النفاق والمنافقين (2) (خطبة)


النفاق والمنافقين (2)

الحمدُ لله اللطيف الذي بلطفه تنكشف الشدائد، الرؤوف الذي برأفته تتواصل النعم والفوائد، وبحُسن الظن به تجري الظنون على أحسن العوائد، وبالتوكل عليه يندفع كيدُ كل كائد، وبالقيام بأوامره ونواهيه تحتوي القلوبُ على أجلِّ العلوم والفوائد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي له في كل شيء آيةٌ تدل على أنه واحد. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صاحب الأصل الماجد، الذي انشق له القمر وحنّت إليه الجوامد. اللهم صلّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الطاهرين، وسلم تسليما كثيرًا.

 

أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حقّ التقوى وراقبوه في السر والعلن.

 

أيها المؤمنون: ما زلنا وإياكم مع النفاق والمنافقين أولئك الذين كادوا للمسلمين المكائد وتربصوا بهم الدوائر، وكم همّوا بما لم ينالوا ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 9].

 

لم يرتضوا الإسلام دينًا ولا الكفر الصريح مبدًا، فكانوا مذبذبين بين الكفار والمؤمنين، قال تعالى عنهم: ﴿ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ ﴾ [النساء: 143].

 

المنافقون يبغضون المؤمنين ويتولون الكافرين، اتصفوا بحُسن الظاهر، فإن رُؤوا أعجبوا وإن قالوا أحسنوا، قال عنهم عز وجل:﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ﴾ [المنافقون: 4].

 

المنافقون امتلأت قلوبهم على الإسلام والمسلمين غِلا وحقدًا، استبدلوا الضلالة بالهدى والبصيرة بالعمى، والكفر بالإيمان والحياة الدنيا بالآخرة، فبئس ما يصنعون. قال تعالى عنهم: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 16].

 

المنافقون قلوبهم قاسية وعقولهم قاصرة، هم شجعان لكن في السلم فإذا جد الجد لاذوا بغيرهم ﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [المنافقون: 4].

 

المنافقون يخدمون الكفار ويتجسسون على المؤمنين، ويخذلونهم عن النصرة، وإذا شاركوهم أحدثوا الخلل والاضطراب في صفوفهم، فيهم يأس من رحمة الله.

 

المنافقون يلجأون في طلب النصر إلى الأعداء، يستغلون الفرصة المناسبة للطعن في دعاة الإسلام المخلصين وتشويه سمعتهم عن طريق الكذب وتغيير الحقائق.

 

المنافقون يستغلون الفرص لإيثار الشبهات ونشر الشهوات يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، قال تعالى: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: 67].

 

المنافقون ينقدون الإسلام وشريعة الإسلام، ينشدون التفسخ الأخلاقي بزعمهم تحرير المرأة، يرغبون في أن تفسخ المرأة حياءها، وأن يحل المجتمع رباط الأخلاق باسم الترفيه والسياحة أو عبر مسلسلات تهدم الدين والخلق، والعجيب أنهم يحلفون أنهم يريدون الخير للأمة قال تعالى: ﴿ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [التوبة: 107].

 

النفاق.. كلمة قبيحة بلا شك.. ولقبحها هرب الناس منها واستبدلوها بكلمات جذابة كالمجاملة، والتعامل الدبلوماسي، والمرونة، والسياسة. وغير ذلك من الكلمات التي نسمعها كل يوم. وهي في الحقيقة ليست سوى أغلفة برَّاقة للنفاق تستر عورته، وتبرر للناس التعامل به.

 

إن النفاق داءٌ عضال، وانحراف خُلُقي خطير في حياة الأفراد، والمجتمعات، والأمم، فخطره عظيم، وشرور أهله كثيرة.

 

عباد الله:

إذا نظرنا إلى النفاق نظرة فاحصة لوجدته طبخة شيطانية مركبة من جُبنٍ شديد، وطمع بالمنافع الدنيوية العاجلة، وجحود للحق، وكذب، ولك أن تتخيل ما ينتج عن خليط كهذا!. وإذا نظرنا إلى النفاق في اللغة لوجدناه من جنس الخداع والمكر، وإظهار الخير وإبطان الشر.

