الفاتحة وتقرير الإيمان بالقدر (4)


الفاتحة وتقرير الإيمان بالقدر (4)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

فبعد تقرير الإيمان بالقدر من خلالِ سورة الفاتحة، ينبغي أنْ نعلم جميعًا أنَّ الكلام في موضوعات القدرِ على طريقين:

أمَّا الطريقة الأوَلى، فهي أنْ يخوض الإنسان في مسائلِ القدرِ بعقلهِ المجرد، وبفكرهِ القاصر، ويترك كلام الله وكلام رسولهِ – صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ويضع القرآن والسُنَّة جانبًا، ثم يخوض بعقلهِ وبفكرهِ وبرأيهِ المجرد في مسائل القدر، وفي دقائق أحكامهِ، فهذا باطلٌ وضلالٌ ولا يفضي بصاحبهِ إلا إلى الرَّدى؛ كما قال الله جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [فصلت:23].

 

أمَّا الطريقة الثانية وهي الصحيحة: أنْ يكون كلام الإنسانِ في مسائل القدر على ضوء الدليلِ من الكتاب والسُنَّة، فيصلُ بإذن الله جَلَّ وَعَلَا إلى كل قولٍ سديد، وإلى كل فعلٍ رشيد، وقد دلَّت النصوص على أنَّ العبد لا يكون مؤمنًا بالقدر حتى يؤمن بمراتبهِ الأربع اَلَّتِي دلَّ عليها كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، وسُنَّة نبيهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

 

وهي كالآتي:

أوَلًا: الإيمانُ بعلم الله المحيط بما كان، وما سيكونُ، وما لم يكن لو كان كيف يكون، فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ﴿قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]، ﴿وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن:28]، ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ [سبأ:2].

 

وأما الأصل الثاني من أصول الإيمان بالقدر، فهو الإيمانُ بأنَّ الله كتب مقادير الخلائق، وجميع ما هو كائنٌ في اللوح المحفوظ؛ قال الله جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر:52-53]، وجاء في الحديث: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة»[1].

أمَّا الأصل الثالث، فهو الإيمانُ بمشيئة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى النافذة، وقدرتهِ الشاملة، وأنَّ ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن؛ قال الله تعالى: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29]، فلا حركة ولا سكون ولا حياة ولا موت، ولا خفض ولا رفع، ولا هداية ولا ضلال – إلا بمشيئة الله جَلَّ وَعَلَا.

 

أمَّا الأصل الرابع، فهو الإيمانُ بأنَّ الله خالق كل شيء، والله خالق كل شيء، ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، وقال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، والعالم مَنْ سوى الله جَلَّ وَعَلَا، فكل ما سوى الله خلقهُ وأوجدهُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.

 

فما أغنى قلوبُ أهل التوحيد وهم يقرؤون سورة الفاتحة، وقد امتلأت قلوبهم فقهًا وعلمًا ويقينًا بهذه الأصول العظيمة، ويدركون أيضًا أنَّ النبيّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» [2]، فيبذلون الأسباب ويجاهدون النفس على العملِ اعتمادًا وتوكلًا على الله جَلَّ وَعَلَا، وتفويضًا للأمورِ كلها إليهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد.

 

والحمد لله رب العالمين.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
خير من ألف شهر (خطبة)
التحذير من أذية المسلمين