المجملات النافعات في مسائل العلم والتقليد والإفتاء والاختلافات الثالث: التقليد


ملخص كتاب: الْمُجْملات النافعات في مسائل العلم والتقليد والإفتاء والاختلافات

الثالث: التقليد

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:

فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهَدْيِ هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

‌اللهم ‌صلِّ ‌على ‌محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

 

مقدمة:

هذا هو المقال الثالث من خمس مقالات، في ملخص كتاب: المجملات النافعات في مسائل العلم والتقليد والإفتاء والاختلافات، لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ أحمد عبدالرحمن النقيب، الأستاذ بقسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية، كلية التربية، جامعة المنصورة، مصر، الكتاب من إصدار دار طابة للنشر والترجمة، المنصورة، مصر، الكتاب يقع في 126 صفحة من القطع المتوسط، ويغطي أربعة أقسام رئيسة؛ هي: العلم، والتقليد، والاجتهاد والاتباع، والاختلاف، ولله الحمد وحده، سبق التعريف بموضوع الكتاب، وبيان محتواه إجمالًا، ووصف الكتاب، ومقدمته، في المقال الأول، وسبق ملخص الموضوع الأول من الكتاب وهو العلم في المقال الثاني، ونتناول في هذا المقال إن شاء الله ملخص الموضوع الثاني في الكتاب؛ وهو: التقليد.

 

التقليد:

يناقش هذا الجزء من الكتاب موضوعًا غاية في الأهمية، يكثُر السؤال عنه، والجدل فيه، خصوصًا في زمان عزَّ فيه العلم، وكثُر سؤال العديد من المسلمين عن أحكام التقليد، وما العمل إذا اختلفت أقوال الأئمة والمشايخ؟ ومن نُقلِّد؟ وهل تبرأ الذمة بالتقليد؟ ولقد يسَّر الله عز وجل برحمته لفضيلة الشيخ الدكتور/ أحمد النقيب حفظه الله مناقشةَ الأمر وبيانه، فمع ملخص هذا الجزء من الكتاب.

 

أنواع الناس في المعرفة والفَهم:

بدأ المصنِّف حفظه الله هذا الجزءَ بالحديث عن أنواع الناس في الفَهم والمعرفة، وهذا أمر مهمٌّ، فلا بد من وجود فوارق، ولا بد من مراعاتها، ذكر حفظه الله أن الناس في الفَهم والمعرفة على ثلاثة أصناف: الجاهل، والعالم المجتهد، وصِنف بين الصِّنفين.

 

أما الجاهل، فهو الذي لا يفقه معانيَ القرآن الكريم والحديث الشريف، ولا يستطيع الاستنباط منهما، ولا يعرف ما يَطلبان منه، اصطُلح تسميتهم بالمقلِّدين.

 

وأما العالم المجتهد، فهو الخبير البصير الذي يفقه الآيات والأحاديث، ويعرف كيفية التوصل إلى ما بهما من أحكام، ويفهم اللغة العربية معناها ومبناها، ويعرف كيفية الترجيح والتوفيق بين ما ظاهره الخلاف من الكتاب والسُّنَّة، اصطُلحت تسميتهم بالمجتهدين.

 

ومنهم ما هو بين ذلك، ليس جاهلًا لا يفقه ما يقرأ من أحكام، ولا يستطيع معرفة ما يدل عليه الكلام، بل عنده شيءٌ من عِلْمٍ واطلاع، وعقلٍ وتفكير، لكنه لم يصل إلى درجة العالم الفقيه، والمدقِّق البصير بما يدل عليه الكتاب والسنة، اصطُلحت تسميتهم بالمتَّبِعين.

 

معنى التقليد:

قال الخطيب البغدادي في “الفقيه والمتفقه” (2/128): “التقليد هو قبول القول من غير دليل”، وقد أورد المصنِّف حفظه الله تعريفاتٍ عديدة متنوعة في التقليد، وأقوال نفيسة، لشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن عبدالبر، وابن خويز منداد، وابن حزم، والشنقيطي، والألباني، والشاطبي، وغيرهم، تدور حول ما قاله الخطيب البغدادي، وقد خلص المصنف حفظه الله إلى أن التقليد هو “التزام قول الغير أو أخذه بدون دليل ولا برهان”.