 

سمع حذيفة رضي الله عنه رجلًا يقول: اللهمَّ أهلك المنافقين، فقال له: يا ابن أخي، لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالكين!

 

المنافقون هُم أسوأ الناس سيرةً، وأقبحهم سريرةً، ومنهم طائفة مردة على النفاق وتمرّست عليه، حتى خفي أمرُها على أعلم الناسِ وأتقاهم؛ رسول الهدى- صلى الله عليه وسلم – فقال الله له: ﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾ [التوبة: 101].

 

المنافقون طائفة لا تعمل إلى في الظلام، ولا تجيدُ إلاَّ زُخرفَ القول ومعسول الكلام، يهدمون الإسلام باسم الإسلام، ويمدون أيديهم للعدو وهم له في غايةِ الذُّل والاستسلام: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 13].

 

أمَّا إن سألتم عن حقيقتهم فهُم أصنافٌ شتىَّ: فمنهم كُتّاب وكاتبات يستغلون المصائب والنكبات للطعن في الدين، والتشكيكِ فيه ممثلًا في أهله. يلمزون الإسلام والمسلمين، يغمزون ويلمزون الدعاة إلى الله والجهاد والمقاومة، ومنهم من يُسمّون بالمفكرين والمثقفين، ومنهم من ينتسبُ إلى أهل العلم وهُم منهُ براء، ومنهم ساسة وحُكام ومسؤولون، ومنهم إعلاميون لهم قنوات ومجلات تضع السُم في العسل وتنشر الأفكار المسمومة والثقافة الغربية، ومنهم ومنهم…. ولو قرأنا سورة التوبة لوجدنا العجب العُجاب من صفاتهم وأخلاقهم، لا حتى قال أحد الصحابة: «كانت تنزل سورة التوبة على النبي – صلى الله عليه وسلم – وفيها ومنهم ومنهم حتى خشينا أن نكون منهم». وعن الحسن: «ما خاف النفاق ـ إلا مؤمن ولا أمِنه إلا منافق».

وعن المعلى بن زياد قال: سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد: «بالله الذي لا إله إلا هو، ما مضى مؤمن قطّ ولا بقي إلا هو من النفاق مُشفِق، ولا مضى منافق قطّ ولا بقي إلا هو من النفاق آمن»[ أخرجه الفريابي في صفة المنافق (87)].

 

عباد الله:

المتأمل للتاريخ يُدرك أن أعظم المصائب التي حلّت بالمسلمين أفرادًا ومجتمعات ودولًا، إنما حلّت بهم عن طريق النفاق والمنافقين.

 

واليوم نُقلّب بعض أوراق التاريخ، ونتأمل في بعض صفحاتها لنأخذ العبرة والعظة، ولنُدرك خطورة هذه الشرذمة على الأمة.

 

أما في عهد النبوة فهل نسيتم ما فعل المنافقون في غزوة أُحد يوم قام عبد الله بن أبي رأس النفاق بسحب ثُلثَ الجيش وعاد بهم إلى المدينة، وأرسل النبي – صلى الله عليه وسلم – بعدهم عبد الله بن حرام رضي الله عنه ليردهم وقال لهم: تعالوا قاتلوا أو ادفعوا، فأبوا الرجوع، قال تعالى عنهم: ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ ﴾ [آل عمران: 167].

 

هل نسيتم ما فعله المنافقون في غزوة المريسيع سنة ستٍ من الهجرة على المريسيع وهو ماء لبني المصطلق. بينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على ذلك الماء _ بعد الغزوة _ وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عون بن الخزرج على الماء فاقتتلا، أي _ تخاصما _ فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله بن أبيّ بن سلول، وعنده رهط من قومه، وفيهم زيد بن أرقم غلام حدث، فقال: «أو قد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا. والله ما مثلنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمّن كلبك يأكلك!! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل»، ثم أقبل على من حضره من قومه فقال لهم: «هذا ما فعلتم بأنفسكم: أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم».

فسمع ذلك زيد بن أرقم، فمشى به إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وذلك عند فراغ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من عدوه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: مُرْ به عباد بن بشر فليقتله، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه؟ ولكن أذّن بالرحيل». وذلك في ساعة لم يكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يرتحل فيها. وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول الذي كان من أمر أبيه، فأتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ فيما بلغك عنه، فإن كنت لابدّ فاعلًا فمُرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علِمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرَّ بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر، فأدخل النار، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «بل نترفق به ونُحسن صحبته ما بقي معنا».

