المختارون لجهاد الكلمة (2)


المختارون لجهاد الكلمة (2)

 

محاكمة الواقع للمنهج النبوي:

المتابِع لواقعنا المعاصر، لا سيَّما بعدَ اتساع مجالات الاحتكاك بمخالفي الإسلام والسُّنة عن ذِي قَبْل، عبر الشبكة العنكبوتيَّة خاصَّة – المتابع لهذا الواقِع يصدمه قدرٌ هائل من تخبُّط المتصدِّرين باسم الحقِّ، ولا أكون أبدًا مبالغًا إذا قلت: إنَّ عامَّة هؤلاء المتصدِّرين وبالٌ على الدعوة وبلاء!

 

وتدليلاً على هذا الواقِع، وتصديقًا لحجم الأزمة، أذكُر مثالين مِن أمثلة عبَث هؤلاء المتصدِّرين: الأول مع امرأة تُشرِف على قسم مِن أقسام منتديات حوارية فِكرية، يلتقي فيها أناسٌ بكل أطيافهم للمناقَشة والمقارعة، أرسلتْ لي تذكُر في رسالتها كيف سيطرتْ شُبهات الملاحدة والنصارى والرافضة على ذِهنها، بحيث انتقلتْ مِن مرحلة المستشكلة إلى مرحلةِ المتشكِّكة في عقيدتِها ومنهجها – عقيدة الإسلام، ومنهج السُّنة!

 

وبعدَ عدَّة مراسلات متعاقِبة بيننا، تبيَّن لي خلالها ضحالةُ التحصيل العِلمي لديها، وضعْف الملَكَات النفسيَّة والعقليَّة، والمؤهِّلة لمنصبها؛ ممَّا أوقعها في حبائل الشيطان من حيثُ أرادت الخير والسير في الرَّكْب الدعوي، لكنَّها ضلَّتِ الطريق.

 

والمثال الثاني لأخ منشغِل بقضايا النصرانية والتنصير، وناشِط في غرف المحادَثة الشهيرة (البالتوك)، أطْلعني يومًا على بحْث جمع فيه مادَّته العلمية في مناظراته، وما أنْ طالعتُ البحث حتى رأيتُ خلطًا كثيرًا، فهو لا يكاد يحسِن التفريق بين السُّنة والبِدعة، بل غاية عمله جمْع الردود على الشبهات أيًّا كان مصدرُها، وترديدها كما هي!

 

ويعرِف من النصرانية أضعافَ ما يعرفه عن الإسلام، وليس ذلك لسَعة عِلمه بالنصرانية، بقدْر جِهله المطبِق بالإسلام، فلا يكاد يضبط فِقهَ الطهارة أو الصلاة، أو يعرِف مجمل العقيدة السلفيَّة، على الرغم مِن الانتساب العريض لها.

 

وهؤلاء في الساحَة كثيرون، وجُلُّ المتصدرين منهم، على تفاوت يسير بينهم في التحصيل العِلمي والملَكات الجدليَّة، وقد أفرزتْهم عواملُ شتَّى، منها:

عجز الثقات:

مِن أكبر أسباب بروز تلك النماذِج في الساحة عجْز الثقات، مِن أهل العِلم والدعوة، بحيث ينفرِد أمثال هؤلاء المدافعين بهذا الميدان مِن ميادين جهاد الكلمة.

 

ولا يُتصوَّر أبدًا أن يتصدَّر الصِّغار في حضور الكِبار، يقول – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله تعالى لا يَقبِض العِلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبضِ العلماء، حتى إذا لم يُبق عالمًا، اتَّخَذ الناس رؤوسًا جهَّالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغيْر عِلم، فضلُّوا وأضلوا))؛ متفق عليه مِن حديث عبدالله بن عمْرو.

 

فلمَّا لم يبقَ للدعوة مَن يرابط على تلك الثُّغور اعتلاَها مَن ليس مِن أهلها، فضلَّ وأضلّ.

 

الانفتاح الكبير على المناهج والتيارات المخالفة:

كان للانفتاح الكبير عبر شبكة الإنترنت أثرٌ كبير في اصطدام أهل الحقِّ بأهل الباطل، مما أسْفر عن حاجةِ الدعوة لعشرات الآلاف مِن الدعاة المتمكِّنين للتصدِّي لهجمات المناوئين لها.

 

فاندفع أناس منَّا بدوافع شتَّى إلى ساحات جهادِ الكلمة بلا عُدد كافية، مِن الحجج الساطعة، والحِكم السامقة، فلم يَحْرُسوا ثغرَهم، ولم يخدموا أمَّتهم ودِينَهم، بقدر ما أوهنوا مِن جبهات الدِّفاع والصدّ، وكانوا ذريعةً للعدوِّ في النَّيْل من دينهم، وعُرْضةً هم أنفسهم للفِتنة.

