النظرة الأركونية للنص القرآني بين الغموض والاضطراب
النظرة الأركونية للنصِّ القرآنيِّ بين الغموض والاضطراب
يدعو محمد أركون[1]بشدة إلى ضرورة اتباع المناهج الغربية عند قراءة النص القرآني المقدَّس؛ يقول أركون: “إنَّ إعادة قراءة القرآن من جديد قراءةً نقدِيَّةً متخصصةً، لا قراءة أيديولوجية تقليدية – هي الخطوة الأولى التي لا بُدَّ منها من أجل فَهمِ المناخ الفكري والنفسي للشخصية العربية الإسلامية، إنَّ هذه القراءة مضطرة لأن تأخذ في الاعتبار كلَّ المسار الفلسفي والنقدي الذي قطعه الفكر الغربيُّ ابتداءً من نيتشه، وانتهاءً بفرويد، ومرورًا بطبيعة الحال بكارل ماركس”.
ويفضِّل محمد أركون دراسةَ النصوص القرآنية من خلال ارتباطها بالظروف التاريخية؛ باعتبار أن مضامينها موافِقةٌ لظروف معيشة وأُفُق النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومستمعيه الأوائل، لكنها لم تعُد تتوافق وظروفَ معيشة وأُفق قارئ اليوم الحضاري.
إنَّ تبنِّي أركون للتاريخية النقدية بما هي – من وجهة نظره – ميزة تتكفَّل جانب إقصاء الاستخدام اللاهوتي والأيديولوجي للتاريخ، يكشف عن الوجه الأيديولوجي الحقيقي الذي يغلِّف النزعة التاريخية في ادِّعائها العلمية والمنهجية، وهو يعلن في موضع آخر بصراحة ووضوح عمليٍّ يقوم على إخضاع القرآن لِمِحَكِّ النقد التاريخي المقارن[2].
وهذا واضح في كتابات محمد أركون ومقالاته؛ فهو يقول: “استخدمتُ هنا مصطلح الظاهرة القرآنية، ولم أستخدم مصطلح القرآن عن قصد، لماذا؟ لأنَّ كلمة قرآن مُثقلة بالشحنات والمضامين اللاهوتية؛ وبالتالي فلا يمكن استخدامها كمصطلح فعَّال من أجل القيام بمراجعة نقدية جذرية لكل التراث الإسلامي، وإعادة تحديده، أو فهمه بطريقة مستقبلية استكشافية، فأنا هنا أتحدث عن الظاهرة القرآنية، كما يتحدث علماء البيولوجيا عن الظاهرة البيولوجية، أو الظاهرة التاريخية، وأهدُف من وراء ذلك إلى وضع كل التركيبات العقائدية والإسلامية، وكل التحديدات اللاهوتية والتشريعية، والأدبية والبلاغية والتفسيرية؛ إلخ – على مسافة نقدية كافية مني كباحث علمي”[3].
ويضيف: “وخلخلة قداسة هذا النص الكريم نَلْحَظُها في مُدَّعيات مختلفة؛ إذ هو آرامي وعبراني أو سرياني المنشأ”، فيذكر محمد أركون[4] تأكيدًا حاسمًا لتوصيف ” لا عربية ” النص الديني، فكتب معبِّرًا عن مرجعيته الواحدية والنهائية: “ويرى المستشرقون المتخصصون بفقه اللغة أنَّ كلمة (قرآن) ذات أصل سرياني أو عبري، وأيضًا هو نص أسطوريٌّ[5] قابل للدراسة والأخذ والرد”.
وهكذا فإنَّه يحاول أن يصل إلى الاحتفاظ بمستوى ديني محدود، يتمثل في رؤية مفادها أنَّ الدين روح سامية، وأهداف نبيلة، ينبغي الحفاظ عليها في جوهرها الذاتي، وعلى الغايات، في حين أنَّ الشكل، والعرض، والطقوس، هي محققات مرتبطة بسياقات تاريخية لا ينبغي التوقف عندها، فالمرتبط بالسياق الزمني هو شعائر وأحكام الدين دون غاياته.