 

هل نسيتم ما فعله المنافقون لمّا أراد النبيّ إجلاءَ بني النضير قال المنافقون لهم: ﴿ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الحشر: 11]، يأمرونهم بالبقاءِ ومحاربةِ الإسلام وأهله، ولكنّ اللهَ قذف الرعبَ في قلوبهم، فخرَج أولئك، وتخلّى عنهم المنافقون في أحرجِ الساعات والمضايق.

 

وفي غزوة تبوك قال قتادة: بينما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في غزوته إلى تبوك وبين يديه أُناس من المنافقين فقالوا: يرجو هذا الرجل أن تُفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات، فأَطْلَعَ الله نبيه على ذلك فقال نبي الله – صلى الله عليه وسلم -: «احبسوا هؤلاء الركب»، فأتاهم فقال: قلتم كذا وقلتم كذا، قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيهم ما تسمعون: ﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [التوبة: 64، 65].

 

والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء موبخًا ومنكرًا: ألم تجدوا ما تستهزئون به في مزاحكم ولعبكم – كما تزعمون- سوى فرائض الله وأحكامه وآياته ورسوله الذي جاء لهدايتكم وإخراجكم من الظلمات إلى النور؟! ثم بيّن – سبحانه- أن استهزاءهم هذا أدى بهم إلى الكفر فقال: ﴿ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾ [التوبة: 66].

 

وقد ذكر ابن كثير أن الضحاك قال: إن نفرًا من المنافقين هموا بالفتك بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وهو في غزوة تبوك في بعض الليالي في حال السير وكانوا بضعة عشر رجلا نزلت في هؤلاء المنافقين قول الله تعالى: ﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ ﴾ [التوبة: 74].

 

و بعد عهد النبوة، عهد الخلافة الراشدة. تُوفي النبي – صلى الله عليه وسلم – وتولى الخلافة أبو بكر رضي الله عنه، ومع أن مُدة خلافته كانت قصيرة لكنه شُغل رضي الله عنه واستغرق جهده في مُدة حكمه بفئام ممن كُتم نفاقهم وأُسكت صوتهم أيام تَنزُّل الوحي، حيث كانوا دائمي الخوف، وهذا سر انقماعهم، إنه الخوف من تنزل القرآن بأخبارهم وأسرارهم، قال تعالى: ﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 64].

 

فلما أمِنوا تجدُّد ذلك التنزيل بوفاة الرسول – صلى الله عليه وسلم – استعلنوا بالنوايا، وأظهروا الطوايا، وكشفوا عن نفاقٍ كان مستورًا وجهروا بالامتناع عن ركن الإسلام الثالث وهو الزكاة، منعوا الزكاة التي كانوا يؤدونها كُرهًا على عهد الرسالة، قال تعالى: ﴿ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 98].

 

وبدأت هذه الفتنة صغيرة في إطار هؤلاء المحيطين بالمدينة، حتى توسعت كنار الهشيم بعد أن تحولت من نفاق مستتر إلى رِدَّة مُعلنة استوعبت أرجاء الجزيرة، حتى لم يبق على الإسلام في تلك الجزيرة التي وحَّدها محمد – صلى الله عليه وسلم – على صحيح الدين إلا أهل المسجدين، فقد بدأ الأمر بشُبهة أثاروها حيث قالوا عن الزكاة: “كنا نؤديها لمن كانت صلاته سكنٌ لنا” متذرعين بقول الله: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103]. فقام الصديق وأعلنها مدوية: «والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة». وطارد أبو بكر رضي الله عنه المرتدين في أرجاء الجزيرة حتى ردها كلها إلى الإسلام.

 

وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه خنس النفاق وانقمع، وكيف لا يكون الأمر كذلك وهو الذي فرّق الله به بين الحق والباطل، وهو الذي كان إذا سلك فجًا سلك الشيطان فجًا غيره؟! ومع هذا فإنه قُتل رضي الله عنه بتواطؤ المجوسي أبي لؤلؤة مع رجلين آخرين كان أحدهما من أمراء الممالك الفارسية ويدعى الهُرمزان، وقد أعلن إسلامه بين يدي عمر رضي الله عنه نفاقًا والآخر يُدعَى جُفينة وقد مات على النصرانية، فتمكن النفاق أن يطعن خنجره في خليفة المسلمين وهو يصلي بالمسلمين، ليَلقَى الله شهيدًا.