 

أنواع التقليد وحكم كل نوع:

ثم أردف المصنف حفظه الله الحديث عن بيان أنواع التقليد، وحكم كل نوع، وخلص إلى أن التقليد نوعان: تقليد جائز، وتقليد غير جائز.

 

التقليد الجائز:

قال المصنف حفظه الله: وهذا لا يكون إلا مع الضرورة، ومعنى الضرورة هنا هي عدم التمكُّن من فهم الدليل أو الوقوف عليه، سواء كانت المسألة عقدِيَّة أو تشريعية، فلا فارق بينهما، وهذه الضرورة تقع للعالم، والمتَّبع، كما تقع للعامي.

 

التقليد الجائز بالنسبة للعالم:

العالِمُ الأصلُ فيه أن يطلب حكم الله عز وجل في المسألة، وأن ينظر في الأدلة، وأن يجمع أقوال المجتهدين في المسألة، وأن يعرف دليلَ كلِّ قول، وأن يحرِّر المسألة ليعرف الحق في هذه المسألة، ويعبد الله عز وجل به؛ قال الله عز وجل:

﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [النساء: 83].

 

فالذين يستنبطونه هم أهل العلم، فلا بد للعالم أن يبذل جهده، وأن يستفرغ وُسْعَه في معرفة حكم الله عز وجل في هذه المسألة.

 

فإذا وقع على ما يظن أنه حكم الله عز وجل، وجب عليه العمل به، وقد يكون ما صار إليه العالم خطأً، لكن هذا منتهى ما وصل إليه اجتهاده؛ لأنه إما أنْ يعتقدَ أنَّ هذا هو الحق، وهذا هو سبيل أهل العلم، أنهم على بصيرة، فيجب عليه عندها العمل به.

 

أما إذا لم ينشرح في المسألة صدرُ العالم لدليل أو استدلال، كان مقلِّدًا؛ أي: جاز له أن يقلِّد غيره من العلماء مَظِنَّة العلم والتقوى، والتحري، والاحتياط، والدقة.

 

التقليد الجائز بالنسبة للمُتَّبِع:

المتبع هو من يُعظِّم الدليل، فينتهي إلى ما عَلِمَ، سواء كان طالبَ عِلْمٍ أو لم يكن، فهو يفهم الدليل، وعنده بعض أدوات الاستنباط أو كلها أحيانًا، فهو بهذه الحيثية يرتفع عن العامي، وليس من جملة العلماء المجتهدين المحرِّرين، هذا المتبع يجوز له تقليد العلماء الذين يُعتمَد عليهم في بيان حجج الأقوال، وتحرير المسائل، وبيان الراجح.

 

التقليد الجائز بالنسبة للعاميِّ:

العاميُّ هو الجاهل الصِّرف الذي لا يعرف معنى النصوص ودلالاتها، ولا يُقصَد بالعاميِّ الأميُّ، لكن هو الذي لا يفهم النص، وليست عنده أدوات فهم النص، فقد يكون الإنسان حاملًا للشهادات العالية، لكنه عاميٌّ في الشرع وفهمه، وهنا يجب عليه أن يقلِّد أهل العلم؛ قال الفلاني في “إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار” (ص38) عن ابن عبدالبر: “ولم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المرادون بقول الله عز وجل: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]، وأجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممن يثق بخبره بالقِبلة إذا أَشْكَلت عليه، فكذلك من لا عِلْمَ له ولا بَصَرَ بمعنى ما يَدِين، لا بد له من تقليد عالمٍ”.

 

قال المصنف حفظه الله: والعاميُّ عندما يقلِّد العالم، فإنه يقلِّده باعتباره مُخبرًا عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما إذا كان العالم على غير علم من الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة، جاز للعاميِّ – بل وجب عليه – أن يقلِّد غيره ويسأله في هذه المسألة، ثم نقل المصنف حفظه الله قول ابن تيمية، والشاطبي في هذا.

