العلامة حسن الجبرتي والنهضة الحضارية (4)
العلامة حسن الجبرتي.. والنهضة الحضارية (4)
النسب والتعريف:
هو أبو التداني، حسن بن إبراهيم بن حسن بن علي بن محمد بن عبدالرحمن، ويُلقَّب العلامة حسن بالزيلعي، أو الجبرتي، أو العقيلي، أو الحنفي.
ووقع في طبعة “الجيل” المنتشرة لـ”تاريخ الجبرتي” (أبو التدائي) بالهمز، لا (أبو التداني) بالنون، وأظنُّه تحريفًا، والصواب بالنون؛ لأنَّه في نفس طبعة “الجيل”، في منتصف الترجمة “أبو التداني”.
قال عبدالرحمن الجبرتي: وبلاد الجبرت هي بلاد الزيلع بأراضي الحبشة، تحت حكم الخطي ملك الحبشة، وهم عدَّة بلاد معروفة تسكُنها هذه الطائفة، وهم المسلمون بذلك الإقليم ويتمذهَبُون بمذهب الحنفي والشافعي لا غير، ويُنسَبون إلى سيدنا أسلم بن عقيل بن أبي طالب، وكان أميرهم في عهد النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – النجاشي المشهور الذي آمَن به ولم يره، وصلَّى عليه النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – صلاةَ الغيبة كما هو مشهورٌ في كتب الأحاديث، وهم قومٌ يغلب عليهم التقشُّف والصَّلاح، ويأتون من بلادهم بقصد الحج والمُجاوَرة في طلب العلم، ويحجُّون مُشاةً، ولهم رواق بالمدينة المنورة، ورواق بمكة المشرفة، ورواق بالجامع الأزهر بمصر، وللحافظ المقريزي مؤلَّف في أخبار بلادهم وتفصيل أحوالهم ونسبهم.
قلت: ولا يَزال مكان رواقهم في الأزهر موجودًا إلى اليوم، وعليه اللافتة باسمه، ومساحته – تقريبيًّا – مائة متر مكعب أو أقل قليلاً، وقبله – من ناحية الباب المخصَّص للنساء اليوم – الرواق العباسي، وبعده رواق الجبرت، ثم بعده رواق الأتراك، ثم رواق المغاربة، ثم رواق الشوام، وكلها بمساحته تقريبًا، وعليها اللافتات إلى اليوم، وإنْ تغيَّر استخدامها.
المولد والنشأة:
وُلِدَ العلاَّمة حسن الجبرتي في سنة عشر ومائة وألف، (1110هـ)، ونشَأ ببيت علم خلفًا عن سلف، فبعد أن ارتحل جدُّه الخامس عبدالرحمن – آخِر ما يعرف من نسبه – إلى جدة، ثم إلى مكة والمدينة فلقي بهما المشايخ والعُلَماء، ثم رجَع لجدة، ثم قدم مصر، فجاوَر في الأزهر وتولَّى شيخًا على الرواق، ثم مات بمصر بعد أنْ تزوَّج وخلف ابنه محمدًا، فنشأ هو الآخَر على الصلاح وطلَب العلم، حتى مات وخلَّف ابنه عليًّا، فنشأ على سيرة آبائه، وأعقب عليٌّ إبراهيمَ – والد العلاَّمة حسن – فنشَأ نشوءًا حسنًا، وتزوَّج وأنجَبَ العلاَّمة حسن الجبرتي، ثم مات إبراهيم هذا بعد شهرٍ من ولادة العلامة حسن.
ولَمَّا مات والده ربَّته أمُّه ستيتة بنت عبدالوهاب أفندي، بكفالة جدَّته أمِّ أبيه، ووصاية الشيخ العلاَّمة محمد النشرتي، فتربَّى في حجورهم حتى ترعرع.
وقد كان لجدَّته أمِّ أبيه فضلٌ كبير عليه، وكانت ذا غنى وثروة، ولها أملاك وعقارات كثيرة، قد أوقفَتْ له أشياء منها، فهيَّأت له سبل الحياة الطيِّبة، وكفَتْه مؤونة العَيْش والانشِغال بأسبابه، حتى إنَّه كان يقول – رحمه الله -: “ما عرفت المصرف واحتِياجات المنزل والعيال إلاَّ بعد موتها”.
