الكسب الحلال شرف المؤمن وعزه وكرامته وحفظ ديته
الكسب الحلال شرف المؤمن وعزه وكرامته وحفظ ديته
الحمد لله الرزاق ذي القوة المتين، الحمد لله الذي خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين؛ قال الله جل جلاله: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [العنكبوت: 60]، وقال سبحانه: ﴿ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ﴾ [الملك: 21]، وقال الذي بيده ملكوت كل شيء: ﴿ أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [النمل: 64]؛ أما بعد:
فإن ما نمرُّ به في هذه الأوقات العصيبة من ضيق في الأرزاق؛ نتيجة الحصار والإغلاق، وما زال الأمر يزداد شدة، ويضيق الخِناق، وما لنا إلا الله الواحد الرزاق، مهما كانت الظروف، وعلى أية حال، فالله الرزاق الغني موجود، حي لا يموت.
ولقد أعلى الإسلام من شأن العمل والكسب، ورتَّب عليهما الثواب والأجر، ومما يؤكِّد ذلك كثرة الاقتران بين العبادة والعمل في نصوص القرآن الكريم؛ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾ [البقرة: 198].
يقول ابن عباس رضي الله عنه: “كانوا يتقون البيوع والتجارة في المواسم والحج، يقولون: أيام ذِكْر؛ فأنزل الله: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 198]”، بل قرن المولى سبحانه في كتابه بين المجاهدين في سبيله، والذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله: ﴿ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [المزمل: 20]، قال الله تعالى: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة: 10]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15].
ولقد قصَّ لنا القرآن الكريم عن حياة الأنبياء والمرسلين، وأشار في آيات عديدة إلى بعض المهن التي كانوا يعملون بها؛ فهذا نوح عليه الصلاة والسلام كان يعمل في النجارة، وقد صنع بيده السفينة التي كانت سببًا في نجاتهم من الغرق بعد فضل الله؛ قال تعالى: ﴿ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ﴾ [هود: 38].
وهذا نبي الله داود عليه الصلاة والسلام كان حدادًا، وقد ألَانَ الله له الحديد، فكان يصنع منه الدروع وغيرها من الأشياء النافعة؛ قال تعالى: ﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [سبأ: 10، 11].
وكان زكريا عليه الصلاة والسلام نجارًا، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا حبيبنا ونبينا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم كان يرعى الغنم على قراريطَ لأهل مكة، وكان يعمل في التجارة، فيسافر ويتعب؛ من أجل تحصيل الرزق الحلال، وعلى الرغم من مكانتهم العالية، وحملهم لأمانة الدعوة، فإنهم كانوا يعملون بأيديهم، ويتكسَّبون أرزاقهم عن طريقها.
وهكذا كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصين على الكسب الحلال؛ عن طريق عملهم في التجارة وغيرها من المهن الأخرى.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديثَ عديدة، تحُثُّ على طلب الرزق والكسب الحلال؛ منها: عن المقدام بن معديكرب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أكل أحدٌ طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده))؛ [أخرجه البخاري (2072)].
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لأَنْ يحتطب أحدكم على ظهره، خير من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه))؛ [أخرجه البخاري (2374)، ومسلم (1042)].
وعن أبي عبدالله الزبير بن العوام قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((لأن يأخذ أحدكم أحْبُلَه، ثم يأتي الجبل، فيأتي بحُزمة من حطب على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجهه – خير له من أن يسأل الناس؛ أعطَوه أو منعوه))؛ [أخرجه البخاري (1471) باختلاف يسير].
فاليد التي تعمل وتتكسب الرزق الحلال هي التي تعطي، وهي التي تعمل من أجل إعفاف النفس عن التذلل للآخرين؛ أعطَوه أو منعوه.
وإن من فضل الله تعالى علينا أنْ فَتَحَ لنا أبوابًا كثيرة للعمل، والدولة وفَّقها الله تعالى حريصة على فتح أبواب العمل الكثيرة من أجل شبابنا، وما هذه الكليات والمعاهد والمدارس التي تتخصص في كثير من المهن، إلا بشارة لأهل الجِدِّ من الشباب؛ للحرص على ما ينفعهم في الدنيا والآخرة.
وهناك مهن كثيرة يستطيع الشاب المسلم أن يتعلمها، وأن يعمل بها، ويستفيد منها، ويفيد بها مجتمعه، ويستطيع عن طريقها إثبات مهاراته المتنوعة التي امتنَّ الله بها عليه؛ مثل: الحاسب الآلي، والكهرباء، والميكانيكا، والسباكة، والبناء، والحدادة، وغيرها من المهن التي كان أجدادنا حريصين على تعلمها والاستفادة منها.