 

وأما في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه فقد تحرك النفاق بصورة لم يسبق لها زمن صاحبيه، تمثّل في عبد الله بن سبأ وجماعته حيث أظهر ذلك الرجل اليهودي الملقب (بابن السوداء) الإسلام في زمن عثمان وانطلى نفاقه على كثيرين، واجتمع على نفاقه الكثيرون، فبدأ ينشط في الشام والعراق ومصر زاعمًا النصح للمسلمين، وهو لا يريد إلا تفريق صفوفهم وبث الخلاف بينهم، وتجمع حوله أشباهه من المنافقين، وبدأوا فتنتهم بالتنادي بلا حياء بعزل من كان يستحي منه رسول الله عثمان رضي الله عنه. وتأثر بذلك بعض الصادقين من المؤمنين الذين شوشت عليهم دعايات المنافقين وتهويلاتهم، وصدق الله إذ قال عن شأن المسلمين مع المنافقين: ﴿ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة: 47].

 

وبعدها نشبت الفتنة ودب الصراع، فكانت الثورة وكانت المصيبة التي انتهت بقتل عثمان رضي الله عنه بعد أن حاصروه في بيته مُدة أربعين يومًا، وقتله المجرمون وأَسالوا دمه مفرَّقًا على المصحف الذي جمع الأمة عليه، ولم يكن يدور بخلَد أحد من أهل الإسلام أن تتطور فتنة النفاق السبئي لتصل إلى ما وصلت إليه، حيث استغل المنافقون فرصة انصراف أكثر الصحابة إلى مكة للحج، ليسيطروا على المدينة ويتسلموا مقاليدها فاتحين بذلك باب الفتنة التي لم تُغلق بعد ذلك.

 

بويع علي رضي الله عنه بالخلافة، وباتت ظلال المصيبة مُخيمة على الأجواء، واختلطت مشاعر الحزن بمشاعر الغضب حتى استحالتا إلى رغبة في الانتقام ثم عزيمة على الثأر بمن قتل عثمان ا، وأخذ بعض المسلمين القميص الذي قُتل فيه عثمان مُلطخًا بدمه، ووضعوه على منبر المسجد بالشام حيث كان هناك معاوية ابن عم عثمان وواليه على الشام، فاعتبر معاوية نفسه ولي دم عثمان، وندب الناس للأخذ بثأره ممن قتلوه، وانضم لهذا الطلب جمع من الصحابة، وألحَّ صحابة آخرون على علي رضي الله عنه في المدينة أن يقيم الحدود على قتَلَة عثمان، فلم يمتنع رضي الله عنه عن ذلك، وتبرأ من قتل عثمان وقَتَلَته ولعنهم، ولكنه طلب التمهل حتى تستقر الأمور لأن القوم كانت لا تزال لهم شوكة في المدينة بعد أن توافدوا إليها من الأمصار، فأراد أن يداريهم حتى يتمكن منهم.

 

فتحرك المنافقون الذين يزعجهم استقرار مجتمعات المسلمين وتوحّد كلمتُهم، ونشبت بسببهم ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ الحرب بين علي ومعاوية رضي الله عن الجميع، وازداد سعيرها بقتال المسلمين بعضهم بعضًا في طائفتين دعواهما واحدة، وقُتل من المسلمين خلق كثير فُجع لأجلهم علي رضي الله عنه حتى تمنى لو كان مات قبل أن يرى ذلك، هذه المعركة التي قُتل فيها نحو عشرة آلاف من الطرفين منهم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام المبشريْن بالجنة.

 

عباد الله: بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

عباد الله: إنه النفاق والذي بسببه حصلت بين المسلمين موقعتي صفين والجمل، فاضطر علي رضي الله عنه لقتالهم في آخر الأمر بعد أن بارزوه بالعداوة والشقاق، وأوقع بهم هزيمةً نكراء في موقعة النهروان التي قُتل فيها نحو أربعة آلاف خارجي.

