المآخذ العامة على المصرفية الإسلامية والأسباب الداعية للمراجعات التصحيحية


المآخذ العامة على المصرفية الإسلامية

والأسباب الداعية للمراجعات التصحيحية

 

جاءت الشريعة الإسلامية لتحقيق مقصدين عظيمين: عبودية العباد لرب العالمين، وتحصيل مصالحهم في الدارين،[1] فألزمت العبد أن يبحث عن طريق سعادته دون أن يخرج عن طاعة ربه، وقضت على الفقيه – الناظر بنظر الشرع – أن يسعى في بلوغ ما يُسعد الناس عبر المسالك الشرعية المنضبطة.

 

وتمخضت أذهان الفقهاء عن تراثٍ علمي، ونتاج عملي أسبغ على حياة الناس موفور السعادة في شتى المجالات المختلفة، وكان للشأن الاقتصادي – خصوصًا – حضور بارز، ومسيرة عطاء متألقة[2].

ولتحقيق المقصدين معًا، ارتكزت أدوات الاقتصاد الإسلامي على قاعدتين أساسيتين: الأولى: سلامة الأداة من المنع الشرعي، والثانية: تحقيقها للاكتفاء، والتنمية الاقتصادية في المجتمع.

 

وجاءت هاتان القاعدتان على درجتين متتاليتين، فمن الأدوات الاقتصادية ما اكتفى بتحقيق مستلزمات القاعدة الأولى، ومنها ما سعى في تطبيق مقتضيات القاعدة الثانية، وبين ذلك صُنعت بعض الأدوات مشبوهةً، وخُلقت بعض البدائل خداجًا[3].

 

ولنعرج – ابتداءً – على أبرز ما عِيب على المصرفية الإسلامية عموماً، في سبيل أخذها بمقتضيات هاتين القاعدتين، والأسباب الداعية لهذه المراجعات التقويمية النقدية، قبل ولوجنا – بعد ذلك – في رصد ما أفرزه الواقع الميداني للعمل المصرفي من تجارب، وقبل سبر وتقويم مسالك فقهاء الاقتصاد الإسلامي في الحكم بسلامة البديل المصرفي، وجودته.

 

أولاً: المآخذ العامة على المصرفية الإسلامية:

تفرّعت أهم تلك المآخذ على القاعدتين السابقتين على ما يلي:

أ‌- المآخذ العامة على المصرفية الإسلامية فيما يتعلق بقاعدة سلامة الأداة من المنع الشرعي:

1- جعل ركيزة الانطلاق في صناعة الأدوات المالية الإسلامية المحاكاة للمنتجات الربوية؛ بحثًا عن أسلمة تلك المنتجات، وطلبًا للوصـول إلى أهدافها، ومقاصد عاقـديها، الأمر الذي أدّى – غالبًا – إلى خلق بـدائل ذات صور تحـايلية شكلية، تتنصل عن حقيقة العقود الشرعية، وضوابطها.[4]

وقد ذكر الدكتور منذر قحف: ” أن عددًا من المصرفيين الغربيين الذين شاركوا في ندوة لندن، 31/ 10- 1/ 11/ 1985م لم يروا فيه (أي في بيع المرابحة) اختلافاً عن التمويل الربوي إلا من حيث الشكل”.[5]

وفي كتاب خاطرات حول المصرفية الإسلامية، ذكر الشيخ صالح الحصين موقفًا آخر، يقول: “قبل سنوات، طالبت مصلحة الضرائب مكتب أاحد البنوك الإسلامية في لندن، بدفع الضريبة التجارية على أعماله، وهي أكثر كثيرًا من ضريبة عمليات التمويل بالفائدة، فاستطاع البنك بكل سهولة أن يقنعهم أن عملياته، وإن كانت صورتها تجارية، فهي عمليات تمويل حقيقةً، وإنما قُصد بظاهرها مخرجًا شرعيًا؛ ليتجاوز الأحكام الشرعية المحرمة للربا!!” [6]

بل نقل الشيخ كذلك أن أحد المحامين الغربيين بعد أن وقف على ما تقوم به المصارف الإسلامية، صرح بقوله: “إن المسلمين يستطيعون التحايل على ربهم بما لا نستطيع أن نحتال به على قضاتنا”. [7]

2- التلفيق بين عددٍ من العقود الشرعية والنصوص الفقهية، على وجهٍ يؤدي إلى الخروج بمنتجٍ مخالفٍ لأحكام الشريعة ومقاصدها، وتبني صورًا مركبة، دون النظر للأحكام الناتجة عن هذا التركيب وتطوراته في المستقبل، أو مع التخلي عن القيود الشرعية للعقود؛ بحجة كونها جاءت تبعًا لا قصدًا، أو بحجة قيام قائم الحاجة أو الضرورة إلى مخالفتها.[8]

