الولي – المولى جل جلاله


الوَلِيُّ – المَوْلَى جل جلاله


عَنَاصِرُ الموضُوع:

أوَّلًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسمِ ( الوَليِّ ).

 

ثَانِيًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسمِ ( المَولَى ).

 

ثَالِثًا: وُرُودِ الاِسْمَينِ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ.

 

رَابِعًا: مَعْنَى الاِسْمَينِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى.

 

خَامِسًا: ثَمَرَاتُ الإيمَانِ بِهَذَينِ الاسْمَينِ.

 

النِّيَّاتُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا الُمحَاضِرُ

قَبْلَ إِلْقَاءِ هَذِهِ الُمحَاضَرَةِ

أولًا: النِّيَّاتُ العَامَّةُ:

1- يَنْوي القيامَ بتبليغِ الناسِ شَيْئًا مِنْ دِينِ الله امْتِثَالًا لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: « بلِّغُوا عَني ولَوْ آيةً»؛ رواه البخاري.

 

2- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ مَجْلِسِ العِلْمِ [1].

 

3- رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ مَجْلِسِه ذلك مَغْفُورًا لَهُ [2].

 

4- يَنْوِي تَكْثِيرَ سَوَادِ المسْلِمِينَ والالتقاءَ بِعِبادِ الله المؤْمِنينَ.

 

5- يَنْوِي الاعْتِكَافَ فِي المسْجِدِ مُدةَ المحاضرة – عِنْدَ مَنْ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ مِنَ الفُقَهَاءِ – لَأَنَّ الاعْتِكَافَ هو الانْقِطَاعُ مُدَّةً للهِ في بيتِ الله.

 

6- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى أَجْرِ الخُطُوَاتِ إلى المسْجِدِ الذي سَيُلْقِي فيه المحَاضَرَةَ [3].

 

7- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، إذا كانَ سَيُلْقِي مُحَاضَرَتَه مثلًا مِنَ المغْرِبِ إلى العِشَاءِ، أَوْ مِنَ العَصْرِ إِلَى الَمغْرِبِ [4].

 

8- رَجَاءَ أَنْ يَهْدِي اللهُ بسببِ مُحَاضَرَتِه رَجُلًا، فَيَأْخُذَ مِثْلَ أَجْرِهِ [5].

 

9- يَنْوِي إرْشَادَ السَّائِليِنَ، وتَعْلِيمَ المحْتَاجِينَ، مِنْ خِلَالِ الرَّدِّ عَلَى أَسْئِلَةِ المسْتَفْتِينَ[6].

 

10- يَنْوِي القِيَامَ بِوَاجِبِ الأمرِ بالمعروفِ، وَالنهيِ عَنِ الُمنْكَرِ ـ بالحِكْمَةِ والموعظةِ الحسنةِ ـ إِنْ وُجِدَ مَا يَقْتَضِي ذلك (4).

 

11- يَنْوِي طَلَبَ النَّضْرَةِ الَمذْكُورَةِ فِي قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: « نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْها »، رواه أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (6766).

 

ثُمَّ قَدْ يَفْتَحِ اللهُ عَلَى الُمحَاضِرِ بِنِيَّات صَالِحَةٍ أُخْرَى فَيَتَضَاعَفُ أَجْرُه لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: « إنما لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى »، مُتَّفَقٌ عَلَيه.

 

ثانيًا: النِّيَّاتُ الخَاصَّةُ:

1- تَنْوِي تَعْرِيفَ المُسْلِمِينَ بِمَعْنَى اسْمَي ( الوَلِيِّ ـ والمَوْلَي ).

 

2- تَنْوِي حَثَّ المُسْلِمِينَ عَلَى طَلَبِ النُّصْرَةِ مِنَ الله وَحْدَهُ لأَنَّهُ هُوَ الوَلِيُّ النَّصِيرُ.

 

3- تَنْوِي حَثَّ المُسْلِمِينَ عَلَى اتِّبَاعِ شَرْعِ الله وَالمُحَافَظَةِ عَلَى الفَرَائِضِ وَالإِكْثَارِ مِنَ النَّوَافِلِ لِيَكُونُوا أَوْلِيَاءً للهِ.

 

4- تَنْوِي تَعْرِيفَ النَّاسِ بَأَنَّ اللهَ هُوَ وَلِيُّ نِعْمَتِهِم فَعَلَيْهِم أَنْ يَشْكُرُوهُ وَحْدَهُ.

 

أوَّلًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسمِ ( الوَليِّ )

الوَلِيُّ فِي اللَّغَةِ صِيغَةُ مَبَالَغَةٍ مِنَ اسْمِ الفَاعِلِ الوَالِي، فِعْلُه وَلِيَ يَلِي وِلَايةً.

 

وَالوَلِيُّ هُوَ الذِي يَلِي غَيْرَهُ بِحَيثُ يَكُونُ قَرِيبًا مِنْهُ بِلَا فَاصِلٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي المَكَانِ أَوْ النَّسَبِ أَوِ النِّسْبَةِ.

 

وَيُطْلَقُ الوَلِيُّ أَيْضًا عَلَى الوَالِدِ وَالنَّاصِرِ وَالحَاكِمِ وَالسَّيِّدِ.

 

وَالوَلَايَةُ تَوَلِّي الأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ﴾ [البقرة: 282].