 

وهل انتهت فتنة النفاق عند هذا؟ لا، لم يتركوه رضي الله عنه، بل كان مقتله هو أيضًا على أيديهم حيث قتله الأثيم عبد الرحمن بن ملجَم، وهكذا تمكن المنافقون من قتل الخليفة الثاني عمر، والخليفة الثالث عثمان، والخليفة الرابع علي رضي الله عن الجميع.

 

أيها المسلمون، لقد كان للنفاق دور بارز في إسقاط الخلافة العباسية في حادثة من أبشع حوادث التاريخ ذكرها بتفاصيلها وآلامها الحافظ ابن كثير – رحمه الله – في البداية والنهاية، ملخصها:

أن المستعصم بالله محمد بن الظاهر كان هو الخليفة السابع والثلاثين من خلفاء بني العباس، بويع بالخلافة سنة 639 ه بعد وفاة أخيه المستنصر بالله عبدالله بن الظاهر. وكان للمستعصم وزير يسمى محمد بن محمد بن أبي طالب المشهور بابن العلقمي، وكان منافقًا خبيثًا استطاع بإظهاره الصلاح والتقوى التقرب إلى السلطان حتى صار وزيرًا للخليفة، وهذا هو شأن المنافقين في كل وقت، فإنهم يحرصون على مثل هذه المناصب ليحققوا من خلالها ما يريدون. كتب هذا المنافق كتابًا إلى هولاكو ملك التتار يبدي له استعداده أن يُسلّمه بغداد وأن يزيل خلافة المسلمين إذا حضر بجيوشه إليها، وكان التتار قد هُزموا في عهد المستنصر بالله وقُتل منهم خلق كثير، وكان هذا العلقمي يريد ويهدف إلى محو أهل السنة وإقامة دولة فاطمية رافضية مكانها. فكتب هولاكو لابن العلقمي بأن عساكر المسلمين على بغداد كثيرة، فإن كنت صادقًا فيما قلت لنا وداخلًا تحت طاعتنا ففرِّق العسكر، فإذا عملت ذلك حضرنا.

 

فلما وصل كتاب هولاكو إلى الوزير ابن العلقمي دخل على المستعصم وزيّن له أن يُسرّح خمسة عشر ألف فارس من عسكره، لأنه لا داعي لهذا العدد الضخم الآن، ولأن التتار قد رجعوا إلى بلادهم، ولا حاجة لتحميل الدولة رواتب هؤلاء العساكر، ولثقة الخليفة بوزيره كما هي العادة، استجاب الخليفة لرأيه وأصدر قرارًا عسكريًا بتسريح خمسة عشر ألف عسكري، فخرج ابن العلقمي ومعه الأمر، واستعرض الجيش واختار تسريح أفضلهم، وأمرهم بمغادرة بغداد وكل ملحقاتها الإدارية، وفرقهم في البلاد. وبعد عدة أشهر زيّن هذا المنافق للخليفة مرة أخرى أن يسرّح أيضًا عشرين ألفًا، واستجاب الخليفة له وأصدر أمرًا بذلك، ففعل ابن العلقمي مثلما فعل في المرة الأولى، وانتقى أفضل الفرسان فسرّحهم، وكان هؤلاء الفرسان الذين انتقاهم بقوة مائتي ألف فارس. فأصبح عدد جيش بغداد لا يزيد على عشرة آلاف جندي بعد أن كانوا نحو مائة ألف جندي.

 

ولما أتم مكيدته كتب إلى هولاكو بما فعل، فركب هولاكو وقدم بجيشه إلى بغداد، وأحس أهل بغداد بمداهمة جيش التتار لهم فاجتمعوا وتحالفوا وخرجوا إلى ظاهر المدينة وقاتلوا ببسالة وصبر حتى حلت الهزيمة بجيش التتار مرة أخرى، وتبعهم المسلمون وأسروا منهم، وعادوا مؤيدين منصورين ومعهم الأسرى ورؤوس القتلى ونزلوا في خيامهم مطمئنين، فأرسل المنافق الرافضي ابن العلقمي جماعة من أصحابه ليلًا فحبسوا مياه دجلة، ففاض الماء على عساكر بغداد وهم نائمون في خيامهم وصارت معسكراتهم مغمورة ومحاطة بالوحل، وغرقت خيولهم وأمتعتهم وعتادهم بالوحل، والناجي منهم من أدرك فرسًا فركبه وخرج من معسكر الوحل.