يقول الدكتور محمد سليمان الأشقر في معرض ردّه على من نسب وجوب الوفاء بالوعد في عقود المعاوضات إلى المالكية: “فظنوا دخول المرابحة فيه، وخفي الأمر على المؤتمرين، مع أننا سننقل نصوص المالكية المصرّحة بتحريم بيع المرابحة… ولم يكن لدى المؤتمرين الوقت الكافي للبحث، ولا المراجع التي تمكنهم من المراجعة، فوقعوا بذلك في خطأ تأريخي، يعلم الله وحده مداه؛ إذ أعطوا الحيلة الربوية صفة الشرعية، وأصبح الربا الذي تقوم عليه المصارف العالمية، يمكن أن يتحول – بمجرد اختلاف التسمية – إسلاميًا صرفًا، وزلت بذلك أقدام كثير من المؤمنين، ودخل الربا بيوت الصالحين، الذين صاموا عنه دهرًا طويلاً بالرغم من المغريات، وأصبح أكله سائغًا للطامعين، والمسؤول كان (مؤتمر المصرف الإسلامي الأول) بدبي”.[9]

ب‌- المآخذ العامة على المصرفية الإسلامية فيما يتعلق بقاعدة تحقيق الأداة للتنمية الاقتصادية:

1- حرصُ صانعي البدائل المصرفية على تقليل المخاطر ما أمكن، والبقاء في حيز التمويل المالي فقط، دون اقتحام خطر التجارة، وتبعات القيام بالمشاريع الصناعية والزراعية التنموية.[10]

وفي ذلك يقول الشيخ مصطفى الزرقا: “ولكن البنوك الإسلامية – أو معظمها – أهملت ذلك الطريق الذي خُلقت لأجله؛ لاحتياجه إلى جهود ويقظة، وانصرفت إلى طريق المرابحة للآمر بالشراء، أو إيثار منها للعكس؛ لأن القائمين على إدارتها – أو معظمهم – ليسوا من التجار الخبراء، بل هم مصرفيون، نشؤوا في العمل بالأوراق والحسابات، وهم على مناضدهم، ولم يعتادوا أن ينطحوا الأسواق، ويكونوا تجارًا عمليين بمعنى الكلمة”.[11]

ومما يُظهر ذلك ما جاء في إعلانٍ لإحدى المؤسسات المالية الإسلامية، وقد تجلى فيه ما يدل على الفخر بتحقيق هذه الغاية البعيدة عن نهج الاقتصاد الإسلامي ومقاصده، استجابةً لضغط الواقع – فيما يزعمون -، فقد نشرت إحدى المجلات تعريفًا بمنتجٍ إسلامي، جاء فيه ما نصّه: “وهو منتج إسلامي جديد غير مسبوق، يمثل إبداعًا خلاقًا لفريق تطوير المنتجات، وهيئة الرقابة الشرعية…. وقد تولدت فكرته… تلبيةً لرغبة العملاء في السوق السعودي، وسؤالهم المتكرر عن إيجاد أداة مالية إسلامية، توفر لهم السيولة، دون تحمل مخاطـر رأسمالية… من خلال آلية شرعية تعتمد على فقه بيع التورق، التي أُجيزت بقرار مجمع الفقه الإسلامي”.[12]

2- عدم وضوح المسار الذي تسير فيه هذه الأدوات، الأمر الذي أربك صانعيها، والمنظرين لها، فاتّجه أكثرها بعيدًا عن التدرج في تحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة، وتدحرج كثيرٌ منها في إغراق المجتمع في حمى الاستهلاك، ورفع مستوى المديونية والبطالة.[13]