فلماذا أصبح كثير من الشباب يُعرِضون عن هذه المهن، وينصرفون إلى غيرها من الوظائف؟ ولماذا لا يملؤون الفراغ الموجود حاليًّا في مجتمعنا من هذه المهن الشريفة؟ هل لأنها لا تناسب مكانتهم؟ فليست الرفعة في المنصب أو الجاه أو غيرها من أعراض الدنيا الزائلة، إنما الرفعة لمن طلب مرضاة الله تعالى، وحرَص على الرزق الحلال، والله تعالى جعل لكل إنسان بحسبه من المهارة في عمله، فبقدر محبته لمهنته بقدر ما يبذل من جهد؛ لينفع بها نفسه، وينفع بها الآخرين، وإني أحث شبابنا الطيب الحريص على دينه ووطنه – على الاقتداء بالأنبياء والمرسلين في تعلُّم المهن التي تكون لهم بابًا من أبواب إعفاف النفس، ونفع المسلمين.
والله سبحانه شرع للمسلمين أن يعملوا، وأن يطلبوا الكسب الحلال، وأن يبتعدوا عن المكاسب الخبيثة، وهذا واجب على المسلمين؛ ولهذا يقول الله تعالى: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 105]، وهذا الأمر يشمل عمل الآخرة وعمل الدنيا الذي يعينهم على عمل الآخرة، فإن أعمال الآخرة تحتاج إلى ما يُعِين عليها من الكسب الحلال، والقوة على أداء العمل والتفقه في الدين والتبصُّر، فالمسلم في حاجة إلى أن يعمل بطاعة الله وترك معاصيه، وفي حاجة إلى أن يعمل بالكسب الحلال، وما يعينه على أداء الواجب، والاستغناء عما في أيدي الناس، وفي حاجة إلى أن يعمل لحفظ صحته ودفع الشر عنه.
وهناك ثمار مباركة من جراء سعيك وكسبك والضرب في الأرض؛ نذكرها فيما يلي:
أولًا: امتثالًا لأمر الله تعالى: أن أول ثمار العمل والكسب الحلال أن يمتثل العامل أمر الله تعالى؛ حيث أمرنا ربنا بالعمل وحثَّنا على ذلك؛ فقال سبحانه وتعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15].
ثانيًا: أن تنال أجر المجاهد في سبيل الله:
معاشر الإخوة الموحِّدين: ومن ثمار العمل والكسب أن ينال العامل الجاد أجر الجهاد في سبيل الله، وذلك من فضل الله تعالى؛ يقـول سبحــانه: ﴿ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [المزمل: 20].
ثالثًا: أن تتشبَّه بالأنبياء:
ولقد أمرنا الله تعالى في كتابه بالاقتداء والتشبُّه بهم؛ فقال جل جلاله: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 90]، ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴾ [الفرقان: 20].
وها هو نبي الله موسى عليه السلام يعمل بالأجرة عند العبد الصالح شعيب؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [القصص: 26 – 28].
وها هو يوسف عليه السلام يعمل على خزائن مصر؛ يقول سبحانه تعالى: ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 55، 56].
وهذا سيد الأنبياء، وإمام الأتقياء، وخاتم المرسلين يعمل ويكُدُّ؛ لأن العمل من سنن هذه الحياة، وهو مع ذلك يقتدي بغيره من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
رابعًا: أن يعُفَّ نفسه عن مسألة الناس:
معاشر الموحدين، ومن ثمار العمل والكسب أن يعف العامل نفسه عن مسألة الناس، والوقوف على أبوابهم، فالمسألة مذلَّة للسائل، تُرِيق ماء وجهه؛ عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن يأخذ أحدكم حبلَه فيأتي بحُزمة حطب على ظهره، فيبيعها، فيكف الله بها وجهه – خير له من أن يسأل الناس؛ أعطَوه أو منعوه))؛ [أخرجه البخاري (1471) باختلاف يسير].
خامسًا: تعمل وتتكسب فتنفق في سبيل الله بصدق وإخلاص، فتفوز برضوان الله، فتدخل الجنة من باب الكسب الحلال والإنفاق في وجوه الخير، قدوتك في ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعثمان بن عفان رضي الله عنه، وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، وجميع المحسنين الذين عناهم الله بقوله: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 133، 134].
