله من مال أخيه من باب أولى.
لكن لو كان الأب لا يجد النفقة، وأعطى ولده من مال أخيه من باب النفقة، جاز؛ لأن هذا واجب على الأب، وليس من باب التفضيل في العطية، وكذلك حكم الأم يجوز لها أن تتملك من مال ولدها على ما تقدم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((وأطِعْ والديك، وإن أمراك أن تخرج من دنياك، فاخرج لهما))؛ [حديث حسن، جاء عن جمع من الصحابة].
• النهي وَرَدَ عن تفضيل بعض الأولاد على بعض، فيجوز أن يُفضِّل الشخص في حياته بعض أقاربه في الهبة، الوارث منهم وغير الوارث، فالأصل جواز تصرُّف الإنسان في ماله، والنصُّ وَرَدَ في الأولاد وغيرهم لا يساويهم، فلا يُقاس عليهم.
• قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: “يتعيَّن على الإنسان أن يعدِلَ بين أولاده، وينبغي له إذا كان يحب أحدهم أكثر من غيره أن يُخفِيَ ذلك ما أمكنه، وألَّا يفضله بما يقتضيه الحب من إيثار بشيء من الأشياء، فإنه أقرب إلى صلاح الأولاد وبرِّهم به، واتفاقهم فيما بينهم؛ ولهذا لما ظهر لإخوة يوسف من محبة يعقوب الشديدة ليوسف، وعدم صبره عنه وانشغاله به عنهم، سَعَوا في أمر وخيم؛ وهو التفريق بينه وبين أبيه فقالوا: ﴿ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ﴾ [يوسف: 8، 9]، وهذا صريح جدًّا أن السبب الذي حملهم على ما فعلوا من التفريق بينه وبين أبيه هو تميُّزه بالمحبة.
• جاء في كتاب (تربية الأبناء، مشكلات وحلول): “بعض الآباء يختار محورًا واحدًا من حياة أطفاله، قد يكون التفوق الدراسي مثلًا، ويُغدِق على صاحبه بالمدح والتشجيع، ويترك الأطفال الآخرين، إذا لم يكن لهم في هذا المضمار باعٌ، فسوف يعانون من الإحساس بالدونية، والإهانة، ومن ثَمَّ الغَيرة من أخيهم هذا الذي حصل على كل المدح والتشجيع.
والآباء يرَون هذا شيئًا طبيعيًّا، بل ومحفِّزًا للآخرين للسير على نهج هذا الابن المحظوظ، ولا يدركون اختلاف قدرات الأطفال، وأنهم ربما لا يمكن أن يكونوا متفوقين دراسيًّا – مثلًا – وتراهم يسألون بسذاجة: هل نكافئ الجميع، الْمُجِدَّ، وغيرَ المجد؟ وكأن التفوق والاجتهاد في الدراسة فقط هما سبيل المكافأة.
المطلوب من الآباء توسيع دائرة التشجيع، لتشمل كل الأنشطة الرياضية، والثقافية، والاجتماعية، والمنزلية، وغيرها، بحيث يجد كل طفل ما يتميز فيه، ويجد الآباء ما يشجعون به الجميع، فيتساوى الجميع في التشجيع، فهذا يتفوق دراسيًّا، وذاك رياضيًّا، والآخر في أعمال البيت، وهكذا.
وبالتالي: يكون لكل طفل مكانته التي يعتز بها، ويفخر بها، فلماذا يغار من أخيه؟”؛ [انتهى].
ويكفيك – أخي المسلم – رادعًا لترك الظلم والحَيف بين أولادك قولُ الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبدٍ استرعاه الله رَعِيَّةً فلم يحُطْها بنصيحة، إلا لم يجد رائحة الجنة))؛ [البخاري]، وفي رواية أبي نعيم: ((فلم يحُطْها بنصحه، لم يجد رائحة الجنة)).
وفي مسلم عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المقسطين عند الله على منابرَ من نورٍ، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدِلون في حكمهم وأهليهم وما وُلُّوا)).