الفاتحة والدعاء
الفاتحة والدعاء
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبي بعده،
أما بعد:
فإنَّ المتدبر لهذه السورة العظيمة الخاشع عند تلاوتها، المستظهر لمعانيها – ليدرك أنَّ الآيات الأوائل من هذه السورة العظيمة إلى قول الله جَلَّ وَعَلَا: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة:5]، يدرك تمامًا أنها تتضمن حمد الله والثناء عليهِ، وتمجيدَه، وإقراره وحده لا شريك له بالعبادة والاستعانة بهِ.
ثم يأتي بعد ذلك الدعاء ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة:6]، فالدعاء بوابة الدخول الكبرى على الله، وبهِ تتجلى حقيقة الافتقار والتوحيد، فما أعظم هذه السورة حين يلهم الله -جَلَّ وَعَلَا – عبده قلبًا خاشعًا عند تلاوتها والصلاة بها، فيدرك أنَّ من أعظم العطايا العظيمة له في هذه الحياة أنْ يلهمهُ الله جَلَّ وَعَلَا الدعاء، وأنْ ييسر ذلك له؛ صح عن النبيّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث أبي هريرة رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «قال الله تعالى: قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل»، ثم جاء في الحديث: «إذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل»[1]، إنهُ دعاء الفاتحة.
خُتمت هذه السورة العظيمة بالدعاء، أهم ما يحتاجهُ العبد في دينهِ ودنياه، حاجة العبد إلى أنْ يهديهُ الله جَلَّ وَعَلَا الصراط المستقيم، أعظم من حاجتهِ إلى الطعام والشراب والنفس، ولا نجاة من العذاب، ولا وصول إلى السعادة إلا بهذه الهداية؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اَللَّهُ: (دعاءُ الفاتحة هو أجلُّ مطلوب، وأعظم مسؤول، ولو عرف الداعي قدر هذا السؤال، لجعلهُ ديدنَه وقرنَه بأنفاسهِ، فإنه لم يدَع شيئًا من خير الدنيا والآخرة إلا تضمَّنه).
الفاتحة نورٌ فُتِح لها باب من السماء لم يُفتَح من قبلُ، ونزل بها ملكٌ لم ينزل قط، واختص بها نبينا صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون سائر الأنبياء والرسل عَلَيْهِم اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ووعد بإعطاء ما احتوت عليهِ من المعاني، فإذا سألت الله تعالى الصراط المستقيم، صراط اَلذِين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، فاعلم أنهم عرفوا الحق وعمِلوا بهِ، فجمعوا ما بين العلم والعمل.
فلندعو الله جَلَّ وَعَلَا صدقًا وإخلاصًا ويقينًا أنْ يهدينا الله جَلَّ وَعَلَا طريقهم، وأنْ يجنبنا طريق المغضوب عليهم، وهم اليهود اَلذِين عرفوا الحقَّ، ولم يعملوا بهِ، فذمَّهم الله جَلَّ وَعَلَا، ثم ندعو الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أنْ يجنِّبنا طريق النصارى اَلذِين ضلوا في باب العمل بلا حُجَّةٍ ولا دليلٍ ولا برهان، ولذلك قال العلماء: (مَنْ فسد من علمائنا ففيهِ شبهٌ من اليهود اَلَّذِين يعلمون ولا يعملون، ومَنْ فسَد من عبادنا ففيهِ شبهٌ من النصارى اَلَّذِين يعملون بلا علم)، ولا نجاة إلا بتوفيق الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ولزوم هذا الدعاء العظيم، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
[1] حديث صحيح (أخرجه مسلم) رواه أبو هريرة.