ولم يقف الحد بـ”أركون” عند ذلك، بل ذهب إلى أبعد؛ حيث يقول: “ويمكنني أنَّ أقول بأنَّ المقدس الذي نعيش عليه أو معه اليوم لا علاقة له بالمقدس الذي كان للعرب في الكعبة قبل الإسلام، ولا حتى بالمقدس الذي كان سائدًا أيام النبي”، وبِناءً على ذلك فهو يشكِّك في الرواية الإسلامية لقصة جمع القرآن؛ حيث يقول: “راح الخليفة الثالث عثمانُ يتخذ قرارًا نهائيًّا بتجميع مختلف الأجزاء المكتوبة سابقًا، والشهادات الشفهية التي أمكن التقاطها من أفواه الصحابة الأُوَل، أدى هذا التجميع عام 656 م إلى تشكيل نصٍّ متكامل، فُرض نهائيًّا بصفته المصحف الحقيقيَّ لكل كلام الله كما قد أُوحِيَ إلى محمدٍ، رفض الخلفاء اللاحقون كل الشهادات الأخرى التي ترى تأكيد نفسها ومصداقيتها؛ مِمَّا أدى إلى استحالة أيِّ تعديل ممكن للنص المشكَّل في ظل عثمان”[6].
ويقول أركون أيضًا: “لننتقل الآن إلى ما يدعوه الناس عمومًا بالقرآن، إنَّ هذه الكلمة مشحونة إلى أقصى حدٍّ بالعمل اللاهوتي، والممارسة الطقسية الشعائرية الإسلامية المستمرة منذ مئات السنين، إلى درجة أنَّه يصعب استخدامها كما هي؛ فهي تحتاج إلى تفكيك سابق – لاحظ أنَّ محمد أركون هنا يلجأ إلى المنهج التفكيكي إلى جانب تبنيه التاريخانية – من أجل الكشف عن مستويات من المعنى والدلالة كانت طُمست وكُتبت ونُسيت من قِبل التراث التَقَوِيِّ الوَرِع… وهذه الحالة لا تزال مستمرة منذ زمن طويل؛ أي: منذ أن تم الانتقال من المرحلة الشفهية إلى المرحلة الكتابية، ونشر مخطوطة المصحف بنسَّاخة اليد أولًا، ثم طباعة الكتاب ثانية، وهذه العمليات حبَّذت صعود طبقة رجال الدين، وازدياد أهميتهم على مستوى السلطة الفكرية والسياسية، وهذه الحالة تتناقض مع الظروف الاجتماعية والثقافية الأولية لانبثاق وتوسُّع ما يدعوه الخطاب القرآني الأوَّلي بالقرآن، أو الكتاب السماوي، أو الكتاب بكل بساطة، وهو القرآن المتلوُّ بكلِّ دقَّةٍ وأمانة، وبصوت عالٍ أمام حفل أو مستمعين معيَّنين، لنُسَمِّ هذ القرآن إذًا (الخطاب النبوي)”[7].
وقال أيضًا: “إليكم الآن المعيارَ الأساسيَّ والحاسم: إنَّ موضوع البحث هو عبارة عن مجموعة من العبارات الشفهية في البداية، ولكنها دُوِّنت كتابةً ضمن ظروف تاريخية لم توضَّح حتى الآن، أو لم يُكشَف عنها النقاب، ثم رُفعت هذه المدونة إلى مستوى الكتاب المقدس بواسطة العمل الجبار والمتواصل لأجيال من الفاعلين التاريخيين“[8].
فالقرآن لم يصِلْنا بـسند مقطوع الصحة؛ لأنَّ القرآن – كما يقول – لم يُكتب كله في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بل كُتبت بعض الآيات، ثم استُكْمِل العمل في كتابة القرآن فيما بعدُ، ويزعم أنَّ المبررات السياسية هي التي جعلت المسلمين يحافظون فقط على قرآن واحد، ويتركون ما عداه[9].
ومن أجل أن يمهِّد لِما يريد من إنكار القرآن سندًا في أول الأمر، يدخل بعد ذلك إلى نصوص القرآن، فيُشكِّك في القصص والأخبار، ويرى أنَّ التاريخ الواقعيَّ المحسوس هو الذي يحاكَم إليه القرآن، فالأخبار والآثار التاريخية هي الموثوقة.