يقول الشيخ صالح كامل في محاضرة ألقاها في حفل تكريمه، بمناسبة فوزه بجائزة البنك الإسلامي للتنمية في البنوك الإسلامية، بتاريخ 20 أكتوبر، 1997م: “أقولها لكم بكل الصدق والتجرد: إنني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما أيّدت اختيار نموذج البنك؛ كإطار لتطبيق تعاليم الإسلام في مجال الاقتصاد والاستثمار، ولبحثت عن إطارٍ آخر منسجم تمامًا مع المبادئ الشرعية المنظمة للاستثمار، والسبب في ذلك يرجع إلى أننا لم نكتفِ باختيار اسم البنك فقط، ولكن اخترنا كذلك مفهومه الأساسي، وهو أنه وسيط مالي، وبالتالي لم نستطع أن نوجد لمؤسساتنا المالية مفهومًا، ونمطًا يتجاوز مسألة الوساطة المالية، والذي حصل أن الصيغ الاستثمارية المفضلة لدى البنوك الإسلامية أصبحت هجينًا بين القرض والاستثمار، وهو هجين يحمل معظم سمات القرض الربوي، وعيوب النظام الرأسمالي الغربي، ويعجز عن إبراز معالم الاستثمار الإسلامي المبني على المخاطرة، وعلى الاستثمار الحقيقي، ولا يعترف بضمان رأس المال أو عائده، ومما يدل على عمق المسألة واستمراريتها أن الهياكل التنظيمية لبنوكنا، والتي استقيناها من البنوك التقليدية لا تعير اهتماماً لإدارة الاستثمار، لا في حجمها، ولا في تخصصاتها؛ بحيث تستوعب جميع ضروب النشاط الاقتصادي المنتج، واكتفينا بجهاز صغير، وجهزنا أوراقنا بما يتلاءم وطبيعة عملياتنا الروتينية شديدة الشبه بالدورات المستندية للأنظمة الربوية.

 

والنتيجة التي وصلنا إليها – رغم تعلق حتى آمال الغربيين بتجربتنا – أننا لم نتقدم في إبراز الخصائص الأساسية للعمل المصرفي والاستثماري الإسلامي، والمعالم المتميزة له، واكتفينا بتطهير أعمالنا من الربا، ولكن لم نتجاوز واقع وتأثيرات النظام المصرفي الربوي.

 

الإخوة الأعزاء، إن النتيجة المنطقية لذلك الاتجاه الخاطئ هو تكريس التمويل تجاه الموسرين وذوي الملاءة من الذي يملكون الضمانات بأنواعها، وجعلنا المستثمر وحده يتحمل مخاطر الاستثمار، ولا يشاركه فيها المصرف، ولم نراعِ في تمويل العميل الجدوى الاقتصادية لمشروعه، بل اكتفينا بالتأكيد[14] من قوة الضمانات، ولم نهتم إذا كان التمويل التجاري يسبب آثارًا تضخمية أم لا، أو أنه يربك نظام الأولويات والضروريات، أم لا، وهكذا، ودون أن ندري أفرغنا العمل المصرفي الإسلامي من مضامينه الحيوية، وأهدافه الاستراتيجية، والتي تتجاوز مسألة اجتناب الربا إلى المساهمة الفاعلة في تنمية المجتمعات الإسلامية، وزيادة إنتاجيتها”.[15]

وفي بعض ما سبق، وما سيأتي دلالة واضحة على أن الانحراف في مسيرة المصرفية الإسلامية بدأ مبكرًا، مع أوائل المؤتمرات الفقهية، وبدايات التطبيقات المصرفية، مما يعني أن الخرق قد ازداد على الراقع، وأن الحاجة للتقويم والمراجعة باتت ظاهرة بيّنة.

ثانيًا: الأسباب الداعية للمراجعات التقويمية النقدية:

توافرت عدة أسباب دعت الباحثين إلى تقويم مسيرة المصرفية الإسلامية، والنظر في السيرة الذاتية لأدواتها وبدائها المالية، كان من أبرزها:

1- أن النقد والتقويم نوع من أنواع النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد قال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾.[16]

2- ما سبقت الإشارة إليه من انحراف كثيرٍ من المنتجات المصرفية عن خطّها الذي حددته لها الشريعة، وتطلّع إليه المحبون لنجاح التجربة المصرفية الإسلامية.[17]

يقول الدكتور أحمد النجار – أبو البنوك الإسلامية كما يقال[18] -: “وفي المؤتمر العالمي الإسلامي الذي عقدته رابطة العالم الإسلامي في أكتوبر 1987م، كنت قد توصلت إلى مرحلة اقتناع باستحالة تصحيح مسار المؤسسات المالية الإسلامية القائمة، فأعلنت في المؤتمر بكل الصراحة أن هنالك خللاً قد وقع، خللاً في الالتزام بأساسيات النموذج الاقتصادي الإسلامي، وخللاً في فهم المقاصد والغايات، وخللاً بالتبعية في ميكانزم [19] وإجراءات التطبيق، وطرحت على المؤتمر طريقين للعمل: الطريق الأول أن ننظر بأمانةٍ وموضوعيةٍ وتجردٍ إلى مؤسساتنا المالية الإسلامية، فنحلل أعمالها؛ وننفي عنها شوائبها، ونردها إلى الالتزام بأساسيات النموذج الاقتصادي الإسلامي المطلوب، وهذا الطريق في تقديري طويل، وطويل جدًا، فضلاً عن أن هذا العمل – في أغلب الظن غير مقدور عليه عمليًا وإجرائيًا – ومن ثمّ، فإنني لا أميل إلى أن أتجه إلى هذا الطريق، والطريق الثاني: وهو الذي يعمد رأساً إلى الإفادة مما أصاب التجارب القائمة من خللٍ وقصور، فيتلافاها، مقدمين النموذج الصحيح للمؤسسة المالية الإسلامية التي تلتزم بأساسيات الفكر الاقتصادي الإسلامي، والمستوفية للشروط الموضوعية اللازمة؛ لسلامة التطبيق، على أن يكون إنشاء عدد من هذه المؤسسات (شبكة إنارة) تبث الضوء وتعممه، وتغري من خلال ممارساتها المؤسسات القائمة فتدفعها، أو تجبرها على التعديل والتصحيح”.[20]