 

ثم قال حفظه الله: كذلك يجب على العاميِّ إذا ظهر له حكم الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم في مسألة ما، وهو يفعل خلافها لقول عالمٍ أو إنسان، فيجب عليه أن يترك ما يفعل، ويعمل بما وصل إليه من حكم الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم دون التعصُّبِ لعالمٍ مُعيَّن أو مذهب معين؛ فإن التعصُّب لرأيٍ دونما دليل، والتمذهب دونما برهان من كتاب أو سُنَّة، من شرِّ البدع.

 

ولا يذهبنَّ الوهم بأحدٍ للقول بأن تحرِّي العاميِّ للحق صعب المنال، بل هذا من اليُسر بمكان، لكن على من يسَّره الله عز وجل عليه؛ فالمرء – مثلًا – عندما يريد أن يبني بيتًا، فإنه يسأل عن أفضل المهندسين لكي يصمم له بيته، فينبغي أن يكون كذلك في أمر دينه، فمعرفة حكم الله عز وجل في المسألة من بين عدة أقوال أيسرُ من معرفة التصميم المناسب من بين عدة تصميمات، وهذه المسألة مردُّها كلها على الطاقة، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فالعاميُّ يجتهد في اختيار من يُسأل.

 

مسألة: ما حكم العاميِّ إذا لم يجد مُفتِيًا؟

قال ابن القيم في “إعلام الموقعين عن رب العالمين ت: مشهور” (6/ 136 – 138): “والصواب أنه يجب عليه أن يتقِيَ الله عز وجل ما استطاع، ويتحرَّى الحق بجهده ومعرفة مثله، وقد نصَّبَ الله عز وجل على الحق أماراتٍ كثيرة، ولم يُسوِّ الله عز وجل بين ما يحبه، وبين ما يسخطه من كل وجه، بحيث لا يتميز هذا من هذا، ولا بد أن تكون الفِطَرُ السليمة مائلةً إلى الحق مُؤْثِرة له، ولا بد أن يقوم لها عليه بعض الأمارات المرجِّحة ولو بمنام أو بإلهام، فإن قُدِّر ارتفاع ذلك كله، وعدمت في حقه جميع الإمارات، فهنا يسقط التكليف عنه في حكم هذه النازلة، ويصير بالنسبة إليها كمن لم تبلغه الدعوة، وإن كان مكلَّفًا بالنسبة إلى غيرها؛ فأحكام التكليف تتفاوت بحسب التمكُّن من العلم والقدرة، واللَّه أعلم”.

 

مسألة: جواز التقليد في العقائد:

قال المصنف حفظه الله: جواز التقليد للضرورة أو العُسر لا يقف عند العمليات، بل يشمل أيضًا العقائد؛ حيث تصحُّ العقائد، وهذا هو المقرر عند أهل السنة، وقد أورد المصنف حفظه الله نقاشًا قويًّا خلاصته ما ذكره حفظه الله من أن تقسيم المسائل العلمية إلى مسائل عقدية، ومسائل فقهية وعملية، هي مسألة نظرية فقط، وإلا فهذا التقسيم مُحدَث ليس عليه دليل، ولم يظهر هذا التقسيم إلا بعد القرون الثلاثة الفاضلة، وأول من تكلم بهذا التقسيم المتكلمون وأصحاب الانحراف العقدي، الذين قسموا الدين إلى لُباب وقشور، وإلى أصول وفروع.

 

التقليد غير الجائز (المحرَّم):

ثم انتقل حفظه الله إلى التقليد المحرَّم، فقال: وهو أن تعرف حكم الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو تسمع عنه بالدليل الصحيح، ثم تتركه لقول أو رأي فلان، بل تتعصَّب له، وتجعل له الولاء والبراء فيه، فهذا حرام وإثم، وإذا راجعنا تعريفات الأئمة للتقليد، فسنجد ذَمَّهم له، وهذا الذم إنما يُقصَد به أصحاب التقليد المذموم، وأصحاب التقليد المذموم ليس شرطًا أن يكونوا من العامة، بل قد يكونون من العلماء أيضًا، فهم جميعًا يشملهم لفظ التقليد المذموم غير الجائز.

