الهموم والغموم (خطبة)
الهموم والغموم
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمَده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مُضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ربي لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب70 ـ 71].
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر المؤمنين، إن من موجبات الذنوب والمعاصي واقتراف السيئات، ما يكون عائدًا على القلوب، فيسبِّب فيها من الهموم والغموم ما يضيق صاحبها ذرعًا، فيشعر بضيق الصدر ويشعُر بالكآبة، وعدم الارتياح، وما ذلك إلا نتيجة لما اقترفته يداه؛ يقول جل وعلا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، ويقول جل وعلا: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]، وقديمًا قالوا: على نفسها جنت براقش، فالهموم والغموم التي يشكو منها الكثير من المسلمين والمسلمات، والله ليست إلا ناتجة عن هذا، ونادرًا عن أمور قد قضى الله فيها من المقدرات التي قدرها الله جل وعلا، لكن أغلبها وأساسها بما يكون ناتجًا عن هذا يوم أن يُعرِض العبد عن ذكر الله؛ يقول سبحانه: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ﴾ [طه: 124].
ضيق الصدر إنما نتج عن الإعراض والبعد عن الله، نتج هذا يوم أن غفل القلب عن ذكر الله، فهجم الشيطان على هذا القلب، فتولَّدت فيه الهموم والغموم، وتولَّد في الصدر الضيق والحرجُ، فكثير من المسلمين يبحثون عن أطباء نفسانيين، والله إن علاجه لفي القرآن والسنة، فإن الأرواح إنما علاجها بيد الله، ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85].
فهذه الروح وهي النفس إنما تُعالَج بأمر الله، فلا يعلم حقيقتها إلا الله، فالأنس والراحة والسكون والطمأنينة والانشراح، فليس للعباد أنفسهم، إنما يهبها بعضهم لبعض، وإنما الله هو الذي يمتلكها، ومن أعظم الذنوب التي تعجِّل عقوبة سريعة على القلوب، فتصاب هذه القلوب بالهموم والأحزان، وتصاب هذه القلوب بالأمراض والأدواء، وهي كثيرة لا شك، لكن من أهمها ما جاء في سنن البيهقي من حديث أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس شيء أسرع ثوابًا من صلة الرحم، وليس شيء أسرع عقوبة على العبد من البغي، وقطيعة الرحم، واليمين الفاجرة، تجعل الديار بلاقعَ)، فهذه ذنوب هي قطيعة الرحم والبغي والتعالي على الخلق، وهكذا ما يكون من اليمين الفاجرة التي يحلفها عبد مسلم؛ ليقطع بها حق امرئ مسلم، وليس شيء أعجل عقوبةً من البغي وقطيعة الرحم واليمين الفاجرة، تجعل الديار بلاقع؛ أي: إنها تؤثر على صاحبها، فربما انتُزع ما في يده من بين يديه، وانتُزعت أملاكه وهو لا يستطيع أن يدافع عنها، وظن بيمينه الفاجرة أنه سينجو، وهذه تسمى اليمين الغموس، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف يمينًا ليقطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله تعالى وهو عليه غضبان)، هذه ثلاث عقوبات تقابلها ثلاث جنايات، فما جنى العبد على نفسه إلا وأثرت على قلبه مباشرة قطيعة الرحم، وقد جاءت الأحاديث في فضل صلة الرحم، لو لم يكن منها إلا حديث: (من أحب أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليصل رحمه).
صلة الأرحام من محاسن هذا الدين، وقطيعة الأرحام حذَّر الله منها ورسوله، فهي من كبائر الذنوب والمعاصي، حذر منها صلى الله عليه وسلم بقوله: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور)، فما زال يكرر شهادة الزور حتى قال بعض الحاضرين من أصحابه رضي الله عنه: ليته سكت، من كثرة تَكراره صلى الله عليه وسلم، ومن المعاصي التي تسبب العقوبات السريعة، أخذ أموال الناس عن طريق الاقتراض والدَّين، لكنه لا يقضي، بل يتمرد ويتهرَّب، وقد نوى في قلبه ألا يعيدها إليهم؛ يقول صلى الله عليه وسلم (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)، وذلك قبل أن يقترضها ينوي في قلبه، إن نوى الإرجاع وإن نوى حسن الظن، فإن الله يعينه على قضاء دينه، وإن أخذها والعياذ بالله وقد نوى في قلبه ألا يُعيدها، فإنه والعياذ بالله لا يعان على قضاء دينه، ويسبِّب له ذلك إتلافًا، فبعض الناس يظن أن هذا من الذكاء والشطارة، وإن هذا من الرجولة، يأخذ أموال المسلمين ثم يتناقض في قضاء الديون، بل هناك من قام بعمل شركة من أجل مساهمة في أموال، فدفع بعض المسلمين أموالًا طائلة، فلما توفرت الأموال في رصيد بنكي باسمه، إذا به يأخذ الرصيد ويغادر من هذه البلاد، هكذا ضحك على المسلمين، ويظن أنه ناج من الله، والله – سبحانه وتعالى – يقول: ﴿ وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47].