3- الحاجة إلى تطوير الأساليب والنماذج المرضـية في الزمن السـابق، والتي أصبح الوقوف عندها – اليوم – يمثل حاجز تعثرٍ للمصرفية الإسلامية في تطورها، واكتمال أهدافها.

 

يقول الشيخ محمد تقي العثماني في خاتمة بحثه عن الصكوك وتطبيقاتها المعاصرة: “إن الهدف النبيل الذي حُرِّم من أجله الربا، هو أن يوزع محصول العمليات التجارية والصناعية فيما بين الشركاء على أساس عادل، وآليات الصكوك المذكورة تهدم هذا الأساس من رأسه، وتجعل الصكوك مشابهة للسندات الربوية؛ سواء بسواء من حيث نتائجها الاقتصادية… لا شك أن هيئات الرقابة الشرعية والمجامع والندوات الفقهية أجازت للمصارف الإسلامية بعض العمليات التي هي بالحيل أشبه منها بالعمليات الحقيقية، ولكن هذه الإجازة كانت؛ لتسيير عجلتها في ظروف صعبة، عدد المصارف الإسلامية فيها قليل جدًا، وكان من المفروض أن تتقدم المصارف الإسلامية إلى العمليات الحقيقية المؤسسة على أساس أهداف الاقتصاد الإسلامي، وإلى الابتعاد عن مشابهة الأعمال الربوية، ولو خطوة فخطوة، ولكن الذي يحدث الآن هو عكس ذلك، فإن المؤسسات المالية الإسلامية أصبحت تتنافس في أن تتقدم بجميع خصائص السوق الربوية بعجرها وبجرها،[21] وتأتي بمنتجات جديدة ترجع القهقرى إلى الاقتراب من العمليات الربوية، بدلاً من أن تبتعد عنها، وكثيرًا ما تبدر هذه المنتجات بالحيل التي يمجها الفكر السليم، ويضحك عليها الأعداء”.[22]

4- تغير الأحكام بتغير الأعراف والأحوال، وقد جرى العرف المصرفي على معايير مختلفة، ثم استقرّ بعدها على أسسٍ اختصت بالعمل المصرفي الإسلامي، وكان في ذلك سبب في تغيير ومراجعة الأحكام السابقة، على ضوء المحددات الجديدة.

 

قال القرافي[23] في تقعيد هذه القاعدة: “وإن اختلفت العوائد في الأمصار والأعصار وجب اختلاف هذه الأحكام، فإن القاعدة المجمع عليها أن كل حكمٍ مبني على عادةٍ، إذا تغيرت العادة تغير؛ كالنقود، ومنافع الأعيان، وغيرهما”.[24]

وضمن إحدى تطبيقاتها في الفقه الحنفي، قال في حاشية قرة عيون الأخيار عند قول الشارح: “فلو استأجر أرضًا بيضاء ليزرعها، أو يغرسها جاز”، قال: “كان هذا في عرفهم أنه من صنيع التجار، وفي عرفنا أنه ليس هو من صنيعهم، فينبغي أن لا يملكه”.[25]

5- ظهور النتائج السيئة لتطبيق بعض الأدوات المالية، جعل الحكم عليها – باعتبار مآلها – ظاهرًا وبيّنًا، من بعد خفائه وتردده، وأوجب إعادة النظر فيها؛ كمثل التورق المصرفي الذي تبنته عدد من الهيئات المصرفية، ثم ظهرت من خلال تطبيقاته العملية حقيقته، وأصدر المجمع الفقهي الإسلامي بمكة الحكم بتحريمه[26].