 

ثم نقل المصنف حفظه الله طرفًا من أقوال الأئمة في التقليد المذموم؛ منها أقوال لابن تيمية، وأبي شامة الشافعي، وابن حزم.

 

من شُبُهات المقلِّدة:

ثم قال حفظه الله: والذين يقلِّدون البشر من غير ضرورة ضاربين بذلك كتاب الله عز وجل وسُنَّةَ رسوله صلى الله عليه وسلم عَرْضَ الحائط، لهم بعض الشبهات الواهية يتعلقون بها؛ حتى يجعلوا لبدعتهم أصلًا، ثم ذكر إحدى شبهاتهم والرد عليها؛ وهي: استدلالهم بقول الله عز وجل: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43] على مشروعية التقليد مطلقًا؛ يقول ابن حزم ردًّا على شبهتهم في “الإحكام في أصول الأحكام” (6/119): “قلنا: صدق الله تعالى وكذب محرِّف قوله، أهل الذكر هم رواة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم والعلماء بأحكام القرآن؛ برهان ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، فصحَّ أن الله تعالى إنما أمرنا بسؤالهم ليخبرونا بما عندهم من القرآن والسنن، لا لأن يشرعوا لنا من الدين ما لم يأذَن به الله تعالى بآرائهم الفاسدة، وظنونهم الكاذبة، وفي هذا كفاية، وبالله تعالى التوفيق”.

 

خلاصة القول بين الاجتهاد والتقليد:

القول المحرَّر الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في “مجموع الفتاوى” (20/203، 204): “والذي عليه جماهير الأمة أن ‌الاجتهاد ‌جائز في الجملة، والتقليد جائز في الجملة، لا يُوجِبون الاجتهاد على كل أحدٍ ويحرمون التقليد، ولا يُوجِبون التقليد على كل أحد ويحرمون الاجتهاد، وأن الاجتهاد جائز للقادر على الاجتهاد، والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد، فأما القادر على الاجتهاد، فهل يجوز له التقليد؟ هذا فيه خلاف، والصحيح أنه يجوز حيث عجز عن الاجتهاد؛ إما لتكافؤ الأدلة، وإما لضيق الوقت عن الاجتهاد، وإما لعدم ظهور دليل له؛ فإنه حيث عجز سقط عنه وجوب ما عجز عنه، وانتقل إلى بدله؛ وهو التقليد، كما لو عجز عن الطهارة بالماء، وكذلك العامي إذا أمكنه الاجتهاد في بعض المسائل، جاز له الاجتهاد، فإن الاجتهاد منصب يقبل التجزيء والانقسام، فالعِبرة بالقدرة والعجز، وقد يكون الرجل قادرًا في بعض عاجزًا في بعض، لكن القدرة على الاجتهاد لا تكون إلا بحصول علوم تُفيد معرفة المطلوب، فأما مسألة واحدة من فنٍّ، فيبُعد الاجتهاد فيها، والله سبحانه أعلم”.

 

نشأة التقليد المذموم وبدعته:

ثم تكلم المصنف حفظه الله على نشأة التقليد المذموم وبدعته، وأن الأصل عند المتقدمين كان الاتباع، ومن تقدم منهم اجتهد؛ ولذا فإن التقليد بدعة نشأت بعد العصور الثلاثة الأولى في الإسلام، قام بها ونَشَرَها أصحاب العصر الرابع، واتسعت بعدهم، ثم أردف حفظه الله بالأقوال عن الأئمة، خصوصًا أصحاب المذاهب، في تحذير الناس أن يقلدوهم متعصبين لآرائهم، مخالفين كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عله وسلم.

 

أسباب انتشار التقليد المذموم:

قال المصنف حفظه الله: التقليد المذموم حرام وبدعة، ولكنه انتشر، ولا بد لهذه الظاهرة المرَضية من أسباب؛ منها: الجهل بالدين وأحكامه، ومن أسباب ذلك الجهل بالدين: الركون إلى الدنيا وعدم تذكر الآخرة، والتحاكم إلى الآراء الفاسدة والأهواء الباطلة، دون الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة بالفهم الصحيح.