ومن المؤثرات على القلب أكل الربا والإكثار منه، ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة، فمن أكثر من الأموال الربوية التي يعرفها الكثير من المسلمين اليوم، فإن عاقبة أمره يكون إلى قلة، وإن زيَّن له الشيطان أن أمواله تنمو، وأنه يشعر براحة وسعادة، والله إن الهم والحزن لا يفارق قلبه، ولا يهنأ في نومه ولا في أكله وشربه، وذلك أنه يأكل من الحرام، والله جل وعلا يقول: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 275]. ويقول سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 278].
من المعاصي التي تسبب إحراقًا للقلب وداءً عضالًا، فتصاب القلوب بالأمراض: ما يكون ناتجًا عن الحسد، وما يكون ناتجًا عن عدم الرضا بقضاء الله، فلا يكون هذا العبد قنوعًا، فالقناعة حصن حصين لمن أراد أن يستريح، ولمن أراد أن يهدأ قلبه، وإذا الإنسان فتح على نفسه أُصيب والعياذ بالله بداء الحسد، فلم يقنع بشيء، والقناعة كنز لا يفنى كما يقال، ونبينا صلى الله عليه وسلم يأخذ بيد أبي هريرة فيقول: (اتَّق المحارم تكن أعبد الناس، وارضَ بما قسَم الله لك، تكن أغنى الناس)، فمن رضي بقضاء الله وقدره، جعل الله له غناه في قلبه يوم أن تقصر عن عينك إلا من أهلك، يوم أن تقصر الطمع إلا عن ذكر الله، يوم ألا تمتد عينك إلى غيرك، فإن الله عز وجل يعطيك القناعة، وليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس، وعليك أن تعلم عبد الله أن الله قسَّم الناس إلى طبقات، وربما كان اليهود والكفار أكثر أموالًا من المسلمين، بل هذا هو الحال، فهل معنى هذا أنه يحبهم؟ كلا، يقول سبحانه: ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [هود: 16]، وقال سبحانه: ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَصِيبٍ ﴾ [الشورى: 20]، ويقول سبحانه: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 32].
فيقسِّم الله – عز وجل – الناس إلى طبقات، فمنهم الغني ومنهم الفقير، وفي حقيقة الأمر كلهم مفتقرون إلى الله، فالغني يحتاج إلى ربه، وكذا الفقير يحتاج إلى ربه، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيد ﴾، فكل الخلق يحتاجون إلى ربهم الرئيس والمرؤوس الملك والوزير والحقير والشريف، فكلهم يحتاجون إلى ربهم سبحانه وتعالى، فليس من أعطاه الله غنى دليلًا على محبته له، وليس من أفقره كان ذلك دليلًا على سخطه عليه، فإن الفقراء يوم القيامة يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، وأهل الغنى محبوسون يحاسبهم الله على هذه الأموال وعلى هذه الممتلكات، (لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع، ومن هذه الأربع: عن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه)، فليس في ذلك دليلًا على محبته سبحانه للرؤساء والملوك والأغنياء، وليس في ذلك دليلًا على أنه يبغض الفقراء، ولكن الله – عز وجل – اقتضت حكمته هكذا، ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ [الشورى: 27]، فمن أراد أن يستريح فعليه أن يرضى بما قسم الله – عز وجل- له من غنى أو فقر، أو صحة أو مرض، أو أبيض أو أسود، طويلًا أو قصيرًا، وجب عليه أن يرضى بما قسم الله له، فمن رضي بذلك أعطاه الله انشراحًا في قلبه وطمأنينةً، وكفاه الله – عز وجل – المؤنة، وأرضاه الله – عز وجل – في أهله وذويه، فمن الأغنياء من هو مصاب بداء القلق، وبداء الهم والحزن، وكم من الفقراء من هو مستريح، وربما كان ينام على الرصيف لا يجد ما يلتحف به، ويأكل كِسَرَ الخبز اليابسة، لكنه يجد من الطمأنينة ما يفتقر إليه ذلكم الغني، لكن أعظم سبب للهموم والغموم يوم أن يكون العبد بعيدًا عن ربه – سبحانه وتعالى – ومن أراد العلاج علاج الهموم والأحزان، فالناس متفننون في العلاجات، فمنهم من يعالج الهم والحزن إما أن يشرب السجائر، ومنهم من يتعدى إلى غير ذلك، فمنهم من ربما شرب الخمر يكون عنده رفقة سيئة يقولون له: خذ كأسًا من الخمر تنسى همومك، ووالله لا يزداد إلا حزنًا إلى حزنه:
وكأس شرِبت على لذةٍ وأخرى تداويتُ منها بها
|
لا يكون من هذا إلا غمُّ إلى غمٍّ، وحزنٌ إلى حزن، وبعضهم يعالج الهموم والقلق بالتفكه في أعراض النساء بأن يتابعهنَّ هنا وهناك في القنوات الفضائية، يريد من وراء ذلك أن يدفع عنه القلق والهم والحزن، كلَّا والله، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله عند قوله سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، يقول: لا يكون التغيير إلا بالتغيير، تغير الذنوب يغير لك الكروب، يوم أن تغير النية السيئة بالنية الحسنة، يكون التغيير من الله – عز وجل – فأعظم باب لراحة القلب التوبة يا عباد الله التوبة من الذنوب والمعاصي والمخالفات، فهي كفيلة بإزالة الهم والحزن يوم أن تتوب إلى الله.