سادسًا: أن يأخذ بأسباب المكاسب التي جعلها الله نواميسَ وأسرارًا في هذا الكون:
واعلموا أن من ثمار العمل والكسب أن يأخذ بالأسباب التي شرعها الله تعالى، وحثنا على الأخذ بها، فيتوكل على الله، ولا يتواكل ولا يترك العمل؛ عن عمر بن الخطاب يقول: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكله، لَرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خِماصًا، وتروح بِطانًا))؛ [أخرجه الترمذي (2344)، وابن ماجه (4164)، وأحمد (205) واللفظ له].
سابعًا: أن يكون مطعمه حلالًا، فيقبل الله دعاءه وعمله:
واعلموا – عباد الله – أن من شروط قبول الأعمال الْمَطْعَمَ الحلال؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (… ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعثَ أغبرَ، يمُدُّ يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام، فأنى يُستجاب لذلك))؛ [أخرجه الترمذي (2989) واللفظ له، وأخرجه مسلم (1015) باختلاف يسير].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: ((أطِبْ مطعمك، تكُنْ مستجاب الدعوة))؛ [أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (6495) باختلاف يسير].
أن تنال مغفرة الله تعالى:
وحثَّت الشريعة الإسلامية على العمل والإنتاج، والكسب الحلال، ورتَّبت على ذلك الأجر والثواب، من الكريم الوهاب جل جلاله؛ فجاء في الحديث وإن كان فيه ضعف: ((من بات آكلًا من عمل يده، غفر الله تعالى له))؛ [الجامع الصغير من حديث البشير النذير (ط-أخرى) (2/ 320)].
وعن كعب بن عجرة قال: ((مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جَلَدِه ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين، فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه يعُفها، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياء ومفاخرة، فهو في سبيل الشيطان))؛ [المعجم الأوسط: ج7، ص56، ح6835].
يعني: جعل النبي صلى الله عليه وسلم من يعمل بهمة ونشاط وحب للعمل؛ من أجل النفقة الواجبة على نفسه وعلى أولاده – جعل كل ذلك في سبيل الله سبحانه وتعالى، لم يضيِّق علينا في النفقة في سبيل الله بحيث يحصرها في الجهاد، بل تكرَّم علينا ربنا سبحانه، فأخبرنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم أن من خرج يسعى على أولاد صغار، فهو في سبيل الله؛ يعني: أجره كأجر المجاهد في سبيل الله سبحانه، وكذلك من خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين، فهو في سبيل الله، ومن خرج يسعى على نفسه يعفها، فهو في سبيل الله، لكن من خرج يسعى رياء ومفاخرة، فهو في سبيل الشيطان.
العمل ينهض بالأمة:
إن ارتفاع الأمم وهبوطها، وبقاءها واندثارها، يرتبط ارتباطًا كبيرًا بعمل أبنائها، وتطلعاتهم واهتماماتهم، فلن ترتقيَ أُمَّةٌ يميل أبناؤها إلى الدَّعَةِ والراحة والسكون، ويُؤثِرون على العمل الجاد – الذي يسهم في بناء الأمة – كلَّ عمل يحقق نصيبًا أكبر من الكسل والخمول، مع السعي في تحصيل عائد ماليٍّ جيد يوفر متطلبات الرفاهية والترف.
وإذا كان أفراد الأمة بتلك الصورة، فإن الدنيا ومتعلقاتها تنقلب في مفهومهم إلى غاية تُقصَد، بعد أن كانت وسيلةً تُستثمَر، لا يهم معها النظر في متطلبات الأمة وحاجاتها؛ فتبقى الأمة في تخلفها، بل يزداد تخلفها بقدر ازدياد ترف أبنائها؛ حتى تكون عرضةً للانهيار والسقوط.
إن العمل الجاد هو الركيزة الأساسية لنهضة الأمم والشعوب، ومواكبة التطور الشامل الذي يشهده العالم من حولنا، وما تخلفت الأمة في الآونة الأخيرة، إلا بتركها العملَ الجادَّ، وركون أبنائها إلى الدعة والاعتماد على ما يقدمه الغير لها من صناعات وآلات، فأصبحت الأمة عالة على غيرها يتحكم فيها الغير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقد أمرنا الله تعالى بإعداد العدة؛ فقال سبحانه: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنفال: 60، 61].
وأخيرًا نعمل، فالعمل شرف، وبه نقضي على البَطالة والتسول، والذل للمخلوق الضعيف الفقير مثلك.