 

ومن أسباب انتشار التقليد المذموم أيضًا: التعصب المذهبي وغلق باب الاجتهاد، والتعصب المذهبي هو التزام مذهب بعينه دون ما سواه والتعصب له، بأن يكون الحب والبغض، والولاء والبراء في سبيله، وأصحاب التعصب يظنون أنهم يفعلون هذا في سبيل الله وابتغاء مرضاته، لكنهم يفعلون هذا في سبيل الأهواء، فعندما يظهر لأحدهم الدليل المخالف، فإنه يرميه بحجارة كلامه، ويشنِّع ويسخر من سائقه.

 

حكم المذهبية مع بيان السبب:

نقل المصنف حفظه الله أقوالَ عددٍ من أهل العلم في بدعية التمذهب، والنهي عنه، مع بيان أسباب هذا الحكم.

 

منها قول الأستاذ محمد عيد عباسي في “بدعية التعصب المذهبي” (ص90 – 92)، ونقله المصنف حفظه الله بتصريف: إن التزام المذهب خطأ وبدعة في أمور الدين لأمور:

الأول: أن عدم التزام المذهب هو الأصل والأقرب إلى الفهم الصحيح لمراد الله عز وجل؛ لأن الله عز وجل حين أمر الجاهل بسؤال أهل الذكر لم يحدِّد واحدًا معينًا منهم، بل أطلق ذلك، ومن المعروف أن المطلَق يبقى على إطلاقه حتى يأتي ما يُقيِّده.

 

وثانيهما: إن عدم التزام مذهب معين واجب، لغرض التفريق بين اتباع المعصوم صلى الله عليه وسلم، وبين اتباع غير المعصوم صلى الله عليه وسلم… وهذا الإمام مالك رحمه الله يقول: “ليس كلما قال رجل قولًا وإن كان له فضلٌ يُتَّبع عليه؛ يقول الله عز وجل: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ [الزمر: 18]”، وكما رُوِيَ عن ابن عباس، والحكم بن عتيبة، ومجاهد، ومالك، وأحمد، أنهم قالوا: ليس أحدٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو يُؤخَذ من قوله ويُترك، إلا النبي صلى الله عليه وسلم”.

 

وثالث الأمور الدالة على خطأ التزام مذهب: أن فِعْلَ الصحابة والسلف الصالح من أهل القرون الثلاثة الفاضلة الذين أُمرنا بالاقتداء بهم هو عدم الالتزام بمذهب معين… بل كان السائل يسأل أيَّ واحدٍ من العلماء دون تعيين، فلم يكن لكل صحابي طائفة يتحيزون له دون ما سواه، فلم نعرف طائفة البكريين والعمريين والمسعوديين.

 

قال المصنف حفظه الله: وليس معنى ما قدمناه من عدم التمذهب بالمذاهب عدم حب واحترام أي منها أو من أصحابها، بل القول قول الشاطبي في “الاعتصام” (2/865): “نرى أن الجميع أئمة فُضلاء، فمن كان متبعًا لمذهب مجتهدٍ؛ لكونه لم يبلغ درجة الاجتهاد، فلا يضره مخالفة غير إمامه لإمامه؛ لأن الجميع سلك على الطريق المكلَّف به، فقد يؤدي التغالي في التقليد إلى إنكار لما أجمع الناس على تركه”.

 

ومن الأقوال التي ذكرها المصنف حفظه الله أيضًا في خطورة التمذهب ومخالفته للسنة، قول ابن باز رحمه الله في “مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، جمع وإشراف: د. محمد بن سعد الشويعر” (3/52)، في أثناء تنبيهاته رحمه الله على ما كتبه محمد علي الصابوني في مسألة تقليد الأئمة الأربعة، وكان قد قال: “إن تقليد الأئمة الأربعة من أوجب الواجبات”:

“قوله عن تقليد الأئمة الأربعة: إنه من أوجب الواجبات، لا شكَّ أن هذا الإطلاق خطأ؛ إذ ‌لا ‌يجب ‌تقليد ‌أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم مهما كان علمه؛ لأن الحق في اتباع الكتاب والسنة لا في تقليد أحد من الناس، وإنما قُصارى الأمر أن يكون التقليد سائغًا عند الضرورة لمن عُرف بالعلم والفضل، واستقامة العقيدة، كما فصَّل ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين؛ ولذلك كان الأئمة رحمهم الله لا يرضَون أن يُؤخَذَ من كلامهم إلا ما كان موافقًا للكتاب والسنة؛ قال الإمام مالك رحمه الله: كلٌّ يُؤخَذ من قوله ويُرَدُّ إلا صاحب هذا القبر؛ يشير إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا قال إخوانه من الأئمة في هذا المعنى، فالذي يتمكن من الأخذ بالكتاب والسنة يتعيَّن عليه ألَّا يُقلِّد أحدًا من الناس، ويأخذ عند الخلاف بما هو أقرب الأقوال لإصابة الحق، والذي لا يستطيع ذلك، فالمشروع له أن يسأل أهل العلم؛ كما قال الله عز وجل: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]”.

 

مسألة: التقليد وسَدُّ باب الاجتهاد:

قال المصنف حفظه الله: لا بد أن نتعلم أن باب الاجتهاد مفتوح لم يُغلَق، والأدلة على ذلك كثيرة؛ منها قول الله عز وجل: ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [النساء: 83].

 

أخرج البخاري في “صحيحه” (7311)، قال: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((‌لَا ‌يَزَالُ ‌طَائِفَةٌ ‌مِنْ ‌أُمَّتِي ‌ظَاهِرِينَ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ)).

 

ويقول الإمام أبو شامة في “مختصر كتاب المؤمل” (ص42) ناعيًا على المقلِّدين تعصبهم المذهبيَّ، وادعاءهم غَلْقَ باب الاجتهاد: “وكانت تلك الأزمنة مملوءة بالمجتهدين، فكلٌّ صنَّف على ما رأى، وتعقَّب بعضهم بعضًا مستمدين من الأصلين: الكتاب والسنة، وترجيح الراجح من أقوال السلف المختلفة بغير هوًى، ولم يزل الأمر على ما وصلت، إلى أن استقرت المذاهب المدوَّنة، ثم اشتهرت المذاهب الأربعة، وهُجِر غيرها، فقصرت أتباعهم إلا قليلًا منهم، فقلَّدوا بعدما كان التقليد لغير الرسل حرامًا، بل صارت أقوال أئمتهم عندهم بمنزلة الأصلَين – أي الكتاب والسنة – وذلك معنى قوله عز وجل: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 31]، فعَدِمَ الأمةُ المجتهدين، وغلب المقلدون، وكثُر التعصب، وكفروا بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: ((يبعث الله في كل مائة سنة من ينفي تحريف الغالين وانتحال المبطلين))، وحَجَروا على رب العالمين، مثل اليهود ألَّا يبعث بعد أئمتهم وليًّا مجتهدًا، حتى آلَ بهم التعصب إلى أن أحدهم إذا ورد عليه شيء من الكتاب والسنة الثابتة… يجتهد في دفعه بكل سبب من التآوِيلِ البعيدة؛ نُصرةً لمذهبه ولقوله”.

 

ختامًا:

قلت: هذه نهاية المقال الثالث من هذه السلسلة المباركة، ملخص كتاب: الْمُجْمَلات النافعات في مسائل العلم، والتقليد، والإفتاء، والاختلافات، كان المقال الأول مقدمة، وتعريفًا بالكتاب، وبيانَ موضوعه، وأهميته، وكان المقال الثاني في ملخص الموضوع الأول من الكتاب: العلم، وهذا هو المقال الثالث، وهو في ملخص الموضوع الثاني من الكتاب: التقليد، والمقال القادم إن شاء الله وهو المقال الرابع في ملخص الموضوع الثالث من الكتاب؛ وهو: الاجتهاد والاتباع.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
ما ورد في معاني الباء في القرآن
Jeremy Renner Reveals Frequent Calls With Robert Downey Jr. While in ICU, "Like We Were Dating" – ComicBook.com