ولنقرأ له هذا النصَّ الذي يجد القارئ في كتبه كثيرًا مثله؛ يقول: “ينبغي القيام بنقد تاريخي لتحديد أنواع الخلط والحذف والإضافة، والمغالطات التاريخية التي أحدثتها الروايات القرآنية بالقياس إلى معطيات التاريخ الواقعي المحسوس”[10]، فإذًا القرآن محتاج إلى إعادة تحقيق؛ يقول أركون: “هكذا نجد أنَّ المعركة التي جرت من أجل تقديم طبعة نقدية محقَّقة عن النص القرآني لم يعُد الباحثون يواصلونها اليوم بنفس الجرأة، كما كان عليه الحال في زمن نولدكه الألماني أو بلاشير الفرنسي، لم يعودوا يتجرؤون عليها أو على أمثالها؛ خوفًا من رد فعل الأصولية الإسلامية المتشددة، وهذه الطبعة النقدية تتضمن بشكل خاصٍّ إنجازَ تصنيف كرونولوجي – أي: زمني – للسور والآيات من أجل العثور على الوحدات اللغوية الأولى للنص الشفهي، ولكن المعركة من أجل تحقيق القرآن لم تفقد اليوم أهميتها على الإطلاق؛ وذلك لأنَّها هي التي تتحكم بمدى قدرتنا على التوصل إلى قراءة تاريخية أكثر مصداقية لهذا النص… يبدو لي أنَّه من الأفضل أن نستخلص الدروس والعِبَرَ من الحالة اللامرجوع عنها، التي نتجت عن التدمير المنتظم لكل الوثائق الثمينة الخاصة بالقرآن، اللهم إلا إذا عثرنا على مخطوطات جديدة توضِّح لنا تاريخَ النص، وكيفية تشكُّله بشكل أفضل”[11].
ويتأسف أركون لأنَّ الديانتين السابقتين قد شُكِّك في كتابيهما، “أمَّا الإسلام، ومِنْ ثَمَّ القرآن، فقد بقِيَ في منأًى عن انقلابات الحداثة وشكوكها”[12].
انطلاقًا من ذلك يصل أركون إلى أنَّ هذه المحاولات من القرآن هي محاولات أيديولوجية؛ أي: إنَّ القرآن يفعل ذلك، ويتعالى بالتاريخ لمقاصدَ وأغراض دنيوية، فقداسة القرآن هنا ليست أصلية، وإنَّما دخيلة، وليست جوهرية، وإنَّما سطحية، وليست حقيقية، وإنَّما مصطنعة حصلت لأسباب سياسية وثقافية، وتلاعبات فكرية، وأن هذه التلاعبات قد كشفها النقد، وتبيَّن زيفُها فيما يخص التوراة والإنجيل، أمَّا بالنسبة للقرآن فإنَّ هذا لم يحصل بعدُ، فلا يزال كتابًا مقدسًا يحتوي على مساحة كبيرة من اللامُفكَّر فيه[13].
ثم يتناول ترتيب القرآن بقوله: “نحن نعلم أنَّ نظام ترتيب السور والآيات في المصحف لا يخضع لأي ترتيب زمني حقيقي، ولا لأي معيار عقلاني أو منطقي، وبالنسبة لعقولنا الحديثة المعتادة على منهجية معيَّنة في التأليف والإنشاء، والعرض القائم على المحاجَّة المنطقية، فإن نصَّ المصحف وطريقة ترتيبه تُدْهِشنا بفوضاها”[14].
وإذا كان لنا أن نختم الاستشهادات؛ فهو يقول بعبارة تُحيل على الاستشراق: “جميع أنماط القراءة التي استعرضناها حتى الآن تقود إلى النتائج والملاحظات نفسها؛ وهي أن تقدُّم الدراسات القرآنية قد تم بفضل التبحُّر الأكاديمي الاستشراقي منذ القرن التاسع عشر”[15].
وواضح أنَّ (التأويلية) أصبحت وثيقة الصلة بـ(التاريخية)، بل هي إحدى أدواتها، ويمكن لنا التوقف عند مقولة (ثقافة المتلقي) لتجلية البعد التاريخي في التأويلية.
فاللغة في ضوء أصالة القارئ لا تحمل دلالة موضوعية مستقلَّة عن المتلقي، فالمدلول هو ما تُثيره الكلمات في ذهن المتلقي، وهو بدوره خاضع للثقافة الساكنة في ذهنه، وهي رهن الزمان، وهكذا هو الحال مع القرآن؛ فهو نصٌّ موجَّه لأُناسٍ في سياق ثقافي خاص بهم، فالمعنى المتولِّد من النص هو الناشئ من تفاعل النص والذهنية الثقافية في سياق زمني.
