العلامة المجمعي محمد شفيق البيطار
العلامة المَجمَعي محمد شفيق البيطار
أستاذنا الذي اكتَهَل علمًا وشابَ تواضعًا
كتبها: فضل الحميدان
ما زالَ مَنبَعُ الهِمَمِ والعزائم في علماء الشَّام متدفِّقًا، فالطُّموحُ ممتدٌّ فيهم أبدًا؛ قد فارَ في مآقيهم الجِدُّ، وغار الهَزْلُ.
ولهذا الذي ذكرتُهُ نظرةٌ تحليليَّةٌ يمثِّل رموزَها كثرةٌ كاثرةٌ من الأسماءِ العلميَّة التي برعَت في ميادين العلمِ كافَّةً، ودونكم نظرةً في عشَراتِ الأسماء التي أضاءت دنيا العلوم داخلَ الوطن أو خارجَه لتجدوا صدقَ المقالةِ وأصالَتها.
في جامعة دمشق 1998م:
في جامعة دمشقَ، في كلِّية آدابها= كانتِ المحاضرةُ الأولى لي في بدايتي لدراسةِ العربيَّة عام 1998م= انقلابًا في فكرة تعلُّقي بهذا التخصُّص، وزيادةً في التأمُّل فيه، وثقةً جديدةً بالقُدرة على تحقيق ذاتي في معانيه.
وقد كنتُ أتابع المُحاضرَ الذي كان يُرسِلُ نفَسَه الطويلَ بين دقيقة وأُخرى؛ وجملةٍ وأُخرى= كأنَّه يريد أن يتوثَّق أنَّ أنفاسنا تُحاكيه، أو أنَّ بعض نفْسِه غدَت جزءًا من أنفُسِنا وإحساسنا وإدراكنا.
ولك، أيها القارئ، مع هذا العالِم الجليل الذي أحدِّثك عنه، كلُّ خِبرات الأيَّام التي مرَّت بك لتُرسِلَها بين يدَي قراءتك له، وتحليلك لخِصاله= لتخرُجَ، كما أثق تمامَ الثقة، بخُلاصة الدِّراسة من أنَّه، أي عالمنا الجليل، البيتُ الذي تدور عليه أبياتُ المعاني العالية كلُّها، بل هو من هذه القصيدةِ (البيتُ الأميرُ) الذي تُحفَظ كلماتُ هذه القصيدة كلُّها من أجله.
وحتى أسبِقَ حُكمَك، أيها القارئ، عليَّ= فأستاذُنا العلَّامةُ الجليل الذي أكتبُ لك عنه يخرجُه للناس في الصُّورة التي أحبَّها فيه النَّاسُ وجهان:
• جَمالُه: وهنا سبِّقْ بجُزئه الرُّوحي العَتيق الذي جعله سرًّا باقيًا، هذه السنين كلَّها، في موضعٍ من إجلال العالمين وتقديرهم.
• ظَرفُه: ولك أن تستحضرَ رجلًا شابَ علمًا لم تغِب عنه حاضرةُ الظَّرْف والمُلحة والنُّكتة التي يَزيدُك بها، ويَزيدُ عندكَ بها.
وأصدقُك القولَ: إنه رجلٌ لا يحبُّ صادقًا مثلَ كلامي هذا عنه، لكنَّني خرَجتُ ممَّا يحبُّ هو إلى ما أحبُّ أنْ يعرفَه عنه الناس؛ ممَّن لم يلقَه أو يسمَع باسمه من قبل.
العلَّامةُ المَجمَعي الأستاذ الدكتور محمَّد شفيق البَيطار: واحدٌ من هؤلاء الذين أتقرَّب بمحبَّتهم وإجلالهم إلى أسرار السَّعادة في نفسي، وأتقرَّب بهم إلى ملاحظة النَّصَف والعدالة وحاقِّ العِلم ورُكنه البَقيِّ المَكين.
وأمَّا قبلُ:
فممَّا قرأتُه لأديب العربية مصطفى صادق الرافعي رحمه الله تعالى:
“المعلِّمُ هو الركنُ الذي تُبنَى عليه حضارةُ الأمَّة، فهو الذي يصنعُ العقولَ، ويهذِّبُ النفوسَ، ويغرِسُ القِيَم”.