 

والواقع التطبيقي للمنتج المالي يظهر اشتداد وتيرة المصارف الإسلامية في الأخذ به، وإغفالها لما هو آكد منه وأهم؛ كمنتج المرابحة للآمر بالشراء؛ إذ أصبحت جلّ أنشطة المصارف الإسلامية ترتكز عليه،[27] مع ما عليه من ملاحظات؛ لذا جاء في توصيات المؤتمر الفقهي للدورة الخامسة لمجمع الفقه الإسلامي بجدة التنبيه على ذلك: “في ضوء ما لاحظه، من أن أكثر المصارف الإسلامية اتجه في أغلب نشاطاته إلى التمويل، عن طريق المرابحة للآمر بالشراء، يوصي بما يلي:

أولاً: أن يتوسع نشاط جميع المصارف الإسلامية في شتى أساليب تنمية الاقتصاد، ولا سيما إنشاء المشاريع الصناعية، أو التجارية بجهودٍ خاصة، أو عن طريق المشاركة، والمضاربة مع أطراف أخرى…”.[28]

وجاء في توصيات المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بمكة في آخر القرار الصادر بشأن التورق: “كما أن المجلس إذ يقدر جهود المصارف الإسلامية في إنقاذ الأمة الإسلامية من بلوى الربا، فإنه يوصي بأن تستخدم لذلك المعاملات الحقيقية المشروعة، دون اللجوء إلى معاملات صورية، تؤول إلى كونها تمويلاً محضاً، بزيادة ترجع إلى الممول”.[29]

وكل هذه المصطلحات التي تناثرت في صيحات فقهائنا المعاصرين، ممن عاش واقع المصرفية الإسلامية، وأكدّ أن الغبش في تناولها كان سببًا في انحراف الأدوات المالية عن اتجاهها الصحيح، تحتاج إلى تسليط الأضواء عليها بالتحرير والضبط؛ ابتداءً بمقاصد العقود الشرعية ومآلاتها، وحدود التدرج في تطبيق الاقتصاد الإسلامي، إلى مصطلحات التحايل، والشكلية، والضرورة، والأولوية، وإبراز الفروق بين الوساطة والتجارة، وبين التخريج المنضبط والتلفيق، وغير ذلك مما يهدف هذا البحث لتحريره، وبيان علاقته بالبدائل المصرفية.

 

بيان أهمية النظرية الحاكمة للبدائل الإسلامية للمعاملات المصرفية:

أسهمت المصارف الإسلامية في ابتكار وتطوير صيغٍ وأدوات مالية، تلبي حاجة العملاء إلى التمويل، وتنمية الأموال، والخدمات المصرفية، وقد أغنت الكثيرَ عن اللجوء إلى البنوك الربوية، والمعاملات المحرمة.

 

والناظر في واقع هذه البدائل والمنتجات المالية الإسلامية يجد أنها انقسمت في تحقيق الشرط، والمقصد الشرعي إلى ثلاثة أقسام:

‌أ- فمنها ما أسهم في تحقيق الأحكام الشرعية، بشروطها ومقاصدها.

 

ب- ومنها ما رفع الحرج عن مخالفة الحكم الشرعي، لكنه لم يرتقِ إلى المشاركة في بناء التنمية على ضوء المقاصد الشرعية.

 

ج- ومنها ما تحايل على الحكم الشرعي، وتعارض مع الأولويات الاقتصادية، والأسس الكلية للاقتصاد الإسلامي.

 

وبحثًا عن المجالات التي تتسم بأكبر قدرٍ ممكنٍ من السيولة، وبأقل درجةٍ ممكنةٍ من المخاطرة، وبأقصى نسبةٍ ممكنةٍ من الأرباح،[30] ولدت بعض البدائل التي لا تنسجم مع الأحكام الشرعية، أو لا تحقق المقاصد المرعية.

 

فمن مظاهر الخلل في تطبيق الحكم الشرعي للبدائل المصرفية: أن كثيرًا من المصارف الإسلامية قد اهتمت بجني الأرباح، مع الحرص على التخفف من التبعات الشرعية، فدرجت على أن تجني الربح من خلال تمويل العميل بالمال في مقابل شرط الأجل، وتتخفف من شروط القبض، والضمان شيئًا فشيئًا.

 

فأوجدت المرابحة للواعد بالشراء؛ لتضمن بيع السلعة قبل تملكها بربحٍ معلوم، وأوجدت الاستصناع الموازي؛ لتنجو من تبعات التصنيع ومخاطره، ثم أوجدت الإجارة المنتهية بالتمليك؛ لتتجنب مخاطر المماطلة، وضمان العين المؤجرة، وهي في كل ذلك تحرص على تحديد الأجل، وقدر الربح الحاصل لها من هذا التمويل، دون حرصٍ على النظر في شروط، أو مواصفات السلعة المباعة، أو المستصنعة، أو مخاطر الشحن والتسويق، أو الجدوى الاقتصادية للمشاريع الممولة.