وسنجد في مقولات: “موت المؤلف، واللاقصدية، وتطور الدلالة، ومراوغة المعنى” داعمًا لأصالة القارئ، وارتباط المعنى بالزمن؛ مِمَّا يفتح النصَّ على معانٍ متعددة لا تنتهي.
وفي هذا الشأن يقول أركون: “القرآن عبارة عن مجموعة من الدلالات والمعاني الاحتمالية المقترحة على كل البشر، وبالتالي فهي مؤهَّلة لأنْ تُثيرَ أو تنتج خطوطًا واتجاهاتٍ عقائدية متنوعة، بقدر تنوُّع الأوضاع والأحوال التاريخية التي تحصل فيها، أو تتوالد منها، فالقرآن نصٌّ مفتوحٌ على جميع المعاني، ولا يمكن لأي تفسير أو تأويل أن يُغلِقَه بشكل نهائيٍّ”[16].
ويقول أيضًا: “إنَّ القرآن ليس إلَّا مجازاتٍ عالية تتكلم عن الوضع البشري، إنَّ هذه المجازات لا يمكن أن تكون قانونًا واضحًا، أمَّا الوهم الكبير فهو اعتقاد الناس بإمكانية تحويل هذه التعابير المجازية إلى قانون شغَّال وفعَّالٍ ومبادئَ محدودة تُطبَّق على كل الحالات، وفي كل الظروف”[17].
ويقول في موضع آخر: “إنَّ المعطياتِ الخارقةَ للطبيعة والحكايات الأسطوريةَ القرآنية سوف تُتلقَّى بصفتها تعابيرَ أدبية؛ أي: تعابير محوَّرة عن مطامحَ ورؤًى وعواطفَ حقيقيةٍ، يمكن فقط للتحليل التاريخي السيولوجي والبسيكولوجي اللغوي أن يَعِيَها ويكشفها”[18].
ويُعَدُّ منهج أركون هو الأكثر أداءً والأوفى تمثيلًا للخطاب الحداثي على مستوى الدراسات القرآنية، ويتعامل مع النص بوصفه نصًّا تاريخيًّا؛ مِمَّا يُفضي إلى إخضاع النص القرآني للقراءة النقدية عن طريق النقد التاريخي المقارن والتحليل الألسُني التفكيكي؛ مِمَّا يفترض وجود مشكلة تعترض سبيل فَهْمِنا للنص القرآني، وتتضح هذه المشكلة – من وجهة نظره – في وجود فرق بين النص المقروء في زمن نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم، وبين النص المكتوب بين دفتي المصحف، ويصرح أركون بأنَّ المقدس الذي نعيش عليه أو معه اليوم لا علاقة له بالمقدس الذي كان للعرب في الكعبة قبل الإسلام، ولا حتى بالمقدس الذي كان سائدًا أيام النبي؛ أو كما يقول أركون: “أمَّا التمييز بين القرآن الكريم والظاهرة القرآنية، فأقصد به الفرقَ بين تغذية الروح الإسلامية بكلام الله تعالى، ودراسة النصوص القرآنية، كما ندرس الظاهرة الفيزيائية أو البيولوجية، أو الاجتماعية أو الأدبية، وبهذا يمكن لنا تجاوُزُ العراقيل التي تَحُول دون فَهمِنا لآيات القرآن في الوقت المعاصر”، وتتمثل العرقلة – حسب زعمه – في أنَّ القرآن الكريم يقوم عن طريق العمليات الأسلوبية والبلاغية بخلع التعالي على أحداث تاريخية واقعية حصلت في زمن النبي، ولكنها حُوِّرت من قِبلِ الخطاب القرآني؛ لكي تتخذ دلالةً كونية تتجاوز خصوصيتها المحلية، وتصبح لا علاقة لها بحدث محدَّدٍ وقع في التاريخ المحسوس، فيصبح القرآن يمحو المعالم المحسوسةَ والإشاراتِ التاريخية الدقيقة عن طريق أسلوب التسامي والتصعيد؛ أي: تصعيد هذه الأحداث بالذات، وإسباغ الروحانية الدينية والكونية على مفردات ذات مضمون اجتماعي وسياسي وقانوني في الأصل، وهكذا ينجح القرآن – حسب زعمه – في مَحْوِ كلِّ التفاصيل والدقائق التاريخية للحدث، ويصبح خطابًا كونيًّا موجَّهًا للبشر في كل زمان ومكان، وهكذا يفقد صفته التاريخية، ويبدو كأنَّه خارج التاريخ أو يعلو عليه”[19].