وكذلك قد كان العلَّامةُ المَجمَعيُّ أستاذُنا العالم الجليل محمَّد شفيق البَيطار مع طلَّابه؛ متقَفِّيًا الرَّافعيَّ الذي أحبَّه في قوله وعمله= فصنعَنا صنعةَ العارفين على حكمةٍ ودراية، وربَّانا، على حنُوٍّ منه وحبٍّ، كأننا إِخوةٌ له أو أبناء، وزرعَ في صدورنا أدبَ الكبار وقيمَهم، وحبَّب إلينا أحوالَهم، فما انقطع عن بِرِّه بنا نحن طلَّابَه، كما لم ينقطِع ساعةً عن وفائه بأساتذته.
حديثُه الهادئ، نغمتُه المحبَّة الآسرة، ابتسامتُه الوادعة الصَّادقة، سؤاله المستمرُّ عن عملنا وإنجازنا، عن سعادتنا وحال أولادنا، تواضعُه معنا، إشعارُ كلٍّ منَّا بأننا أقربُ النَّاس إليه= خصائصُ لا تجدُها إلا في ورَثة الأنبياء الذين ورِثوا الخصائصَ الإنسانية العُليا التي تجِدُ صورتَها في معنًى من معاني الدُّنيا العزيزة، وتتلمَّس حقائقَها في أنفاسٍ من الآخرة التي لا تظفَرُ بها إلا في الكبار، الكبار وحَسْب.
وأمَّا بعدُ:
فحينَ يجتمعُ للشَّهادة، في نفسِ صاحبِها، عِلمُها، وفوقَ علمِها هذا علومٌ أُخرى تَزيدُها= فإنَّ لصاحبِ الشَّهادةِ مكانةً تفسِّر كلمةَ المكانة في مئةِ فضيلةٍ غير العلم.
وحينَ يكونُ للآخرةِ من ضَميرِ صاحبِ الشَّهادةِ مساحتُها التي تُظِلُّ وِجدانَهُ= تصبحُ الشَّهادةُ التي يحمِلُها قانونًا للفضائل الأخرويَّة مجتمعةً.
وهكذا تكونُ الأخلاقُ الإنسانيَّة العُليا، تكونُ قد شكَّلت في نفس صاحبِها هذا القانونَ الخالدَ الذي يقول: قد انتصرَ إنسانُ الآخرة، فيَّ، على إنسان الدُّنيا.
وأستاذنا الدكتور أبو عبد الرحمن محمَّد شفيق البَيطار رجُلٌ هَدَّكَ من رجُلٍ[1]، فقد ثَقِفَ أدبَ العربيَّة وأسانيدَها، فلم يرَها قصائدَ ومنثوراتٍ وتواريخَ أمم فحسب، بل رآها بنقَداتِه المتأمِّلةِ قنَواتِ الزَّمنِ التي تحملُ دماءَ التَّاريخ المجيدة؛ لتعملَ في الحياة عملَها: فتصنع من أبناء أمَّتنا سادةَ التَّاريخ: عروبةً وعِلمًا، ومن قبلُ: إيمانًا يبلغُ بهم وبأمَّتهم مبلغَ المُحسِنين.
أكتبُ هذه الكلماتِ وأعترفُ مرَّة أُخرى أنَّ أستاذنا الدكتور البَيطار لم يكن راضيًا يومًا بأنْ أخُطَّها عنه في حياته؛ فهو، عند نفسِهِ، [العبدُ الذي لا يملِكُ ما يفخَرُ به إلا أنْ يتغمَّدَه اللهُ برَحمتِهِ]، وإنَّه ما بلغ يقينَهُ هذا إلا حين أيقنَ بأنَّ القويَّ هو مَن يعملُ مع نفسِهِ، وأنَّ من يرى عمله بمكانٍ عَلٍ إنَّما هو للأضعف أكثرُ ممَّا هو للأقوى= فلسفةٌ لا تصلحُ إلا لمَن يسومُ الحياةَ بموازين الآخرة، لهؤلاءِ القُرَّاء الذين تلقَّوا الحياةَ من دروس الكِبار، فعرَفوا أنَّ حكومةَ النَّفس البشَرية لا يمدُّها إلا وِزاراتٌ أخلاقيَّة أعلاها وِزارةُ التَّواضع، والتَّواضعُ هو في تلك الوِزارات كلِّها هو الأخلاقُ المحاربِةُ فيها لكلِّ ما من شأنه أن يُضعِفَ مكانتها، أو يبدِّدَ من شأنِها.