يا صاحب الهمِّ إن الهم منفرجٌ أبشِر بخير فإن الكاشفَ الله
|
الله هو الذي يكشف الهموم والغموم والأحزان، والله ليست الذنوب والمعاصي والأغاني والجرائم، ولا القنوات ولا السجائر ولا الألعاب، وإنما هذه تزيد الهموم همومًا وتزيد النار اشتعالًا، والعياذ بالله، ومن أعظم الأسباب: التوكل على الله جل وعلا، فعليك أن تعلم أن رزقك مقسوم، وأن أجلك معدود وعمرك محدود، بل أنفاسك محدودة، فعليك أن تستريح وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فباب التوكل من أجمع أبواب الإيمان، ومن أعظم مقامات التوحيد يوم أن تتوكل على الله عز وجل، ﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 51] فمم تخاف؟ إن كنت تخاف من الفقر، فالغنى بيد الله، وإن كنت تخاف من القتل، فالأنفس بيد الله، فالسارق لا يسرق إلا بإذن الله والقاتل لا يقتل إلا بإذن الله، إذًا مم تخاف، فبدلًا من أن تُرضي الخلق أرضِ واحدًا أحدًا.
هذا أحد الصالحين حاتم الأصم – وهو إمام قدوة من أقران الإمام أحمد – قال له رجل: على أي شيء بُنيت أمرك في التوكل؟ قال: علمت أن رزقي لا يأكله غيري، فاطمأنت نفسي، وهذا العلم إنما نتج من علم بالله علم بالكتاب والسنة، فعلامَ يُتعب الإنسان نفسه، ويذهب هناك، ويكثر من التلفت هنا وهناك، والله قد ضمن حياته، وعلم الله أنفاسه وأيامه وساعاته التي سيعيشها، فعلام القلق وعلام التضجر والتسخط، فعلى الإنسان أن يرضى بما قسم له، وهذا إنما نتج في باب التوكل يوم أن يُقبل العبد على ربه جل وعلا، فإنه يستسلم لأقدار الله، ويعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن؛ يقول سبحانه: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 155، 156].
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الصلاة على رسول الله توجب انشراحًا للصدر، وطمأنينة للقلب، وتفريجًا للهموم والغموم؛ يقول نبينا صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب لما قال له أُبي: إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي، قال أُبي: أجعل لك صلاتي كلها، فقال صلى الله عليه وسلم (إذًا تُكفى همَّك ويُغفر ذنبك)، فيُكفى العبد الهم يوم أن يكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك أيضًا الدعاء والتضرع إلى الله، لا سيما هذا الدعاء المأثور الذي رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ وَحَزَنٌ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ – أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجِلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحًا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، قَالَ أَجَلْ يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ).
