الودود سبحانه يتودد إلينا وهو غني عنا (خطبة)


الودود سبحانه يتودد إلينا وهو غني عنا (خطبة)

 

الحمد لله الملك المعبود، ذي العطاء والمنِّ والجُود، واهبِ الحياة وخالق الوجود، الذي اتصف بالصمدية، وتفرَّد بالوحدانية، والملائكة وأولو العلم على ذلك شهود، الحمد له لا نُحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه حيث كان ولم يكن هناك وجود، نحمَده تبارك وتعالى ونستعينه فهو الرحيم الودود، ونعوذ بنور وجهه الكريم من فكر محدود، وذهن مكدود، وقلب مسدود، ونسأله الهداية والرعاية والعناية، وأن يجعلنا بفضله من الرُّكَّع السجود، وأشهد أن لا إله إلا الله الحي الحميد، ذو العرش المجيد، الفعَّال لِما يريد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:

 

فهل سمعتَ عن اسم الله (الودود)؟ يا لروعةِ هذا الاسم العظيم من أسمائه سبحانه! وكل أسمائه عظيمة حسنى كاملة، كلما سمعت هذا الاسم الجليل، أو قرأته بين ثنايا الكتب، تأخذني مشاعرَ الحبِّ والشوق والوِداد لله تبارك وتعالى، وفي كل مرة أتأمل هذا الاسم الحسن، وكل أسمائه غاية في الحسن، يتجدد الحب في قلبي، وأشعر بفرح يغمُر قلبي وجوارحي، ومشاعرَ امتنان صادقة لربي الودود، إنه شعور مُترعٌ بالمحبة والقرب من الله، عظيم جدًّا أن تستشعر أن ربك الذي تعبده وتؤلِّهه وتحبه ودود رحيم جل في علاه؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ﴾ [هود: 90]، ويقول سبحانه: ﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ﴾ [البروج: 14].

 

وكان فؤادي خاليًا قبل حبكم
وكان بذكر الخلق يلهو ويمرحُ
فلما دعا قلبي هواك أجابه
فلستُ أراه عن فنائك يبرحُ

 

والودود يأتي بمعنى فاعل، الوادُّ؛ وهو الذي يتودد إلى عباده بالنِّعم، ويحبهم ويكرمهم، والذي تُعَدُّ نِعَمه مظهرًا من مظاهر حبِّه لعباده، والودود يأتي بمعنى “فعول”؛ أي إن الله سبحانه وتعالى يتودد عباده إليه، ويُحبونه ويُعظِّمونه، وهنالك معنًى ثالث لاسم الله الودود؛ أي: يخلق المودة بين خلقه، فيحب بعضهم بعضًا، وتحب الأم أولادها، ويحب الأخ أخاه، وتحب المرأة زوجها وهكذا.

 

فكرت أن أحدثكم عن بعض الشواهد والصور من حياتنا حول: كيف يتودد الله إلينا بالنِّعم؟ فحِرْتُ – والله – من أي نعمة أبدأ، وعند أي نعمة أنتهي، فكل ما في هذا الوجود من نعمة ورحمة وخير، فهو من مظاهر ربنا الودود؛ قال ابن القيم: “ليس العجب من مملوك يتذلَّل لله ويتعبد له، ولا يمَل من خدمته مع حاجته وفقره إليه، إنما العجب من مالك يتحبَّب إلى مملوكه بصنوف إنعامه، ويتودد إليه بأنواع إحسانه، مع غِناه عنه”.

كفى بك عـزًّا أنك له عبد       وكفى بك فخرًا أنه لك ربُّ

قلِّب طَرْفَك في كل هذه المباني والقصور والأطعمة، والأملاك والمواهب، والعقارات والدُّور، وأرصدة البنوك والتجارات، والأموال والممالك، مَن منحها وأعطاها لخلقه؟ ثم انتقل ببصرك وفكرك داخل هذا الإنسان، كم تودد الله إليه بأنواع النِّعَمِ؛ من سمع وبصر وحواسَّ وأجهزة معقَّدة في جسمه، تعمل بانتظام دقيق عجيب! إنه الله الودود، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ [فاطر: 3]، وإذا تسنَّى لك أن تغوص في أعماق أولياء الله من مُحبِّيه، لأخذتك الدَّهشة في حبِّهم لربِّهم، وعظيم قدره سبحانه في قلوبهم: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 165]؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وليس للخلق محبة أعظم، ولا أكمل، ولا أتم من محبة المؤمنين لربهم، وليس في الوجود ما يستحق أن يُحَبَّ لذاته من كل وجه إلا الله تعالى، وكل ما يُحَبُّ سواه، فمحبته تَبَعٌ لحبِّه”.

ثم اعطف ببصرك نحو علاقات البشر والحيوانات بعضهم ببعض، وشاهد حنو الأمهات على أبنائهن، وعطف الآباء على أولادهم، وما أودع الله بين الأزواج والأرحام من محبة وودٍّ؛ كل ذلك من مظاهر اسم الله الودود سبحانه.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآي والذكر الحكيم، أقول قولي هذا…

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

إذا كان الودود جل في علاه يتودد إلى عباده بكل هذه النِّعَمِ، فهل ثمة علاقة بين المصائب والشدائد التي تصيبنا وبين اسم الله الودود؟ هذا سؤال في غاية الأهمية، ومعناه: هل يتودد الله إلينا بالنِّعَمِ فقط، أم أن هنالك ألوانًا أخرى من التودد؟! نعم، فقد يتودد الله إلينا بالبلاء والمصيبة والشدة، ولكي تعي هذا الموضوع، تأمَّل في هذا المثل: لو تصورنا أبًا عالمًا كبيرًا، عنده ولدٌ يحبه حبًّا جمًّا، وكأن هذا الأب العالم خطط لابنه أن يكون عالمًا، فلا بد من دراسة متقنة، لا بد من تفوُّقٍ في الدرجات، فإذا رأى ابنه قد غفل، ولَهَا وسَهَا عن هذا الهدف الكبير، ساق له بعض الشدائد، هذه الشدائد من أجل أن ترجعه إلى الصواب، إلى رسم مستقبل رائع، فحينما يكتشف الابنُ أهدافَ الأب الكبرى المنطوية على رحمة، وعلى اعتزاز بابنه، يذوب محبة على ما ساقه له من شدائد، حينما كان صغيرًا، هذه فلسفة المصيبة، وسُمِّيت مصيبة لأنها تُصيب الهدف، ولله المثل الأعلى، قد يعلم الله تعالى من عباده جفافًا في محبتهم له، وتعلُّقًا بنعيم الدنيا الذي يمنحهم إياه، هو تعالى يتودد إلى عباده، ويحب منهم أن يبادلوه الودَّ ودًّا، فإذا رأى منهم جفاءً وغفلة، قطع عنهم نعمة من النعم ليهُزَّ كِيانهم، ويُوقظهم من غفلتهم؛ لعلهم ينتبهون إلى حقيقة أن النعمة ألْهَتْهم عن الْمُنْعِم.

 

 

هذا، وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره، واستنَّ بسُنَّته إلى يوم الدين.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
مكتبه السلطان – افضل 5 كتب 📖 يجب ان تقرأهم الأن مفيدين جدا – ناصر العقيل –
Mum who lost three kids in house blaze made homeless – Geo News