 

ثم لما كان قصد كثيرٍ من العملاء الحصول على السيولة، دون النظر للسلعة المشتراة، أو المستصنعة، أو المؤجرة، اخترعت بعض المصارف الإسلامية التورق المنظّم؛ لتكون محصلته مزيدًا من التخفف من الإجراءات التي تثقل المرابحة، والاستصناع، والتأجير المنتهي بالتمليك، وتنتهي بتمويلٍ نقدي، مقابل عبء تعبئة بعض طلبات الشراء، والتوكيل في البيع إلكترونيًا!.

 

وهي بذلك تقترب من صنيع البنوك الربوية؛ إذ لم يبق لها ما تقدمه للمجتمع إلا أن توفر تمويلاً مؤجلاً بزيادة معلومة، قد تُحدد في كثيرٍ من الأحيان على ضوء سعر الفائدة السائد، وأصبحت بذلك لا تتعامل حقيقةً إلا في إدانة النقود بالنقود، دون أن تسهم في رفع مستوى تجارة، أو إشادة صناعة، أو توفير الحاجات الاستهلاكية إلا بالقدر الذي تسهم به البنوك الربوية.

 

ووضعت بذلك نفسها ” موضع الوسيط الطفيلي الذي يضمن الربح عن طريق تمويل التجار، بدلاًَ من أن تكون هي التاجر المسلم الحقيقي، الذي يبتغى من فضل التاجر، ويخاطر بماله في البر والبحر، وينفع عباد الله”.[31]

ومن مظاهر الخلل في تحقيق المقصد الشرعي للبدائل المصرفية: ما تتسارع إليه المصارف الإسلامية من توفير خدمات ائتمانية، تنافس بها البنوك الربوية، ولو على حساب رفع مستوى الاستهلاك والتبذير، وإغراق المجتمع في الديون، ناهيك عما توفره كذلك بعض المصارف الإسلامية من خدماتٍ تشجع على الإغراق في عمليات المضاربة في الأسهم والمعـادن والعمـلات، ولو على حساب تشجيع المبادلات الصفرية – والتي لا تعود على المجتمع بأي قيمةٍ اقتصاديةٍ مضافة -، وتوجيه مسار الأموال الوطنية إلى أسواق المال العالمية.

 

وقد كان من أهم أسباب الخلل في مسيرة البدائل، التي تبنتها بعض المصارف الإسلامية:

1- تساهل بعض المستشارين الشرعيين في الهيئات الشرعية للمصارف الإسلامية، وضعف كفاءتهم الشرعية، وتنافسهم المحموم على ابتكار بدائل تجر أرباحاً، بنفْس نَفَس البنوك الربوية.[32]

2- عدم تحرير عددٍ من القضايا العالقة والمتعلقة بالتمويل الإسلامي،[33] ومع تأخر أو عجز المجامع الفقهية عن الخروج بحكمٍ ملزمٍ للهيئات الشرعية في المصارف، تسارعت وتيرة التساهل في الضوابط الشرعية، أو التشكيك في صحة بعض الإجماعات المنقولة.[34]

3- مجاراة البنوك الربوية في صيغها وأدواتها المالية، مع شيءٍ من التحوير الطفيف، الذي يُغير الصورة والشكل، ولا يبتعد كثيرًا عن الحقيقة والآثار.

 

وباستحضار هذا الواقع الذي وصلت إليه بعض صور المصرفية الإسلامية، منحرفة عما كان يرجى لها من إنعاش الاقتصاد الإسلامي، كان لا بدّ من إعمال منهجيةٍ واضحةٍ في صناعة البدائل الإسلامية، والحكم عليها، وتحديد رتبتها في سلم المقاصد الشرعية للاقتصاد الإسلامي، وتتأكد أهمية الأخذ بهذه المنهجية فيما يلي:

1) إبراز المعالم الأساسية لإيجاد البدائل، والتفضيل فيما بينها؛ بحسب التزامها بالضوابط الشرعية، وقربها من المقاصد والقواعد الكلية، وكفاءتها في تحقيق مقصود المتعاملين، والنمو الاقتصادي في المجتمع.

 

2) تضييق موارد الخلاف الفقهي في المسائل المالية المعاصرة، والكشف عن المذاهب والمناهج الشاذّة.[35]

3) تحديد المعايير التي تحاكم في ضوئها البدائل، والصيغ المالية المبتكرة أو المطوّرة، ويمُيز بها بين العقود الشكلية والصور التحايلية، وبين المعاملات المالية المشروعة، ذات القيمة الاقتصادية المضافة.

