المثقف والتغريب
المثقف والتغريب
ماضٍ في طريقي على رصيف تزدحم فيه المقاهي الغاصَّة بالروَّاد، بين هاتف مصفق لمحاولة تهديف تثير الحماسة والحمية، وآخر حانق متذمر يحترق من داخله لضياع هدف أو عدم رضا عن تحكيم اللقطة، فتختلط الأصوات الصاخبة في المكان محللة ومنتقدة ومفسرة، فالكل صار بحكم دربة المشاهدة اليومية للمباريات المتلاحقة في شتى دوريات العالم وبطولاته ذات الأنفاس المتلاحقة عَلَّامةً يفقه تفاصيل اللعبة ويدري بخباياها، بل وتجده يتجرأ على المدرِّب نفسه في إبداء رأي مضاد لتشكيلة الفريق، فيعاتب على ترك أحد اللاعبين في دكة البدلاء؛ لأن الزج به منذ البداية كان سيؤتي أكله في نظره، وما شابه هذه الأشياء التي ملأت العقول الصغيرة والكبيرة حتى صارت جزءًا من المعتاد الكلامي لطائفة كبيرة من الناس، غير أن هذا الأمر صغر عندي وأنا ألتقط عبارة من رجل على مقربة من المقهى كان قد خرج لتوِّه من تأدية صلاة العشاء من مسجد قريب، فاستوقفه مشهد كروي محتدم بين فريقين مشهورين، فاسترقت النظر إليه فإذا هو رجل في الخمسين من عمره اشتعل رأسه شيبًا، على سحنته وقار مَهيب، يتكلم بثقة محاورًا أحد الرفاق، فقال العبارة التي جعلت أديرها في رأسي مرات ومرات: “إنهم يمتلكون ثقافة كروية”، لم تستسغ نفسي أن ترتبط كلمة الثقافة بلعبة جلد مدور، فمجَّتها ذائقتي كل المج، واستهجنها خاطري كل الاستهجان، وكأن بنظراتي للرجل تنقل إليه سهام الرفض والعتاب، إذ لم يكن متقبلًا عندي أن ينحدر بالثقافة وما ترتبط به من علو منزلة وسمو شأو في الحياة إلى منحدر الإسفاف؛ فترتبط نطقًا بلعبة، فعَنَّت لذاكرتي كتب قرأتها عن الثقافة وما يجول بميدانها، وعن المثقف وما يجب عليه أن يصنع، فرحت في طريقي كالساخط لا توقفني وتردني إلى جادتي غير فلسفات كنت اطلعت عليها ومفاهيم عن المثقف العضوي والتقليدي استحضرتها في فلسفة ماركس وغرامشي، وما ماثل هذه الأشياء التي أخذت تزدحم في صدري فتنسيني ذلك العبث المفهومي الذي بدأتْ كثير من الألسنة تطلقه بعدما رسخته وسائل إعلام همُّها تغيير المفاهيم وتشويه المتعاليات من الصناعة النخبوية انسجامًا مع سياق التفاهة المروج لها بكل الوسائل المتاحة الآن.