كما كان لشهرة العائلة بالعلم والفضل عاملٌ كبير في تيسير أسباب طلب العلم والقُرب من العُلَماء، يقول عبدالرحمن الجبرتي: “واتَّفق له في أثناء ذلك – طلب العلم – وهو ابن ثلاث عشرة سنة أنَّه مرَّ مع خادمه بطريق الأزهر، فنظَر إلى شيخ مقبل منور الوجه والشيبة، وعليه جَلالة ووَقار، طاعِن في السن، والناس يزدَحِمون على تَقبِيل يده ويتبرَّكون به، فسأل عنه وعرف أنَّه ابن الشيخ الشرنبلالي، فتقدَّم إليه ليقبل يده كغيره، فنظَر إليه الشيخ وتوسمه وقبَض على يده، وقال: مَن يكون هذا الغُلام ومَن أبوه؟ فعرفوه عنه، فتبسَّم وقال: عرفته بالشبه، ثم وقف وقال: اسمع يا ولدي، أنا قرأتُ على جدك، وهو قرأ على والدي، وأحبُّ أنْ تقرَأ عليَّ شيئًا وأجيزك، وتتَّصِل بيننا سلسلة الإسناد وتلحق الأحفاد بالأجداد، فامتَثَل إشارته ولازَم الحضور عنده في كلِّ يوم”.
طلبه للعلم:
اشتَغَل العلاَّمة حسن الجبرتي بحفظ المتون العلميَّة بعد أنْ أتَمَّ حفظ القرآن وعمره عشر سنين، ثم اجتَهَد في طلب العلوم وحضَر لمشايخ وعُلَماء عصره، وجدَّ في التحصيل حتى فاقَ أهلَ زمانه، وباحَثَ وناضَل ودرَّس بالرواق والمدرسة السنانيَّة ببولاق في سائر العلوم.
فجمَع بين العلوم الشرعيَّة وآلاتها، كما أتْقن علم الجبر والمقابلة والحساب والمساحات والفلكيَّات، وأعمال المناسخات والكسورات، واشتَغَل كذلك بتجويد الخط، وتعلَّم اللسان الفارسي والتركي، حتى إنَّ كثيرًا من الأعاجم والأتراك يعتَقِدون أنَّ أصله من بلادهم؛ لفَصاحته في التكلُّم بلسانهم ولغتهم.
ولَمَّا كان في عقده الثالث اشتَغَل بالرياضيَّات، فانفَتَح له الباب، وعرف السمتَ والارتفاع، والتقاسيم والأرباع، والميل الثاني والأوَّل، والأصل الحقيقي والمعدل، وخالَط أربابَ المعارف، وكلَّ مَن كان من بحر الفن غارف، وحلَّ الرموز، وفتح الكنوز، واستخرج نتائج الدر اليتيم، والتعديل والتقويم، وحقَّق أشكال الوسائط، في المنحرفات والبسائط، والزيج والمحلولات، وحركات التداوير والنطاقات، والتسهيل والتقريب، والحل والتركيب، والسهام والظلال، ودقائق الأعمال، وانتهَتْ إليه الرئاسة في الصناعة، وأذعَنت له أهلُ المعرفة بالطاعة.
وبالجملة فقد أفنى حياتَه في طلب العلوم، ولم يكن يأنف من إتيان أحدٍ لعلمٍ ليس عنده، وكان يرى الاشتغال بغير العلم من العبثيَّات.
أخلاقه وطبائعه:
وكانت ذاته جامعةً للفضائل والفواضِل، مُنزَّهة عن النقائص والرذائل، وَقُورًا محتشمًا، مهيبًا في الأعين، معظمًا في النفوس، محبوبًا للقلوب، لا يعادي أحدًا، ولا يخاصم على الدنيا؛ لذلك لا يكرهه أحد ولا ينقم عليه في شيء من الأشياء.
وأما مكارم الأخلاق، والحلم والصفح، والتواضع والقناعة، وشرف النفس، وكظم الغيظ، والانبساط إلى الجليل والحقير، كلُّ ذلك سجيَّته وطبعه من غير تكلُّف لذلك، ولا يرى لنفسه مقامًا أصلاً، ولا يعرف التصنُّع في الأمور، ولا دعوى علم ولا معرفة ولا مشيخة على التلاميذ والطلبة، ولا يرضى التعاظُم ولا تقبيل اليد.
وكان – رحمه الله – عذب المورد للطالبين، طلق المحيَّا للوَاردين، يُكرِم كلَّ مَن أمَّ حماه، ويُبلِّغ الراجي مناه، والمقتفيَ جَدواه، والراغب أقصى مَرماه، مع البشاشة والطَّلاقة، وسَعة الصدر والرياقة، وعدم رؤية المنَّة على المحتدي، ومسامحة الجاهل والمعتدي.