 

4) بيان المسالك التي يُرفع بها الحرج عن الناس، وتمييز المواضع التي يسلك فيها مسلك التيسير في قبول البديل المصرفي تدرجًا أو ضرورة، من المواضع التي يُحتاط فيها للحكم الشرعي، والمقصد الكلي إلزامًا أو أولويةً.

 

وفي بيان أهمية النحو نحو الأخذ بمنهجية الضوابط المقرّرة، والقواعد المحرّرة للأحكام الفقهية عمومًا، يقول ابن السعدي[36]: “فإذا تحررت هذه القواعد مع ما تبعها من الضوابط؛ واستثنيتها من ذلك الأصل العظيم – أيّ أن الأصل الإباحة – حصل لك في هذه المواضع المهمّة من العلم ما تهتدي به إلى هذه المسائل والصور المذكورة، وما كان في معناها مما تدعو إليه الضرورة والحاجة؛ لأنه إذا ذُكرت أصول المسائل ومآخذها ومقاصد الشرع، وبيان حِكمها وأسرارها تقررت في الأذهان، وصار هذا العلم – على هذا الوجه – أكمل بكثير من تعلم مجرد صور المسائل وأفرادها، دون حِكمها ومآخذها، فإن هذا النوع قليل الثبوت في الذهن، لا يكسب صاحبه تمرناً على المباحث العلمية والتفريعات النافعة، ولا يهتدي إلى الفرق بين المسائل المتفرقة أحكامها، ولا إلى الجمع بين المسائل المجتمعة أحكامها في أصلٍ وعلة”.[37]

ولا نعني بصياغة هذه النظرية أن تكون معايير محددة، وأشكال جامدة؛ إذ “لا يكون التنظيم الصارم مرغوبًا؛ لأن الشريعة سمحت بشيءٍ من التفاوت، ولأن مثل هذا الإجراء يضرّ بالابتكار، ويخفض من قدرة النظام على مواجهة التحديات الجديدة، لكن لا بدّ من وجود حدٍّ أدنى من التوحيد في تطوير المنتجات، وتشغيلها لتتوافق مع الشريعة الإسلامية”.[38]


[1]ينظر: قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام، (1/ 3)، مجموع فتاوى ابن تيمية، (13/ 96).

[2] ينظر: إسهامات الفقهاء في الفروض الأساسية لعلم الاقتصاد، لرفيق المصري، مناهج الباحثين في الاقتصاد الإسلامي، لحمد الجنيدل، سلسلة أعلام الاقتصاد الإسلامي، لشوقي دنيا.

[3]الخداج: بكسر الخاء، إلقاء الولد قبل أوانه، ينظر: لسان العرب، لابن منظور، (2/ 1108)، القاموس المحيط، للفيروزآبادي، (185).

[4] ينظر: مقالات في التمويل الإسلامي، لسامي السويلم، ص(23-24)، إدارة المخاطر بالمؤسسات المالية الإسلامية، لعبد الكريم قندوز، ص(11-15).

[5] نقلها د. رفيق المصري في بحثه عن بيع المرابحة، المنشور في مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، الدورة الخامسة، (2/ 1158).

[7] حكاها في ندوة البركة والتي أقيمت في رمضان سنة 1424هـ، ونقلها عنه د. سامي السويلم، في قضايا في الاقتصاد، ص(447)، وانظر نحوها في خاطرات حول المصرفية الإسلامية، للحصين، ص(106).

[8] ينظر: قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة حول أحكام التلفيق، رقم74/ 1/ د8، ضمن مجلة المجمع، الدورة الثامنة، (1/ 640)، المعايير الشرعية، ص(419)، الموسوعة الفقهية الكويتية، (13/ 293-294)، العقود المالية المركبة، لعبد الله العمراني، ص(179-188).

[9] بحوث فقهية، (1/ 90-91).

[10] ينظر: مفهوم التمويل، لمنذر قحف، ص(52)، الوساطة المالية في المصارف الإسلامية، لإسراء حميد، ص(368-388).

[11] مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، الدورة السابعة، (2/ 249).

[12] مجلة أهلاً وسهلاً، عدد رجب – شعبان، 1422هـ، ينظر: جريدة الاقتصادية، الجمعة، 13ربيع الأول 1426هـ، الموافق 22/ 4/ 2005 على موقعها الإلكتروني.

[13] ينظر: فقه التدرج، معاوية أحمد، ص(140)، منهج الفتوى في المعاملات المعاصرة بين التدرج والصورية، للسويلم، منشور في مقالات في التمويل الإسلامي، ص(34-36).

[14] هكذا في الأصل، ولعلها: بالتأكد.