وهكذا يتحول النص القرآني لدى أركون إلى مجرد حدث وقع فعلًا يمكن دراسته كالفيزياء والبيولوجيا، دون أيِّ بُعدٍ إلهي، وتُطبَّق عليه مناهجهم الحداثية فضلًا عمَّا أشار إليه من أنَّ النص القرآني جعل من أحداث واقعية حصلت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ذات دلالة كونية تتجاوز خصوصيتها المحلية؛ بمعنى أنَّه يريد حصر أحكام هذه الأحداث أو الوقائع في عصرها وزمنها، فهو تطبيق لمنهج “تاريخية النص”، أو “تاريخانية النص”؛ للتعامل معه على أنَّه نصٌّ خالٍ من القداسة، محضُ كلماتٍ أدبية، وإذا أفرغنا النصَّ القرآنيَّ من محتواه الإلهي، فمن السهل التعامل معه في إطار المناهج الحديثة، خاصة المنهج التفكيكي الذي اتَّبعه؛ وهو يعني قراءة النصوص بعيدًا عن مصدرها، وبحسب ما يتلقاه القارئ دون أي اعتداد بقدسيته، وكونه صادرًا عن الخالق.
وهكذا فإنَّ هذا المنهج بعيد تمامًا عن قواعد التفسير الْمُتَّبَعة، والتراثِ الحيِّ الزاخر الذي وضعه علماء المسلمين وفقهاء التفسير.
إنَّ التاريخانية تُستخدَم هنا لنفيِ القداسة عن النص القرآني؛ إذ تُحيله إلى نص قابل للتغير من خلال فهم المتلقي، غيرِ ثابت المعنى، وغير ملزِم في فهمه وقواعده، من خلال ما نتج عنها من نظريات تُبعِد المؤلِّفَ عن النصِّ، فضلًا عن وضع النص في إطار تاريخي لا يتعدَّاه بذات معناه ومضمونه، كما أنَّه يشير إلى التفكيك بوصفه منهجًا نقديًّا يمكن إخضاعُ النص القرآني له، كما لو أنه لم يكتفِ بالتاريخانية لهدم النص القرآني.
وهكذا يشوب موقفَ أركون من القرآن الكريم الكثيرُ من الغموض والاضطراب، ففي الوقت الذي يُشكِّك في سلامة القرآن، واكتمال نزوله في عهد النبي صلى االله عليه وسلم، ووصفه بأوصاف الانتقاص؛ كالأساطير، وغيرها من ألفاظ فجَّةٍ وغير مقبولة، إلَّا أنَّه لا يُصرِّح بما يصرح به العديد من المستشرقين في نفيهم المصدرَ الإلهيَّ للقرآن الكريم، ومع ذلك يبقى موقفه في الطعن غير المباشر في مصداقية الوحي هو الأخطر؛ لِما فيه من التلبيس والتدليس على عموم القُرَّاء من المسلمين[20].
ولا ريب أنه اتخذ من المناهج الحداثية التي أشرنا إليها سندًا للخوض في قُدْسِيَّة النص القرآني، على رغم ما بيَّنَّاه من اختلاف البيئة والمنشأ والمقصد بين هذه المناهج التأويلية، والقراءات الحداثية، وقواعد التفسير التي اختصَّ بها القرآن، وأصبحت عِلمًا راسخًا بمناهجه، وليس محضَ عملية عشوائية، وهو عِلْمٌ وُلِد خصوصًا للتعامل مع النص المقدس، ولم يُنقَل من المجال الأدبي؛ مثل: الهرمنيوطيقا، وموت المؤلف، والتاريخانية، والتفكيكية، وغيرها، فهو علم اختص بالنص القرآني وفقًا لضوابطَ موضوعية، تتعلق بقواعد علم الفقه، وعلم أصول الفقه، والقصص النبوي، وأسباب النزول، ثم هو من الناحية الشكلية ارتبط باللغة العربية، وبما لها من خصوصية في بنيانها النحوي، وعلم الصرف، ودلالتها على توليد المعاني، وحمل الأفكار الموضوعية، وهو ما يكشف عن أن لجوء أركون أو غيره لتلك المناهج هو إفلاس ومحاولة للنَّيل من الإسلام، ولو صحَّتِ النِّيَّاتُ، لَرَجَعَ إلى علم التفسير وانتقده أو طوَّر فيه، دون إلقائه وراء ظهره، وضرب به عرض الحائط منكرًا لوجوده التام.