فهذه من أعظم الوسائل التي تسبِّب للقلب انشراحًا وسكونًا، وأعظم من ذلك كله أن يقبل العبد على ربه جل وعلا، فيَرضى به ربًّا ليرضى به عبدًا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله، اتقوا الله – سبحانه وتعالى – واعلموا أن أبناءكم مقبلون على عطلة صيفية، وهذه العطلة تتعطَّل فيها المدارس والمعاهد والجامعات في جميع المناطق، فلا علم ولا مراجعة، فبعض المسلمين مَن يُهمل أولاده، فيذهبون يتخبطون تخبطًا عشوائيًّا، فبعضهم يتسكع في الشوارع، وبعضهم يُكثر من الرحلات وبعضهم مَن يدخل إلى مقاهي الإنترنت وغيرها، فيُضيعون الأوقات الطويلة هناك، اعلموا عباد الله أنكم مسؤولون عن أولادكم، فإذا قصرتم فاعلموا أنكم مؤاخذون بذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته)، قال: فسمعت هؤلاء مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحسب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والرجل في مال أبيه راع وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، ويقول: (من استرعاه الله رعية ثم لم يَحُطْها بنُصحه، لم يجد رائحة الجنة)؛ رواه البخاري من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، فتأمل إلى هذين الحديثين الأول إلزام: (كلكم راع)، والثاني فيه حرمان من الجنة يوم أن تقصِّر في واجبك نحو ابنك، فبعضهم إذا كان يأخذ المقاضي من برٍّ ولحم، يظن أن المسألة انتهت هاهنا لا يا عبد الله.
ما مات والله جوع عالم أبدًا سلِ التواريخ عنه والدواوينا
|
فالله يرزُق الكلب والخنزير وجميع المخلوقات ﴿ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [هود: 6]، فالله هو الرزاق ذو القوة المتين، بل ربما كان رزقك بسبب ولدك، فلا تظن الظنون بهذا المال الذي تنفقه على ابنك وابنتك، لكن الأمر أعظم من ذلك يوم أن تُقبل على ابنك بالتربية الإيمانية القرآنية، يوم أن تحفِّظ أبناءك القرآن، وتعلِّمهم شيئًا مِن سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإذا أهملت في واجبك نحو ابنك، فاعلَم أنك سوف تجني العقوق؛ لأن هذه تربيتك وهذه نتيجة تمرُّدك، والجزاء من جنس العمل، وقد قيل: إن رجلًا ضربه ابنه وكان كبير السن، فشكاه إلى أحد العلماء، قال: هل علمته القرآن؟ قال: لا، قال: فما؟ قال: جعلته يرعى لي الأثوار، قال: لعله حسبك ثورًا فضربك، فهذه هي النتيجة يوم أن يفرِّط الآباء في تربية الأبناء، نحن في زمان تكالب فيه أعداء الإسلام على المسلمين، بل صار من المسلمين من ينظر إلى الغرب نظرة إجلال وإعظام.
يا عباد الله، يجب علينا أن نحفظ ديننا وأبناءنا بشرع الله – سبحانه وتعالى – فإن هذا الدين فيه نجاحنا وفيه عزتنا، وفيه كرمتنا في هذه الدنيا والآخرة، وهذه الدنيا إنما هي أيام وهي مراحل يقضيها العبد ستين أو سبعين عامًا، وأقلهم من جاوز ذلك، ثم يفد إلى ربه، فبأي شيء يفد إلى ربه وقد لطَّخ يده بالإهمال في واجب المسؤولية، والإهمال في واجب التربية التي كلَّفه الله – سبحانه وتعالى – بها، فعلينا واجبات من أعظم هذه وأهمها: واجبنا نحو أبنائنا ونحو زوجاتنا وبناتنا وأمهاتنا، فإن الله -سبحانه وتعالى – سائلنا عن هذا كله، وإن وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة حريصة على هدم الفضيلة كلها، فإن أعداء الإسلام ينادون بما يسمى بتحرير المرأة وبحقوق المرأة، وكأنهم أرحم بالمرأة من ربها، وبعضهم من ينادي بحقوق الإنسان، فديننا العظيم قد كفل لنا هذا كله، فعلينا أن نعلم أيها المسلمون أن هذا من أهم الواجبات، علينا يوم أن نلقى ربنا جل وعلا، فهو سائلنا عن أبنائنا، ﴿ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [هود: 6]، كذلك يا عباد الله إذا خرجت المرأة من بيتها أو البنت، وجب على العبد لا سيما في مثل هذه الأيام، وجب عليه أن يرافقها، وإن كان عنده سيارة أن يوصلها، فإننا نسمع ونشاهد أن بعض الناس قد تأثروا ببعض الأفلام أو القصص الغرامية، وظن أن المسألة عشوائية، هذه العشوائية إنما هي في بلاد الكفار كلهم، فما عندهم عفة ولا فضيلة، ولكن بعضهم عندهم ذلك هذا عنترة يقول:
وأغُض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأوها
|
أما أن تذهب الفتاة إلى هنا وهناك دون رقابة أو اهتمام من الأب أو الأم، فتظل من معرض إلى آخر، وتتكلم مع الخياط والتاجر وصاحب الأزياء، إن هذا يا عباد الله ليندى له الجبين، فإذا ماتت الغيرة من قلوبنا، فعلى الدنيا السلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
اللهم لا تدَع لنا ذنبًا إلا غفرته.
اللهم آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النار.