 

وكان ابن العلقمي قد أرسل إلى هولاكو يُعلمه بمكيدته ويدعوه أن يرجع بجيوشه فقد هيأ له الأمر بما يحقق له ولجيوشه الظفر، فعاد هولاكو بجيوشه وعسكر حول بغداد، ولمّا أصبح الصباح دخل جيش التتار بغداد ووضعوا السيف في أهلها وجعلوا يقتلون الناس كبارًا وصغارًا، شيوخًا وأطفالًا، ودخلوا على الخليفة فاحتملوه هو وولده وأحضروهما إلى ملك التتار هولاكو، فأخرجهما هولاكو إلى ظاهر بغداد ووضعهما في خيمة صغيرة، ثم أمر عسكره بقتلهما ضربًا بالأرجل، فوضعوا الخليفة في كيس وقتلوه رفسًا، ثم دخل التتار دار الخلافة فسلبوا ما فيها وصاروا يقتلون كل من يشاهدون من أهل مدينة بغداد حتى بلغ القتلى ألفي ألف نفس ـ أي مليوني قتيل ـ واستمر التتار أربعين يومًا وهم يقتلون في الناس فما تركوا أحدًا. قال ابن كثير – رحمه الله – بأن القتل استمر أربعين يومًا في بغداد، فصارت بعد الأربعين خاوية على عروشها، ليس فيها أحد إلاّ الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلال، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح فاجتمع على الناس الوباء والفناء والطعن والطاعون فإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

ولما نودي بالأمان في بغداد خرج عدد من الناس ممن قد اختبأ تحت الأرض ليَسلم من القتل وبعضهم حفر المقابر ودخل فيها، فلما نُودي بالأمان خرج من تحت الأرض ومن المقابر أُناس كأنهم الموتى إذا نُبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضًا، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، فلما خرج هؤلاء أصابهم الوباء المنتشر بسبب تلوث الهواء فماتوا على الفور.

 

يقول ابن كثير: وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى، بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.

 

وبمقتل المستعصم بالله انتهت الخلافة في بغداد وسقطت الدولة بفعل هذا المنافق. استدعى هولاكو ابن العلقمي ليكافئه، فحضر بين يديه، وهولاكو رجل ذكي يعلم خطورة هذا الصنف من البشر، والذي خان غيره قد يخونه، فقال له: لو أعطيناك كل ما نملك ما نرجو منك خيرًا، وأنت مخالف لملتنا، فإنك لم تحسن لأهل ملتك، فما نرى إلاّ أن نقتلك. ثم أمر بقتله فقُتل شر قتلة.

 

هكذا النفاق، يقوض أركان الدول إذا لم يُنتبه له، وهذه أحد حيل المنافقين في التخريب والإفساد وهو إدخال العدو إلى داخل الدولة المسلمة، والتمكين له بالعبث داخل المجتمع المسلم، حتى ينهار ذلك المجتمع أو تسقط تلك الدولة.

 

وإدخال العدو للبلد قد يكون حسيًا، كما فعل ابن العلقمي وذلك بإدخاله مباشرة بقضّه وقضيضه ليمارس هو الإفساد والقتل مباشرة، والقضاء على المسلمين بسرعة. أو يكون معنويًا فيكون القتل بطيئًا وذلك بإدخال فكره وثقافته وترويجها بين الناس ونشرها عن طريق الطابور الخامس، وهم المنافقون والشهوانيون والعلمانيون، فيقومون هؤلاء بتهيئة الجو وخلخلة الثوابت والأسس حتى يتحلل المجتمع تدريجيًا ويتمكن العدو مما يريد بطريقة غير مباشرة، لعب فيها النفاق دورًا بارزًا وكبيرًا.

 

فنسأل الله جل وتعالى أن يكفينا شر المنافقين والظالمين، وأن يحفظ بلاد المسلمين من شرورهم ونفاقهم وخداعهم إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

هذا وصلوا – عباد الله: – على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

 

اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
السياق في الفكر البلاغي عند عبد القاهر الجرجاني (PDF)
﴿ وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم ﴾