الوجيز في مناهج المحدثين للكتابة والتدوين (2)
الوجيز في مناهج المحدِّثين للكتابة والتدوين (2)
ذكرنا سابقًا منهج المحدِّثين في الطلب بصورة مبسطة، مع ذكر أهمية معرفة مناهج المحدِّثين، ونكمل الموضوع بذكر مناهجهم في التحديث والتبليغ للحديث الشريف.
ثانيًا: منهجهم في التحديث:
1– عدم التصدي للتحديث قبل التأهُّل لذلك: كانوا لا يتعجلون الجلوس للتحديث قبل تأهلهم لذلك وإجازتهم؛ قال الإمام ابن الصلاح: “اختُلِفَ في السن التي إذا بلغها، استُحِب له التصدي لإسماع الحديث والانتصاب لروايته، والذي نقوله: إنه متى احتيج إلى ما عنده، استُحب له التصدي لروايته ونشره في أي سن كان”.
2– الإمساك عن التحديث عند خوف الاختلاط: كانوا يتوَّرعون عن التحديث إذا كبِرت أعمارهم؛ قال ابن أبي ليلى: “كنا نجلس إلى زيد بن أرقم رضي الله عنه فنقول: حدثنا حدثنا، فيقول: إنا قد كبرنا ونسينا، والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد”، وقال الإمام النووي: “وينبغي له أن يُمسِك عن التحديث إذا خُشِيَ عليه الـهَرَمُ والخَـرَفُ والتخليط، ورواية ما ليس من حديثه، وذلك يختلف باختلاف الناس”، فالمتأمل لكلام السلف هنا يعرف مدى الاحتياط عندهم حتى لا يقع منهم الخطأ في الرواية والتحديث.
3– توقير من هو أولى منه والدلالة عليه: قال سفيان الثوري لسفيان بن عيينة: ما لك لا تحدث؟ فقال: “أما وأنت حيٌّ، فلا”، وقال الإمام النووي: ولا ينبغي للمحدِّث أن يحدِّث بحضرة من هو أولى منه بذلك، وقيل: يُكرَه أن يحدِّث ببلد فيه من هو أولى منه لسنِّه أو غير ذلك”، وما تم ذكره هنا يدل على الاحترام للعلم والعلماء، وتطبيق ذلك، أما اليوم فيتصدر الجميع للتحديث والفتوى وادعاء العلم الواسع، والتحدث في كل فنٍّ دون الإحسان في ذلك، وهذا انعكس على وجود كثير من الفتاوى غير المنضبطة، وكذلك وجود الاختلاف وتوسُّعه بين العلماء، وبين طلابهم، والمدارس والجامعات المختلفة.
4– توقير مجلس التحديث: كان الإمام مالك بن أنس رحمه الله إذا أراد أن يحدِّث توضَّأ وجلس على صدر فراشه، وسرَّح لحيته، وتمكَّن في جلوسه بوقار وهيبة، وحدَّث، فقيل له، فقال: “أُحبُّ أن أُعظِّم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم”، وقال الإمام ابن الصلاح: “ولا يسرُد الحديث سردًا يمنع السامع من إدراك بعضه، وليفتتح مجلسه وليختمه بذكر ودعاء يليق بالحال”.
وهذا الأمر الذي ذُكِرَ لا نكاد نجده الآن إلا من رحم الله؛ لتصدُّر الأمر ممن ليس بأهله.
5– عدم التعجُّل في التصنيف: كانوا لا يتعجلون التصنيف حتى تكتمل مَلَكاتهم ويتأهلون لذلك؛ قال الإمام النووي: “وليشتغل بالتخريج والتصنيف إذا استعدَّ لذلك وتأهل له”، وقال الخطيب البغدادي: “وقلما يتمهر في علم الحديث، ويقف على غوامضه، ويستبين الخفيَّ من فوائده، إلا من جمع متفرِّقه، وألَّف مُشتَّته، وضمَّ بعضه إلى بعض”، أما واقعنا اليوم، فكلٌّ يكتب ويؤلف الكتب المتعددة، دون علم ودراية، ويتصدر دون تمكُّن، فوُجِدَ الخلط ووُجد التعارض هنا وهنا.
6– العناية بطلاب الحديث: كان المحدِّثون يعتنون بطلابهم، ويستغلون مَلَكَةَ الحفظ والفهم في وقت مبكر من أعمار طلابهم، وكان الحسن البصري يقول: “قدِّموا إلينا أحداثكم؛ فإنهم أفرغ قلوبًا، وأحفظ لما سمعوا، فمن أراد الله عز وجل أن يــتم ذلك له أتـمَّه”.
ثالثًا: منهجهم في رواية الحديث:
1– عدم الإكثار من الرواية، والاقتصار على قدر الحاجة: كانوا يقلِّلون من الرواية؛ امتثالًا لِما رُوِيَ عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر: ((إياكم وكثرة الحديث عني، فمن قال عليَّ فليقل حقًّا – أو صدقًا – ومن تقوَّل عليَّ ما لم أقُلْ، فليتبوأ مقعده من النار))؛ [رواه ابن ماجه والحاكم]، ولا يخرِم هذا المنهج وجود بعض الْمُكثرين من الصحابة أو التابعين ومن بعدهم؛ لأن مروياتهم قد احتيج إليها، إضافة إلى أن عدد هؤلاء المكثرين قليل جدًّا، فلا يكون ذلك خرقًا لعدم الميل إلى الإكثار.