 

الغيرة والحماسة:

إنَّ الغَيْرة على دِين الله تعالى، والحماسة له – شيئان محمودان، وبرهانان على حياة القلوب، غير أنَّ تلك الغَيْرة أو تلك الحماسة، لا يَنبغي أن تَدفع المحبَّ لمزيدٍ من الإساءة والتشويه للإسلام، كما هو مشاهَدٌ في كثير من المتصدِّرين بلا عِلم أو خِبرة كافيينِ.

 

وإنَّ مجرد ثِقة المتصدِّر بدِينه لا تَعني ضرورةَ الاعتماد الكامِل على لُغة الخطاب المستعلي في انتصار الحقِّ في ميدان جهادِ الكلمة، وكما أنَّ المجاهد يمْشي بين الصفَّين مختالاً يحمل سلاحه، فكذلك المجاهِد الآخَر يستعلي في خِطابه حاملاً حُجَّته.

 

حقٌّ وافق هوى:

هناك كثيرٌ من الصِّفات النفسية التي تدْعو بعض المتصدِّرين لميدان جهاد الكلمة، لا سيَّما أدوار الدِّفاع عن الإسلام والتصدِّي للمجادلة عنه، فليستْ مجالات الخمول، كمجالات الإعلان والظهور.

 

حتى تلك الصِّفات المستحسنة إجمالاً، كالإقدام والشجاعة والجرأة في الحقِّ، وغير ذلك – تلك الصفات تتلوَّن على أصحابها كثيرًا فتُوقعهم في المخالفة مِن حيث لم يدْروا؛ فعن أبي موسى – رضي الله عنه – أنه قال: سُئِل رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – عن الرجلِ يُقاتل شجاعةً، ويقاتل حميةً، ويقاتل رِياءً، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن قاتل لتكونَ كلمة الله هي العليا فهو في سبيلِ الله))؛ أخرجه الشيخان.

 

فالذي “يُقاتل شجاعة” إنَّما حمله على القتال الشجاعة، وهي صِفة محمودة، ولكنَّه لم يضعها حيث تقرِّبه إلى الله تعالى، وكذلك كثيرٌ مِن الذي يتصدَّرون للرد على الشبهات أو مخاصَمة المخالفين، إنما حملتْهم صفاتهم النفسيَّة على التصدُّر.

 

الضعف سمة عصرية:

وإذا كنَّا دعويًّا نُعاني تصدُّرَ غيرِ المؤهلين في ميدان الدفاع عن الإسلام ضدَّ المِلل والنِّحل الباطلة، فإنَّنا نُعاني الضعْف العام في سائرِ المجالات الدعوية، فنحن – أشبه ما يكون – بالعيش في عصرٍ أكبر سِماته الضعْفُ والانكماش.

 

ففي الجانب الدَّعَوي الوعْظي، أو الجانِب الدعوي التربوي، أو التعليمي.. إلخ – نحيَا هبوطًا مستمرًّا، ويتصدَّر كثير ممَّن ليس بأهل، ويتأخَّر أو يُغيَّب أيضًا أفاضِل في شتَّى الميادين الدعويَّة، فكان تأثُّر مِنْبر الصدِّ والدفاع بتلك الرَّخاوة في الواقع طبيعيًّا.

 

سبل تخفيف هذا الواقع:

لكن تلك الأسباب جميعها مُمكِنة الزوال، والتغلُّب عليها يبدأ بـ:

تخفيف وطئتها في واقعنا.

التصدِّي للعابثين في مَيْدانها.

ترشيد ما يُمكِن إصلاحه.

تَصدُّر المؤهَّلين.

خِدمة منهج الدِّفاع.

 

وبعد:

فإنَّنا أحوجُ ما نكون لترشيد العمل الدعوي بكلِّ مجالاته وَفْق المنهج الأوَّل الذي أرْسى قواعِده رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – ثم صحابته الكِرام – رضي الله عنهم – فإنَّ في سيرة الرعيلِ الأوَّل الهدايةَ إجمالاً وتفصيلاً، عَرَفها مَن عرَفها وجَهِلها مَن جهِلها.

 

والحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهمَّ وسلِّمْ على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسان إلى يومِ الدِّين.





Source link

أترك تعليقا
مشاركة
Arabic texts founded for non- Euclidean Geometry Book "editing the principles of – ResearchGate
التعلق بالله تعالى.. الفضل والعلامات (خطبة)