الوصية بذكر الله
الوصية بذكر الله
الحمد لله لم يزل عليًّا، ولم يزل في علاه سميًّا، قطرة من بحر جوده تملأ الأرض ريًّا، نظرة من عين رضاه تجعل الكافر وليًّا، الجنة لمن أطاعه ولو كان عبدًا حبشيًّا، والنار لمن عصاه ولو شريفًا قرشيًّا، أنزل على نبيه ومصطفاه قولًا بهيًّا: ﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا ﴾ [مريم: 63].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران/ 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء/ 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [الأحزاب/ 69-71]، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثاتها بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
اللهم لا تعذب جمعًا التقى فيك ولك، ولا تعذب ألسنًا تخبر عنك، ولا تعذب قلوبًا تشتاق إلى لذة النظر إلى وجهك الكريم، وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من عجز منكم عم الليل أن يكابده، وجبُن عن العدو أن يقاتله، وبخِل بالمال أن ينفقه، فليكثر ذكر الله تعالى”[1].
وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مسجد المدينة، فقال: “إن لله تعالى سرايا من الملائكة تجول، وتقف على مجالس الذكر في الأرض، فإذا رأيتم رياض الجنة، فارتعوا”.
قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: “مجالس الذكر، اغدوا ورُوحوا في ذكر الله تعالى، ومن كان يحبُّ أن يعلم منزلته عند الله تعالى، فلينظر كيف منزلة، وقال عبد الله بن بسر: أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام كثرت عليَّ فأمرني بشيء أتشبث به، فقال: “لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله تعالى”[2].
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من صباحٍ ولا رواح، إلا وبقاع الأرض تنادي بعضها بعضًا، يا جارة هل مرَّ بك اليوم عبد صالح صلى عليك، أو ذكر الله، فإن قالت نعم، رأت لها بذلك فضلًا”[3].
في هذه الجلسة يجلس لقمان الحكيم مع ابنه؛ ليمنحه اللؤلؤ المنثور من الوصايا الإيمانية التي تكشف للعبد عن حقائق الأعمال، وأثرها في أحوال بني الإنسان، فهو في هذه الوصية يمنحه السراج الذي يضيء له في الدنيا والآخرة، ألا وهو ذكر الله تعالى، فعن وهب بن منبه، قال: قال لقمان لابنه: يا بني، إن مثل أهل الذكر والغفلة كمثل النور والظلمة[4].
واعلم علمني الله وإياك أن من أجل صفات أولي الألباب التي نالوا بها القرب والمعية، ونالوا شرف الانتفاع بآياته والوقوف على أحكامه، والخوض في رحمته، ونالوا بها الرحمة والسكينة، وذكر الرب في الملأ الأعلى صفة الذكر؛ يقول جل جلاله: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190-191].
قال الحسن البصري رحمه الله: تفقَّدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة وفي الذكر، وقراءة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق”[5]، وذكر الله تعالى: المال الذي لا تحميه الرجال، والكنز الذي لا يخاف عليه النهب، والذخيرة التي لا تصل إليه يد، فهو عز لأنه تذكير بالعزيز وهو غناء لأنه تسبيح للغنى، وقوة لأنه تنويه باسم القوى، ذكر الله غنى لمن افتقر وزيادة لمن شكر، وعدة لمن صبر، فالفقير الذاكر عنده القناطير المقنطرة من اليقين، وحسن الظن والثقة بالوعد، والاطمئنان إلى حسن المصير، وكرم العاقبة وراحة الخاطر، والغني الذاكر يحمل أوسمة الشكر، ويتوج بأكاليل الحمد، فهو في سلم القبول راق، وفي مدارج العبودية صاعد، وفي سماء الوفاء والصدق مجنح، والصابر الذاكر في جنة الرضا، وفي نعمة الإيمان بالمقدور يلمح الأجر، وانحطاط الوزر وقرب الفرج، وعبودية التسليم وجلالة مقام الانقياد للقضاء، فالذكر غنى وثروة وعدة وذخيرة وقوة؛ قال بعض السادة الأخيار لولده لما حضرته الوفاة: يا بنيَّ، اسمع وصيتي، واعمل ما أوصيك به، قال نعم يا أبت، قال يا بني، اجعل في عنقي حبلًا، وجرَّني إلى محرابي، ومرِّغ خدي على التراب، وقل: هذا جزاء من عصى مولاه، وآثر شهوته وهواه، ونام عن خدمة مولاه، قال: فلما فعل ذلك به، رفع طرفه إلى السماء وقال: إلهي وسيدي ومولاي، قد آن الرحيل إليك، وأزف القدوم عليك، ولا عذر لي بين يديك، غير أنك الغفور وأنا العاصي، وأنت الرحيم وأنا الجاني، وأنت السيد وأنا العبد، ارحم خضوعي وذلتي بين يديك، فإنه لا حول ولا قوة إلا بك.
قال: فخرجت روحه في الحال، فإذا بصوت ينادي من زاوية البيت سمعه كل من حضر وهو يقول: تذلل العبد لمولاه، واعتذر إليه مما جناه، فقرَّبه وأدناه وجعل الجنة الخلد مأواه.