نعم، الحاجة إلى المناهج الغربية قد تكون مطلوبة إذا كنا فقراءَ إلى مناهج إسلامية، والأمر عكس ذلك تمامًا، الأمر تعدَّى ذلك تمامًا إلى علم كامل اسمه علم التفسير، ضمَّ بين جنباته مناهجَ للتفسير، لكلٍّ منها ضوابطه وأصوله المستنبَطة من قواعدَ علميةٍ وموضوعية، وليست خبطَ عشواءَ، ولا حتى وُلِدَت في بيئة أدبية، وإنَّما وُلِدت للعمل على النص القرآني وتفسيره وحدَه دون غيره.
[1] ولد عام 1928 في بلدة تاوريرت ميمون (آث يني) الأمازيغية بالجزائر، وانتقل مع عائلته إلى بلدة عين الأربعاء (ولاية عين تموشنت)؛ حيث درس دراسته الابتدائية بها، ثم واصل دراسته الثانوية في وهران لدى الآباء البيض، يذكر أركون أنَّه نشأ في عائلة فقيرة، وكان والده يملك متجرًا صغيرًا في قرية اسمها (عين الأربعاء) شرق وهران، فاضطر ابنه محمد أن ينتقل مع أبيه، ويحكي أركون عن نفسه بأنَّ هذه القرية التي انتقل إليها كانت قرية غنية بالمستوطنين الفرنسيين، وأنه عاش فيها “صدمة ثقافية”، ولما انتقل إلى هناك درس في مدرسة الآباء البيض التبشيرية، والأهم من ذلك كله أنَّه شرح مشاعره تجاه تلك المدرسة؛ حيث يرى أنه عند المقارنة بين تلك الدروس المحفِّزة في مدرسة الآباء البيض مع الجامعة، فإن الجامعة تبدو كصحراء فكرية، ثم درس الأدب العربي والقانون، والفلسفة والجغرافيا بجامعة الجزائر، ثم بتدخل من المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون (Louis Massignon) قام بإعداد التبريز في اللغة والآداب العربية في جامعة السوربون في باريس، ثم اهتم بفكر المؤرخ والفيلسوف ابن مسكوَيه الذي كان موضوع أطروحته؛ [راجع بالتفصيل كتابنا: إشكالية العقل والنقل من المعتزلة حتى نصر أبو زيد].
[2] انظر: قضية قراءة النص القرآني، محمد رحماني، الرباط، 2006، ص 89.
[3] محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، نحو تاريخ أفضل للفكر الإسلامي، دار الساقي، لندن، ترجمة: هشام صالح، ط 1، 1999.
[4] محمد أركون، الفكر الإسلامي… نقد واجتهاد، دار الساقي للطباعة والنشر، 1998، ص77.
[5] محمد أركون، الفكر الإسلامي… قراءة علمية، ترجمة: هاشم صالح، بيروت، مركز الإنماء القومي، 1987، ص22 وما بعدها.
[6] محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، المركز الثقافي العربي 1998، ص 288، وانظر: الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، مرجع سابق، ص: 41، 135، 284.
[7] محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، مرجع سابق، ص29، 30.
[8] محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، مرجع سابق، ص41.
[9] محمد أركون، الفكر الإسلامي… نقد واجتهاد، مرجع سابق، ص85، 86.
[10] محمد أركون، الفكر الإسلامي… قراءة علمية، ص23.
[11] أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص44، 45.
[12] أركون، الفكر الإسلامي… قراءة علمية، ص 278.
[13] راجع: محمد الرحماني، قضية قراءة النص القرآني، مرجع سابق، ص91.
3 أركون، الفكر الإسلامي… نقد واجتهاد، مرجع سابق، ص90.
4 أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، مرجع سابق، ص70.
[16] أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ص43، وانظر: الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص76.
[17] أركون، تاريخية الفكر الإسلامي، ص299.
[18] أركون، الفكر الإسلامي… قراءة علمية، ص191.
[19] راجع: قضية قراءة النص القرآني، أحمد رحماني، المرجع السابق، ص91.
[20] الأثر الاستشراقي في موقف محمد أركون من القرآن الكريم، د. محمد سعيد السرجاني، ص 19، بحث رائع منشور في المكتبة الإسلامية الإلكترونية الشاملة.