المرأة في حياة حاتم الطائي؛ صورة مغايرة
المرأة في حياة حاتم الطائي؛ صورة مغايرة
بلغ حاتمٌ الطَّائيُّ الغايةَ القصوى في الكرم، فشاع ذِكْرُه وانتشرت مآثِرُه، وغدا مَضْرِب المثل في الجود والسماحة، في أُمَّةٍ جعلت من خَصْلة الكرم في أعلى منظومتها القيميَّة؛ فقيل: (أجودُ من حاتم)، وتحفِل كتب التراجِم والأدب بقصص كرمه، وجعل الشعراء من اسمه كنايةً عن منتهى الكرم لم تترك بعدها مزيدًا لمُستزيد[1]، ولم تقفِ الشهرة الطاغية لكرم حاتم عند حدود الثقافة العربية، بل تجاوزتها إلى العالميَّة؛ فانتشرت أخباره في آداب الشعوب التي جاورت العرب وتأثرت بالعربية وآدابها.
ويبدو أن تلك الشهرة الحميدة قد غطَّت على مآثرَ وافرةٍ اتَّسم بها الرجل، وتغنَّى بها في شعره؛ كالفروسية، والشجاعة، والعِفَّة، وصون الأعراض، وإكرام المرأة، وآداب لطيفة أخرى تنُمُّ عن ذوقٍ رفيع، ونفسٍ راقية، والمتأمِّل لشعره وسيرته سيجد منه موقفًا تجاه المرأة مِلْؤُه الاحترام والتقدير، وهي مَنْقَبة حميدة لم يتطرق إليها النقَّاد ودارسو شعره وسيرته من قبل.
ولعل القارئ المتعمِّق لشعر حاتم وخطابه لزوجته (ماوِيَّة)[2]سيجد ذلك العتابَ الرقيق والبَوحَ الشفيف، وقد كُسِيَ ودًّا، ومُلِئ حبًّا في صورة مغايرة للصورة النمطية عن حال المرأة في الجاهلية، كما سيجد منه حرصًا شديدًا على رضاها، والتماسًا للعفو ولين الجانب منها:
أَماوِيُّ قَد طالَ التَجَنُّبُ وَالهَجرُ وَقَد عَذَرَتني مِن طِلابِكُمُ العُذرُ أَماوِيُّ إِنِّي لا أَقولُ لِسائِلٍ إِذا جاءَ يَومًا حَلَّ في مالِنا نَزرُ |
إن استخدام حرف النداء (الهمزة) وهي أداة نداء تستعمل لنداء القريب مكانًا أو مكانةً، ثم مناداتها بصيغة اسمها المرخم (ماويُّ) تحبُّبًا وتقرُّبًا، مع تكرار (اسمها المرخَّم) لسبع مرات في قصيدةٍ واحدةٍ، كلها دلائلُ تتزاحم ويعضد بعضها بعضًا لتشير مجتمعة إلى حبِّه لها وتعلُّقه بها وتقديره إيَّاها.
لا شكَّ أن ماوِيَّة كانت مِن جملة مَنِ اعترضوا على جوده الباذخ وكرمه المُهلِك، ولا شك أنها كانت تحاول أن تَثْنيه؛ لائمة حينًا، وهاجرةً أخرى، لكنَّ حاتمًا يظل ثابتًا على منهجه، متمسكًا بخَلَّتِهِ، يُمْعِن في بذل كرائم أمواله لينال السيادة وحسن الذكر:
يَقولونَ لي أَهلَكتَ مالَكَ فَاقتَصِد وَما كُنتُ لَولا ما تَقولونَ سَيِّدا |
في ردود حاتم على زوجته ماويةَ، نرى ذلك التقدير والود الذي طالت به المدة، وتمكَّن في القلب، يسوق لها الحجج والأدلة ليقنعها بصواب مذهبه في الحياة، بل ويطلب إليها – وهي الشريك – أن تسانده برأيها وفعلِها:
أَريني جَوادًا ماتَ هَزلًا لَعَلَّني أَرى ما تَرَينَ أَو بَخيلًا مُخَلَّدا وَإِلا فَكُفِّي بَعضَ لَومِكِ وَاِجعَلي إِلى رَأيِ مَن تَلحَينَ رَأيَكِ مُسنَدا |
في شعره يخاطبها خطاب النظير للنظير، والشريك للشريك، بلا استعلاء، ولا تعالٍ، ولا استحقار، إنه خطاب مشحون بالعواطف، واستدرار المشاعر، يذكِّرها بالقبر الذي قد يفرق بينه وبين الذين يحبهم، وما الذين يحبهم إلا ماوية، ولا ينسى أن يذكِّرها أن أعماله الخيِّرة ستكون إرثًا عطرًا يتركه لها:
ثم يذهب معها مذهبًا آخرَ، فيحاول أن يحرِّك الجانب الإنسانيَّ في شخصيتها، فالمال الذي ينفقه ما ينفقه إلا في المكْرُمات؛ فيُطلق به الأسرى، ويُطعم به الجوعى، ويُكرم به الضيفان، ويفشي به السلام، هي أعمال جليلة – لربما – فخرت بها ماويَّة من قبل:
أَماوِيُّ إِني رُبَّ واحِدِ أُمِّهِ أَجَرتُ فَلا قَتلٌ عَلَيهِ وَلا أَسرُ يُفَكُّ بِهِ العاني وَيُؤكَلُ طَيِّبًا وَما إِن تُعَرِّيهِ القِداحُ وَلا الخَمرُ |
وفي موضع آخر يحاول أن يجد إلى استمالتها سبيلًا يَلِجُ منه إلى قلبها؛ فيثير في نفسها العربية اعتدادها بنسبها، فيذكِّرها بنسبها العريق وعرقها الكريم، ومآثر آبائها وأجدادها الذين عُرفوا بالمجد والمُلك، يخاطبها فيناديها بألفاظ التفخيم مستخدمًا أداة نداء البعيد (أيا)؛ إشارة واضحة إلى مكانتها العالية، ولا ريب أن الحفاظ على شرف الأَرُومَةِ يجعل العربيَّ يستسيغ كل عذاب، ويستسهل كل حَزَن، ويبذلُ كل نفيس:
أَيا ابنَةَ عَبدِاللَّهِ وَابنَةَ مالِكٍ وَيا ابنَةَ ذي البُردَينِ وَالفَرَسِ الوَردِ إِذا ما صَنَعتِ الزادِ فَالتَمِسي لَهُ أَكيلًا فَإِني لَستُ آكِلَهُ وَحدي |
فقد نسبها إلى (ذي البردين)؛ وهو عامر بن أحيمر بن بهدلة، الذي وفد على المنذر بن ماء السماء، وأقرَّت له وفود العرب بالعزِّ والْمَنَعة في حادثة مشهورة بينهم.
ولربما قال قائل: أليس مبعثُ تعامل حاتم الخاص هو انتسابُ ماويةَ الخاص، وأنها ما كرمت لذاتها، وإنما كرمت إكرامًا لرجلٍ تتصل معه بسببٍ أو نسبٍ؟ ويؤكد هذا المعنى ما ذهب إليه عباس محمود العقاد في كتابه (المرأة في القرآن) عن مكانة المرأة في الجزيرة العربية قبل الإسلام: “ولعلها كانت تسوء في بعض أنحاء الجزيرة فتهبط في المساءة إلى حضيض، ثم تهبط إليه في سائر الأنحاء من الأمم كافة، وترتقي فلا يكون قُصاراها من الارتقاء إلا أنها تُكرَم عند زوجها؛ لأنها بنت ذلك الرئيس المهاب، أو أمُّ هذا الابن المحبوب، فأما إنها تُكرَم وتُصان؛ لأنها من جنس النساء، يعمُّها ما يعم بنات جنسها من الحق والمعاملة، فذلك ما لم تدركه قط من منازل الإنصاف والكرامة”[3].
لا شكَّ أن قول عباس محمود العقاد يصدُقُ على كثير من النساء في الجزيرة العربية في الجاهلية لا كلهن، فالمرأة في الجاهلية كان لها قدرها الكريم عند كِرامهم؛ وهذا ما ذهب إليه الدكتور شوقي ضيف في كتابه (تاريخ الأدب العربي: العصر الجاهلي): “وتدل دلائلُ كثيرةٌ على أن بنات الأشراف والسادة كان لهن منزلة سامية، فكُنَّ يَخْتَرْنَ أزواجهن، ويتركْنَهم إذا لم يحسنوا معاملتهن، وبلغ من منزلة بعض شريفاتهن أنهن كُنَّ يحمين من يستجير بهن، ويَرْدُدْنَ إليه حريته، إذا استشفع بهن”[4]، وكان لبعضهن مالهن الخاص كما رُوي عن أم حاتم التي ظلَّت تنفق من مالها حتى حجر عليها إخوانها، وكذلك فعلت ابنته سفانة، ولا شكَّ أن قصة اتِّجار الرسول صلى الله عليه وسلم في أموال خديجة أم المؤمنين مشهورة، والتي كان لها دور رائد في المنافحة عن الدين الجديد.