وأمَّا بعدُ أخرى:
فلقد عرَفتُ الدُّكتور شفيق من أكثرَ من خمسةٍ وعشرين عامًا، من يومٍ كانت قد جمعَتْنا فيه لأوَّل اللقاء حواراتُ المحاضرة الأولى لي في الجامعة، وفي مدرَّجها الأوَّل على التحديد. وما زالت صِلتي به في قوَّةٍ، وما زالت لقاءاتنا التي تضمُّ صفوةً من أهل الحبِّ والعلمِ والوفاء تزيدني عُلقةً به، وإعجابًا باقيًا بعلمِهِ الواسع، لا باختصاصه العلميِّ أستاذًا للأدب الجاهلي والمكتبة العربية والعَروض، فحسب، بل بعلوم أُخرى كان يقرؤها بحِرصِ قراءاته في اختصاصاته المتشَعِّبةِ الدَّقيقة. ومن يقرأ آخرَ ما كانت يداه قد خطَّتْه على مواقع التَّواصل، فضلًا عن مقالاته وقصائده= يدري صِدقَ ما أعنيه في أستاذنا.
ولعلَّ الصَّمتَ الطَّويلَ الذي زانه، وعرَفه به زملاؤه وطلَّابه ومحبُّوه= يَشِي بأنَّهُ قد خلعَ على نفسِهِ نواميسَ الطبيعة الصَّامتةِ المتأمِّلة، فلا يعرفُ ما الحياةُ إلا في الإصغاءِ لأهلها، ولا يعرفُ ما الموتُ إلا أنَّهُ الاستماعُ بمَهابةٍ للأحياء، حتَّى إذا تكلَّم في أمرٍ عرَضَتْ له الأفكارُ واصطَرَعَتْ فيه= انبعثَ كأنَّه خيالُ العلماءِ المُدركين، وشعورُ العارِفين المتوثِّبين، وقوَّة المعارفِ التي تَبرُزُ من أعماق العلوم، فيُقيم المائلَ ويحاورها وينقدُها.
ولعلَّ قارئًا، إن لم يُجانِس الدكتور شفيق، يجدُ بعضَ مبالغةٍ وكأنِّي أتحدَّثُ عن علماءَ لم يبقَ منهم إلا ذواتٌ كالجِبال، والحقيقةُ أنَّ هذا الشَّابَّ الذي اكتَهَل علمًا قد تحرَّى آثارَهم، وتقفَّى خُطواتِهم، حتى إنَّك ما تستشعِرُ حين جلوسِكَ إليه إلا أنَّكَ في حَلْقَةٍ من حَلَقاتِ العلماء السابقين العارفين المتبصِّرين.
وقد كنتُ أنتظِرُه حتى يفرُغَ من محاضراته التي لا أفوِّتُ أكثرَها، فأحظى بالاستماع إليه، ومصاحبته، والتعلُّم من هِمَّته. وإن أنسَ لا أنسَ تلك اللقاءاتِ التي كانت في بيته، يُكرمنا فيها ببَشاشته، ويُطعمنا فيها من لذيذ طعامه، مجالسَ كنتُ أسعَدُ فيها فلا أتمنَّى انتهاءها، مجالسَ كان فيها العلمُ والنُّور والوَقارُ والسُّموُّ، وكان فيها أستاذُنا معلِّمًا ما زلتُ من خمسةٍ وعشرين عامًا أرنو إليه فيها بمَهابةٍ وتقدير وحبٍّ.
وخاتمةً:
فالحديثُ عن الدكتور شفيق رحمه الله تعالى حديثٌ عن جيلٍ جليلٍ طويل؛ حديثٌ عن آثارهم ومحاسنهم؛ حديثٌ عن الجمال والمروءة والأنس والحياة، حديثٌ عن أصالةِ علماء العربية الكبار في دمشقَ الشام، حديثٌ عن دمشقَ أمِّ العلماءِ بعِتْقها[2] وحُسْنها وعظَمَتها.
كاتب المقالة فضل الحُمَيدان مع أستاذه الدكتور شفيق البَيطار رحمه الله