إن ربط الثقافة بلعبة أمر لا يستشعر مراراته إلا العارف بمفهوم الثقافة وما تدل عليه من منتج بشري يحكمه العقل والإبداع، ولست أجد في اللعبة ما يسمح لهذين المحركين بالظهور غير مهارة وقوة وبناء خطة، وقد يدعي البعض أن اللعبة تحتاج إلى إعمال عقل وفكر في توجيه دفة الأحداث والإيقاعات على مدار الوقت، وهو أمر لا ينكر غير أن مقصدي بالعقل والإبداع هنا محمول على البعد الفلسفي والـتأملي الذي يكون طريقًا إلى إنتاج المعرفة لا إنتاج اللهو المستغل لأجل التجارات والرهانات والقمار وغيرها من الأشياء التي داخلت اللعبة اقتصاديًّا، فجعلتها موردًا كبيرًا لجني المال؛ لذا فعبارات تُروَّج في الإعلام والألسنة؛ كالفكر الكروي، والثقافة الكروية، وأن كرة القدم علم، تبدو أكبر بكثير، ولا أرى إباحة لاستعمالها لأن أمكنتها جلية بينة في مسار التاريخ؛ لذا فإن أي مساس بها عبر استدعائها من مكامنها التي ترعرعت فيها؛ وهي العلم والإبداع والأدب والفلسفة وضروب المعرفة المنتجة عبر التاريخ الإنساني يعد اعتداء صارخًا على العقل الإنساني الذي ينبغي أن يتمتع بقداسته وسلطته كما صنعت الفلسفات منذ اليونان حينما مجدت العقل واعتبرته الجوهر، وظل على ذلك حتى في الفلسفات الحديثة التي أخذت في دراسته هو نفسه باعتباره أداة لإنتاج المعرفة، وحين نقول المعرفة فنحن نقصد كل ما يسهم في بناء وتطوير حضارة الإنسان، ولا يمكن لكرة القدم أو غيرها من اللعبات الرياضية أن تكون طريقًا لتطوير الحضارة بقدر ما هي نتاج لهذه الحضارة لا مقياس لها كما هو حال العلوم وألوان الثقافة والفكر المنتج، ولا أدل على ذلك من وجود حضارات قوية في العالم اليوم تنافس على كل الأصعدة التقنية والتكنولوجية والاقتصادية، وهي مستغنية عن لعبة كرة القدم؛ إذ لو كانت فكرًا وثقافةً كما يزعم الإعلام المتأثر بالتغريب لانتقص عدم وجودها أو ضعفها في هذه الحضارات من قيمتها، ثم هل كان للحضارات في التاريخ مجد يقاس بلعبة من اللعب؟ أم أن مجدها قيس بقوتها العلمية والمعرفية؟
قد يحتج أحدهم حين يستنطق التاريخ اليوناني فيقول لنا إن اليونان عرفوا الألعاب الأولمبية في مدينة أولمبيا، وكانوا على درجة عالية من التقدُّم المعرفي في مختلف العلوم والآداب، غير أن حجتنا المفندة لهذا المزعم تنبع من التاريخ نفسه ونفس السياق الذي وجدت لأجله ألعاب أولمبيا التي كانت لأجل خلق روح التفاهم والتوادد بين المتحاربين وامتصاص غضب الحروب والصراعات؛ إذ كان إنشاؤها لأهداف إنسانية محضة ولم تكن تمُتُّ بصلة للمعارف والعلوم السائدة، ومن هنا وجب على الإنسان المثقف أن يلعب دوره التنويري في نقد الأنساق التعبيرية التي غدت جزءًا من التشكيل الخطابي للإعلام الرياضي وتأسيس وعي جمعي ينبذ تذويب مصطلحات كبيرة متسامية بطبيعتها قبل أن ترتبط بالمنتج الحضاري داخل سياقات كروية ترتبط باللهو والإمتاع والفرجة، احترامًا وتقديسًا للفكر والثقافة ووضعًا للأشياء في مواضعها المستحقة بعيدًا عن خلط الحابل بالنابل عمدًا لتشويش تفكير الأجيال وإفساد أذواقهم وملء عيونهم بالأقذاء القادمة من موجات التغريب العكرة.
إن أصعب مواجهة يمكن أن يعيشها المثقف في نظري هي مواجهة الأنساق التعبيرية؛ لأنها تتشكل سوسيولوجيا عبر التداول والإغراق الإعلامي المتواصل؛ مما يجعلها أبنية لسانية تترسخ في اللاوعي الجمعي، وتستبطن كتراكيب مقبولة وسريعة التداول، ما يجعل مهمة المثقف في مجتمع أبعدته التفاهة بكل مكوناتها عن الإصغاء لخطاب مثقف يعاني الآن من إقصاء وازدراء في مقابل تمجيد وتعظيم صناع التفاهة كما هو بيِّن في المشهد الإعلامي وفي مواقع التواصل الاجتماعي وعلى قنوات اليوتيوب؛ حيث يظل دور المثقف محصورًا في دائرة نخبوية يحاول عبرها الانعتاق لكن دون جدوى؛ لأن موجة التغريب أنهكته وأتعبته رغم اجتهاده في السباحة بنهر هيراقليطيس.