لا شكَّ أن تقدير حاتم لزوجته نابعٌ من تقديره للمرأة عامة؛ أكانت زوجة أو جارة أو ابنة، فهي إنسان تستوجب الاحترام لإنسانيتها، وهو الذي أكرم المرأة الجائعة فذبح فرسه لها، كما أكرم رسولُ قيصر فذبح فرسه له، ويزخَر ديوان حاتم بالمعاني التي تؤكد عِفَّته وصونه أعراض جيرانه:
وَما تَشتَكيني جارَتي غَيرَ أَنَها إِذا غابَ عَنها بَعلُها لا أَزورُها سَيَبلُغُها خَيري وَيَرجِعُ بَعلُها إِلَيها وَلَم يُقصَر عَلَيَّ سُتورُها |
ولا شكَّ أن هذا التعامل الراقيَّ مع المرأة عامة ظهر في ابنته سفانةَ في حادثة أسْرِها، ومن ثَمَّ إطلاق سراحها التي جاءت على لسان أخيها عدي بن حاتم؛ حيث قال عنها: “إنها كانت امرأة جَزْلة”؛ أي: قوية حازمة، ووردت عنها بعض القصص حول إصرارها على السير على مذهب والدها المحمود في البر والجود، ولا يمكن لهذه الصفات أن تظهر في ابنةٍ تربَّت في بيتٍ يُنظر فيه إلى المرأة نظرة دونية.
وأخيرًا فإن الأخلاق منظومة متكاملة، يفضي بعضها إلى بعضها، ويدل بعضها على بعض، وما عُرِف عن كرم حاتم لم يكن إلا خُلُقًا من منظومة أخلاقية متكاملة تنتظم حياة الرجل وسلوكه[5]، ومنها ذلك التعامل الراقي والرقيق مع زوجته، وإن تلك النفس الكريمة التي تجود بالمال للمحتاجين والطعام للجائعين، والابتسام للضيفان، وراحلته لرفيق الطريق هي الأقدر على جميل المعاشرة، وبذل الود وحسن الجوار.
المصادر والمراجع:
1- ديوان حاتم الطائي، شرحه وقدم له: أحمد رشاد، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة: 3، عام 2002م.
2- ديوان حاتم الطائي، قدَّم له: د. مفيد محمد قميحة، دار ومكتبة الهلال، بيروت، لبنان، الطبعة: 1، عام 1984م.
3- أشعار الشعراء الستة من الجاهليين، الأعلم الشَّنتمري، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الجزء: 2، الطبعة: 3، 1983، الصفحة: 273.
4- المستطرف في كل فن مستظرف، شهاب الدين محمد بن أحمد الأبشيهي، تحقيق: د. درويش الجويدي، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة: 1، الجزء الأول، الصفحة: 268.
5- تاريخ الأدب العربي: العصر الجاهلي، دكتور شوقي ضيف، دار المعارف، مصر، الطبعة: 11، 1960م، الصفحة: 72.
6- المرأة في القرآن، عباس محمود العقاد، الطبعة: 3، 2005م، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الصفحة: 52.
[1] ومنه قول الفرزدق مفتخرًا بإيثاره الماء غيره: على حالة لو أنَّ في القوم حاتمًا = على جوده لضنَّ بالماء حاتمُ، ومنه قول أبي تمامٍ في مدحه أحمد بن المعتصم: إقدامُ عمروٍ في سماحةِ حاتم = في حِلمِ أحنفَ في ذكاءِ إياسِ
[2] ذكر أن حاتمًا تزوج باثنتين؛ هما: نوَّار وماويَّة، وقيل واحدة هي ماوية فقط، والنسيب والتشبيب بنوَّار في شعره ما هي إلا عُرفٌ شعريٌّ درج عليه الجاهليون.
[3] المرأة في القرآن، عباس محمود العقاد، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة 3، 2005، الصفحة 52.
[4] تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي، دكتور شوقي ضيف، دار المعارف، مصر، الطبعة الحادية عشرة، الصفحة 72.
[5] ينظر: المستطرف في كل فن مستظرف، شهاب الدين محمد بن أحمد الأبشيهي، تحقيق: د. درويش الجويدي، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة 1، الجزء الأول، الصفحة 268.