إلهي إن كنت الغريق وعاصيًا فعفوُك يا ذا الجود والسَّعة الرحب |
واعلم علمني الله وإياك أن ذكر الله تعالى هو الهدف والغرض الأساسي من العبادات والطاعة، فعند البحث عن الغرض الأساسي من العبادات والطاعة في مفهوم الإسلام، يتضح لنا أنه ذكر الله عز وجل، وتبيانًا لهذا الغرض من العبادة، قال الله لموسى عليه السلام عندما كلمه بالوادي المقدس طوى: ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 14]؛ أي أقم الصلاة لتذكرني في عبادتك لي، وهذا أحد المعنيين الذين فسرت بهما الآية والمعنى الآخر أقم الصلاة إذا كنت ذاكرًا غير نائم ولا ناس، وعن معاوية بن الحكم السلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنما الصلاة لقراءة القرآن وذكر الله، فإذا كنت فيها فليكن ذلك شأنك”[6].
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما جعل رمي الحجارة والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله”[7].
ولما كان تذكر القاعدة الإيمانية من شأنه أن يحرك النفوس والقلوب المؤمنة بعناصر العبادة، هي ردود أفعال طبيعية في النفوس والقلوب السوية، وهي بدورها توجه السلوك لما فيه مرضاة الله – كان شأن هذا التذكر الفعال أن ينهى عن الفحشاء والمنكر، ويدفع إلى فعل الخيرات، وقد أبان الله هذه الحقيقة في قوله: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45]؛ أي: إن من شأن تلك الصلاة التي استوفت جميع الشروط أن تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر لاشتمالها على ذكر الله، وأمرنا بالجمعة من أجل ذكره، فقال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 9-10].
فسعي المسلم الحثيث إلى صلاة الجمعة الغرض منه ذكر الله في ذلك المجمع الرباني الذي أقامه من أجل ذكره، فإذا قضى المسلم الصلاة وأخذ جرعة الإيمان، وذكر الرحمن، فلا بد أن يستحضر دائمًا ذكر ربه وخالقه، فقال سبحانه: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 10].
وأمرنا بحج بيته الحرام، وأخبرنا أن الغاية منه هو ذكره وشكره سبحانه وتعالى، بل إن جميع حركات الحاج عبارة عن ذكر وابتهال ودعاء لله تعالى، فقال سبحانه: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [البقرة: 203]، ثم قال سبحانه: ﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾ [البقرة: 198].
وهكذا جميع المناسك يقوم بها الحاج، وهو يذكر الله تعالى في كل حركة من حركاته، وفي كل خطوة من خطواته، بل إن الله عز وجل أمرنا أن نكثر منه حتى في إصبع الأمور والأحوال، أمرنا به عند الجهاد في سبيله، وجعله من أعظم أسباب النصر على الأعداء، فقال جل وعلا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45].
فبذكره تزلزلت قلاعُ المارقين، ونسِفت معاقل المنافقين، وتحطَّمت أوكار الفاسقين، وانهزمت جيوش الخائنين، الله أكبر شعار الجاهدين وهتاف المؤذنين وثناء الشاكرين، قال أبو علي: الرجال في هذا المقام على أربعة أقسام:
القسم الأول: رجل قد استولت على قلبه عظمة الله وكَبَحَتْه، فاشتغل بذكره عن ذكر من سواه، ولم تُله الأكوان عن الاستئناس بذكره، فهذا هو الذي وصفه الله تعالى، فقال: ﴿ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [النور 37].
والثاني: رجل عاهد الله تعالى بصدق الإجابة، وتحقق العبودية، وإخلاص الورع، والقيام بالوفاء، فهو الذي وصفه الله تعالى بقوله: ﴿ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ﴾ [الأحزاب 23].
والثالث: رجل يتكلم لله وفي الله وبالله ومن أجل الله، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر على سائر ضمائر الأسرار، ثم على ظواهر النفوس الأغيار، وهو الذي وصفه الله تعالى، فقال: ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ﴾ [يس 20].
والرابع: رجل يتكلم سره عن نفسه وعن الملكين الموكلين، ولا يطَّلع على سرِّه إلا مولاه، وهو الذي وصفه الله تعالى، فقال: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ﴾، إلى قوله: ﴿ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الزمر 23]، فهذا هو في ظاهره كالسَّليِّ الخَليِّ، وفي باطنه كالمتولي الشجي.
قال أبو طارق: شهدت ثلاثين رجلًا ماتوا في مجالس الذكر يمشون بأرجلهم صحاحًا إلى المجلس وأجوافهم قريحة، فإذا سمعوا الموعظة تصدَّعت قلوبهم فماتوا[8].
إِذَا أَلْهِمَ الإنْسَان ذِكرا لِرَّبِهِ وَكَانَ بَأَرْكَانَ العِبَادَاتِ آتِيَا فَذَاكَ الفَتَى لا مَنْ يَكُونَ مُضَيِّعًا لأَمْرِ الذي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ عَالِيَا |
[1] أخرجه الطبراني (11/ 84، رقم 11121)، والبيهقي في شعب الإيمان (1/ 391، رقم 908).
[2] رواه الترمذي 3375، وابن ماجه وصححه ابن حبان.
[3] أخرجه الطبراني في الأوسط (611 – مجمع)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 9): وصالح المري ضعيف.
[4] حلية الأولياء – (ج 2 / ص 88).
[5] مدارج السالكين ج ج2 ص 440 -441.
[6] أخرجه أبو داود ح 931 والنسائي في السنن الكبرى ح 3166، والطحاوي في شرح معاني الآثار ح 2391، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود ح 196.
[7] أخرجه الترمذي، ح71، وضعفه الألباني في ضعيف المشكاة 2624، وضعيف سنن أبي داود 328، وعندنا برقم 1888 / 410.
[8] التبصرة لابن الجوزي (1/ 398).