كما أنه اعتبر البطالة ظاهرة سلبية؛ يقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: “إني لأكره أن أجد الرجل فارغًا، لا في أمر دنياه، ولا في أمر آخرته”.
قال عمر رضي الله عنه: “إني لأرى الرجل يعجبني، فأقول: هل له حرفة؟ فإن قالوا: لا، سقط من عيني”.
يقول الراغب الأصفهاني: “من تعطَّل وتبطَّل، انسلخ من الإنسانية، بل من الحيوانية، وصار من جنس الموتى، ومن تعوَّد الكسل ومال إلى الراحة، فقد الراحة، وقد قيل: إن أردت ألَّا تتعب، فاتعب؛ لئلا تتعب”؛ [الذريعة إلى مكارم الشريعة، للعلامة أبي القاسم الحسين بن محمد بن المفضل، المعروف بالراغب الأصفهاني].
وقال لقمان الحكيم لابنه: “يا بني، استعِنْ بالكسب الحلال؛ فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رِقَّة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته، وأعظم من ذلك استخفاف الناس به”.
واعلم أن رزقك موجود متوفِّر عند الغني الجبار مالك الملك، تبارك وتعالى؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 17]، وقال: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الحجر: 21].
ولكن كن عاقلًا عالمًا عاملًا؛ فالأصل أن الرزق وغيره قائم على الأسباب، فلا يُنال الرزق إلا بالسعي؛ كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15].
وقال: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 – 58].
فيحتاج المسلم إلى نصائحَ وتطمينات بشأن هذا القلق، واليقين بأن الله قد ضمِن أرزاق العباد، هذا ركن أساس في معالجة هذا القلق: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 58].
عندما نؤمن أن الله خلق كوكبًا غنيًّا، وأنه يوجد فيه بالتأكيد زراعة وثروة حيوانية ومعادنَ، إلى آخره، بالتأكيد يوجد للعباد ما يكفيهم وزيادة، ولما قال: ﴿ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ﴾ [الملك: 15]، هو يعلم ماذا سينتج عن المشي في مناكبها من الفرص والأرزاق والأموال: ﴿ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [المزمل: 20]، فهذه الأسفار، وتغيير المكان، والانتقال من مكان إلى آخر، لا شك أنه يولِّد أيضًا سعة، هذا كما نص الله سبحانه عمن ينتقل في الأرض: ﴿ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ﴾ [النساء: 100]، ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ﴾ [الذاريات: 22، 23].
رزقك محفوظ، فاسأله من ربك سبحانه وتعالى.
احفظ الله يحفظك:
عن أبي العباس عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: ((كنتُ خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: يا غلام، إني أعلمك كلماتٍ: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعتِ الأقلام، وجفَّتِ الصحف))؛ [رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح]، وفي رواية غير الترمذي: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرَّف إلى الله في الرخاء، يعرفْك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا))؛ [أخرجه الترمذي (2516) واللفظ له، وأحمد (2669)].
لا تسألنَّ بُنيَّ آدم حاجةً وسَلِ الذي أبوابه لا تُحجَبُ الله يغضب إن تركت سؤاله وبُنيُّ آدم حين يُسأل يغضبُ |
توكَّل على الله، واسْعَ في طلب الرزق الحلال، وأبْشِرْ؛ عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أنكم كنتم تَوكَّلون على الله حقَّ توكله، لَرُزقتم كما يُرزَق الطير؛ تغدو خِماصًا، وتروح بِطانًا))؛ [أخرجه الترمذي (2344)، وابن ماجه (4164)، وأحمد (205) واللفظ له].
والحاصل:
أن الأصل هو أن الرزق لا يأتي إلا بالسعي، إلا أن يكون معجزة؛ كنزول المائدة على عيسى عليه السلام، أو تكثير الطعام والماء بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كرامة كالذي حصل لمريم.
وقد يكون ذلك استجابة لدعاء يدعو به العبد، فيرزقه ببركة دعائه، والدعاء أيضًا من جملة الأسباب الشرعية، لكن لا يجوز للعبد أن يعطِّل أسباب مطالبه الدينية والدنيوية، اعتمادًا على مجرد الدعاء؛ فإن ذلك أقرب إلى الغرور، فملازمة السعي من إعمال قانون السببية:
اللهم يا حي يا قيوم، أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا.
اللهم أحْسِنْ عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].
وصلِّ الله على نبينا محمد وسلم تسليمًا.