[15] تطور العمل المصرفي، مشاكل وآفاق، ص(14-15).

[16] [آل عمران : 110].

[17] ينظر: نقاش هادئ حول ما يسمى المنتج البديل للوديعة لأجل، لشوقي دنيا، ص(23-24).

[18] وهو منشئ بنك التوفير في مصر، سنة 1963م، ينظر مقابلة بتاريخ 13/ 1/ 2004م، مع د. عبد الباري محمد علي مشعل، الخبير الاستشاري في التدقيق والرقابة الشرعية في بيت المشورة بالكويت، وكبير المستشارين الشرعيين في شركة الراجحي المصرفية بالرياض سابقًا، نقلها سالم البيانوني في كتابه البدائل المشروعة، وأهميتها في نجاح الدعوة الإسلامية، ص(136).

[19]مأخوذة من المِيكانيك، وهو علم من علوم الفيزياء يبحث في الطاقة والحركة، وكل ما يعتمد على الظواهر الحسية والمادية، دون القوى الخفية، ينظر: معجم اللغة العربية المعاصرة، لأحمد مختار، (3/ 2147).

[20]مقال نظرات حول أزمة البنوك الإسلامية، منشور في كتابه حركة البنوك الإسلامية، ص(597).

[21]العُجر: بضم العين، أن يتعقد العصب، أو العروق حتى تراها ناتئة من الجسد، والبُجر، بضم الباء، نحوها إلا أنها في البطن خاصة، والمراد عيوبها الظاهرة والخفية، ينظر: غريب الحديث، لأبي عبيد، (4/ 193)، النهاية، لابن الأثير، (3/ 185).

[23] هو أحمد بن أبي العلاء إدريس بن عبد الرحمن القرافي، شهاب الدين، أبو العباس الصنهاجي، انتهت إليه رئاسة المذهب المالكي، من تصانيفه: الذخيرة في الفقه، وأنوار البروق في أنواء الفروق، توفي سنة 684هـ، ينظر: الديباج المذهب، لابن فرحون المالكي، (62-67)، معجم المؤلفين، لكحالة، (1/ 158).

[24]الفروق، (4/ 225).

[26]ينظر: مجلة المجمع الفقهي الإسلامي بمكة، العدد العشرون، ص(413-415).

[27] ينظر: بحوث في النظام المصرفي الإسلامي، لمحمد صديقي، ص(291)، المصارف الإسلامية، لرفيق المصري، ص(25)، المصارف الإسلامية، لمحمد الزحيلي، ص(71).

[28]مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، الدورة الخامسة، (2/ 1600).

[29]قرار المجمع في دورته السابعة عشرة، المنعقدة بمكة المكرمة، 19-23/ 10/ 1424هـ، مجلة المجمع الفقهي الإسلامي، العدد العشرون، ص(414).

[30] يراجع: البنوك الإسلامية، لفليح خلف، ص(413)، البديل الإسلامي للفوائد المصرفية، لعاشور عبدالجواد، ص(38-39).

[31] شرعية المعاملات التي تقوم بها البنوك الإسلامية المعاصرة، لعبد الرحمن عبد الخالق، ص(112).

[32] ينظر: المعاملات الربوية في ضوء القرآن والسنة، لأحمد ملحم، ص(184).

[33] كالوعد، والتعامل مع المماطل، وإصدار الضمان المصرفي، والتجارة في العملات الأجنبية، وغيرها، ينظر: بحوث في النظام المصرفي الإسلامي، لمحمد نجاة الله، ص(267).

[34] ينظر: الأعمال المصرفية والمالية الإسلامية، لمحمد شابرا، ص(364-365)، قضايا في الاقتصاد والتمويل الإسلامي، لسامي السويلم، ص(228).

[35] ينظر: التجديد في فقه المعاملات المالية المعاصرة، لرياض الخليفي، ص(266).

[36] هو عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي التميمي، فقيه مفسر، من علماء نجد، من تصانيفه: تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن، والخطب المنبرية، توفي سنة 1376هـ، له ترجمة في الأعلام، للزركلي، (3/ 340)، مشاهير علماء نجد وغيرهم، لعبد الرحمن آل الشيخ، ص(256- 261).

[37] الإرشاد إلى معرفة الأحكام، ص(125-126).

[38] مستقبل علم الاقتصاد من منظـور إسلامي، لمحمد شابرا، ص(365)، وينظر: بحـوث في النظام المصرفي الإسلامي، لمحمد صديقي، ص(296).



Source link

أترك تعليقا

مشاركة
‘The Summer I Turned Pretty’ Season 3: Everything We Know So Far – Deadline
6 Books for Adults Living With A.D.H.D. – The New York Times