شهرته وعلاقته بأكابر السلاطين والأمراء والمشايخ:
وله منزلة عظيمة في قلوب الأكابر والأمراء والوزراء والأعيان، ويسعَون إليه ويذهب إليهم لبعض المقتضيات والشفاعات، ويرسل إليهم فلا يردُّون شفاعته، ولا يتوانون في حاجةٍ يتكلَّم فيها، وله عندهم محبَّة ومنزلة في قلوبهم زيادة عن نُظَرائه من الأشياخ؛ لمعرفته بلسانهم ولغتهم واصطلاحهم، ورغبتهم فيما يَعلَمونه فيه من المزايا والأسرار والمعارف المختص بها دون غيره، وخصوصًا أكابر العثمانيين والوزراء وأهل العلوم والفُضَلاء منهم، وكلُّ ذلك مع العفَّة والعزَّة، وعدم التطلُّع لشيءٍ من أسباب الدنيا بوَظِيفة أو مرتب أو فائظ أو نحو ذلك.
وكان بينه وبين الأمير عثمان بك ذي الفقار صحبة ومحبَّة، وحجَّ في أيَّام إمارته على الحج مُرافِقًا له ثلاث مرَّات من ماله وصلب حاله، ولم يصله منه سوى ما كان يُرسِله إليه على سبيل الهديَّة، وكان منزل سكنه الذي بالصنادقيَّة ضيقًا من أسفل وكثير الدرج، فعالَجَه إبراهيم كتخدا على أنْ يشتري له أو يبني له دارًا واسعة، فلم يَقبَل، وكذلك عبدالرحمن كتخدا.
وأرسَلَ إليه السلطان مصطفى كتبًا من خِزانته، وكذا أكابر الدُّول في مصر وتونس والجزائر وغيرها.
ولَمَّا دخَل أحمد باشا مصر واليًا عليها، والتَقَى العلماء والمشايخ، وسألهم عن مقصوده في علم الرياضيات دلَّه الشيخ عبدالله الشبراوي على العلاَّمة حسن الجبرتي وأطنب في ذكره، فقال له الباشا: ألتمس منكم إرساله عندي، فقال له الشيخ: يا مولانا، إنَّه عظيم القدر، وليس هو تحت أمري، فقال: وكيف الطريق إلى حضوره؟ قال تكتبون له إرساليَّة مع بعض خواصِّكم، فلا يسعه الامتناع، ففعل ذلك، وطلع إليه العلامة حسن ولبَّى دعوته، وسُرَّ الباشا برؤياه، واغتبط به كثيرًا، وكان يتردَّد إليه يومين في الأسبوع، وأدرك منه الباشا مأموله، وواصَلَه بالبر والإكرام الزائد الكثير، ولازَم المطالعة عليه مدَّة ولايته، وكان يقول: لو لم أغنم من مصر إلاَّ اجتماعي بهذا الأستاذ لكفاني، وممَّا اتَّفق له – الباشا – لَمَّا طالَع ربع “الدستور” وأتقَنَه، طالَع بعدَه “وسيلة الطلاب في استخراج الأعمال بالحساب”، وهو مؤلَّف دقيق للعلامة المارديني، فكان الباشا يختَلِي بنفسه ويستخرج منه ما يستخرجه بالطُّرق الحسابيَّة، ثم يستخرجه من النجيب فيجده مطابقًا، فاتَّفق له عدم المطابقة في مسألة من المسائل، فاشتَغَل ذهنه، وتحيَّر فكره، إلى أنْ حضر إليه العلاَّمة حسن في الميعاد، فأطلعه على ذلك، وعن السبب في عدم المطابقة، فكشف له علَّة ذلك بديهًا، فلمَّا انجَلَى وجهها على مرآه، كاد عقله يطير فرحًا، وحلف أنْ يُقبِّل يده، ثم أحضر له فروة من ملبوسه السمور باعَها العلامة حسن بثمانمائة دينار، ثم اشتَغَل عليه برسم المزاول والمنحرفات حتى أتقَنَها، فكان الشيخ عبدالله الشبراوي كلَّما التقى العلامة حسن الجبرتي قال له: سترك الله كما ستَرتَنا عند هذا الباشا، فإنَّه لولا وجودك كنَّا جميعًا عنده حميرًا!
وكان علي بك الكبير ينتَدِبه لكتابة رسائله المهمَّة، وغيره يستَشِيره في الملمَّات والمهمَّات.
وللحديث تتمَّة، والحمد لله ربِّ العالمين، وصَلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.