2– التثبت من صحة الرواية: كانوا يبذلون كل ما في وسعهم للتثبت من صحة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: “إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم”، ولم يكن بُعْدُ المسافة عن الرواة مانعًا من التثبت، فقد سنُّوا رضي الله عنهم الرحلة في طلب الحديث، حتى إن شعبة بن الحجاج رحل ألفَ فرسخ في حديث واحد، وكتاب الخطيب البغدادي “الرحلة في طلب الحديث” أكبر شاهد على ذلك، وهذا المنهج مميز ورائع، حُفِظَ به الدين.
3– نقد الروايات: كانوا يعرِضون ما يسمعونه من بعضهم من الحديث على ما يحفظونه من الكتاب والسنة، وما رسخ في أذهانهم من قواعد هذا الدين الحنيف، فما وجدوه موافقًا أخذوا به، وما وجدوه مخالفًا توقَّفوا فيه؛ ولذلك نجد كثيرًا من الروايات فيها مقال، وفيه اعتراض، بيَّنها المحدِّثون بشكل واضح بيِّن، على وَفْقِ منهج المحدثين.
4– عدم التحديث بما يفوق أفهام العامة: أمْسَكَ بعض الصحابة والتابعين ومن بعدهم عن التحديث بما يكون ذريعة للتقصير والتهاون بسبب قصور النظر، أو يكون سُلَّمًا لأهل الأهواء والبدع ومن على شاكلتهم؛ حتى لا تكون فتنة في الأرض وفساد كبير؛ وفي هذا يقول ابن مسعود رضي الله عنه: “ما أنت بمحدِّث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة”، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: “حفِظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فَبَثَثْتُه، وأما الآخر فلو بَثَثْتُه قُطع هذا البُلعُوم”، والمراد أنه لم يحدِّث به كل أحد، بل حدَّث به خاصة أصحابه، وذلك ما يتعلق بالفتن وما شجر بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وورد عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “حدِّثوا الناس بما يفهمونه؛ أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله؟”.
5– التقميش عند جمع الحديث، والتفتيش عند الاحتجاج به: كانوا يكتبون كل ما يسمعون دون تمييز، ولكنهم يميِّزون المقبول من غيره إذا أرادوا التحديث؛ قال الإمام أبو حاتم الرازي: “إذا كتبت فقمِّش، وإذا حدثت ففتِّش”؛ وذلك لأهمية كتابة المسائل والاهتمام بصيد الفوائد وتدوينها، ومن ثَمَّ الاهتمام بغربلة تلك المسائل على وفق المناهج المعتبرة، ولا يؤخذ الأمر على عواهنه، وهذا من أساسيات الباحث.
6– الاحتياط عند الشك وتوقير من يحدِّثون عنه: كانوا يحتاطون عند التحديث؛ حتى لا يتقوَّلوا على النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل؛ فعن عمرو بن ميمون قال: “ما أخطأني ابن مسعود عشية خميس إلا أتيته فيه، فما سمعته يقول بشيء قط: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان ذات عشية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فَنَكَسَ، فنظرت إليه فهو قائم مُحلَّلةً أزرارُ قميصه، قدِ اغْرَوْرَقَتْ عيناه، وانتفخت أَوداجُه، قال: أو دون ذلك، أو فوق ذلك، أو قريبًا من ذلك، أو شبيهًا بذلك”، وقال الإمام النووي: “ينبغي له إذا اشتبه عليه لفظة، فقرأها على الشك أن يقول عقيبه: أو كما قال، كما فعل الصحابة فمن بعدهم”.
رابعًا: منهجهم في كتابة الحديث وضبطه:
1– آداب كتابة الحديث: كانوا يحافظون على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذكره، وكانوا يستحبون أن يكون الخطُّ محققًا، وكانوا يتَّسمون بحسن الخط والدقة العالية.
2– ضبط الحروف المهملة والفصل بين الأحاديث: كانوا لا يقتصرون على ضبط الحروف المعجمة بالنقاط، بل كانت الحروف المهملة لها علامة أيضًا، وكان من عادتهم أن يضعوا دائرة بين كل حديثين للفصل بينهما.
3– التصحيح والتَّضْبِيب: كانت لهم علامات في مروياتهم التي دوَّنوها، ومن ذلك التصحيح؛ فإنه يكون بكتابة “صح” على الكلام أو مقابله في الحاشية، ولا يفعل ذلك إلا فيما صحَّ روايةً ومعنًى، غير أنه عُرضة للشك أو الخلاف، فيُكتب عليه “صحَّ” ليُعرف أنه لم يُغفَل عنه، وأنه قد ضُبِط وصحَّ على هذا الوجه.
وأما التضبيب – ويسمى أيضًا التمريض – فهو أن يجعل رمز “صــ” فوق الكلام الذي صح وروده من جهة النقل، غير أنه فاسد لفظًا أو معنًى، أو ضعيفٌ أو ناقص، أو أن يكون في الإسناد إرسال أو انقطاع.
4– الجمع بين اختلاف الروايات: كانوا لا يخلِطون بين الروايات ولا يُلفِّقون بينها، وإذا وصل إلى أحدهم الحديث من عدة طرق وبألفاظ مختلفة، فإنه يعتمد أوثق الروايات عنده، ثم يبين ما وقع فيه التخالف من زيادة أو نقص، أو إبدال لفظ بلفظ، أو حركة إعراب أو نحوها، وقد يستعمل بعضهم خطوطًا بألوان مختلفة يدل كل منها على رواية مختلفة.
5– الإشارة بالرمز: كانوا يختصرون بعض الكلمات التي يكثُر ذكرها، في الكتابة فقط، وينطقون بها كاملة دون اختصار، ومن ذلك: حدثنا = ثنا = نا = دثنا، أخبرنا = أنا = أرنا، (ح) عند تحويل السند، ولا يدخل في ذلك اختصار الصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يفعل ذلك أحدٌ من السابقين.