 

وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا صَنَعَ لأَحَدِكُمْ خَادِمُهُ طَعَامَهُ، ثُمَّ جَاءَهُ بِهِ وَقَدْ وَلِيَ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ، فَلْيُقْعِدْهُ مَعَهُ فَلْيَأْكُلْ»[7].

 

وَالوَلِيُّ سُبْحَانَهُ هُوَ المُتَوَلِّي لأُمُورِ خَلْقِهِ، القَائِمُ عَلَى تَدْبِيرِ مُلْكِهِ، الذِي يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإذْنِهِ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحج: 65]، وَقَالَ: ﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الرعد: 33].

 

وَوَلَايَةُ الله لِعَبَادِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:

الوَجْهُ الأَوَّلُ: الوَلَايَةُ العَامَّةُ وَهِيَ وَلَايَةُ الله لِشُؤُونِ عِبَادِهِ، وَتَكَفُّلُهُ بِأَرْزَاقِهِم وَتَدْبِيرُهُ لأَحْوَالِهِمْ، وَتَمْكِينُهُم مِنَ الفِعْلِ وَالاسْتِطَاعَةِ، وَذَلِكَ بِتَيْسِيرِ الأَسْبَابِ ونَتَائِجِهَا وَتَرْتِيبِ المَعْلُولَاتِ عَلَى عِلَلِهَا، وَتِلْكَ هِيَ الوَلَايَةُ العَامَّةُ التِي تَقْتَضِي العِنَايَةَ وَالتَّدْبِيرَ، وَتَصْرِيفَ الأُمُورِ وَتَدْبِيرَ المَقَادِيرِ، فَاللهُ مِنْ فَوقِ عَرْشِهِ قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ كَمَا قَالَ: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16].

 

الوَجْهُ الثَّانِي: وَلَايَةُ الله لِلمُؤْمِنينَ وَهِيَ وَلَايَةُ حِفْظٍ وَتَدْبِيرٍ سَوَاءً كَانَ تَدْبِيرًا كَوْنِيًّا أوْ شَرْعِيًّا ؛ فَإِنَّ الإِرَادَةَ الكَوْنِيَّةَ وَالشَّرْعِيَّةَ عِنْدَ السَّلَفِ تَجْتَمِعَانِ فِي المُؤْمِنِ وَتَفْتَرِقَانِ فِي الكَافِرِ حَيْثُ تَتَوَافَقُ إِرَادَةُ المُؤْمِنِ مَعَ الإِرَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالكَوْنِيَّةِ مَعًا، وَالكَافِرُ يُخَالِفُ الشَّرْعِيَّةِ وَيُوَافِقُ الكَوْنِيَّةِ حَتْمًا [8].

 

فَالوَلَايَةُ الخَاصَّةُ وَلَايِةُ حِفْظٍ وَعِصْمَةٍ، وَمَحَبَّةٍ وَنُصْرَةٍ سَوَاءً كَانَ فِي تَدْبِيرِ الله الكَوْنِيِّ أَوِ الشَّرْعِيِّ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 257].

 

وَشَرْطُ هَذِهِ الوَلَايَةِ الإِيمَانُ وَتَحْقِيقُ الإِخْلَاصِ وَالمُتَابَعَةِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 62، 63].

 

وَعِنَدَ البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: « إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ.. » الحَدِيثَ [9].

 

فَوَلَايَةُ الله لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَقْرُونَةٌ بِوَلَايَتِهِم لِرَبِّهِم، فَوَلَايَتُهُمْ وَلَايَةُ حِفْظٍ لِحُدُودِهِ وَالتِزَامٍ بِتَوْحِيدِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 14] [10].

 

وَفِي الكِتَابِ: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [الشورى: 28].

 

قَالَ الحَلِيْمِيُّ: «الوَلِيُّ هُوَ الوَالِي، وَمَعْنَاهَا مَالِكُ التَّدْبِيرِ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْقَيِّمِ عَلَى اليَتِيمِ وَلِيُّ اليَتِيمِ، وَلِلأَمِيرِ الوَالِي ».

 

وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: «وَالوَلِيُّ أَيْضًا: النَّاصِرُ، يَنْصُرُ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ، قَالَ اللهُ تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 257]، وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 11]، وَالمَعْنَى: لَا نَاصِرَ لَهُم» [11].

 

ثُمَّ يَجِبُ عَلَى المُؤْمِنِينَ قَطْعُ وَلَايَةِ الكَافِرِينَ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ [آل عمران: 28]؛ أَيْ: فَلَيْسَ مِنْ حِزْبِ الله فِي شَيءٍ ثُمَّ اسْتَثْنَى حَالَ التَّقِيَّةِ، فَقَالَ: ﴿ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ [آل عمران: 28]، قَالَ الحَسَنُ: « التَّقِيَّةُ مَاضِيَةٌ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ ».

 

وَقَالَ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118]؛ أَيْ: أَوْلِيَاءٌ وَدُخَلَاءٌ.

 

وَقَالَ: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ﴾ [الكهف: 50]، وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالآيُ فِي هَذَا المَعْنَى كَثِيرَةٌ.

 

ثُمَّ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ تَوَلَّى، وَأَنْ يَنْصُرَهُ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: « انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا » [12] الحديث.

 

وَقَالَ: « المُؤْمِنُ لِلمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا » [13]، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعه [14].

 

ثَانِيًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسمِ ( المَولَى )

المَوْلَى فِي اللُّغَةِ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ مَفْعَل، فِعْلُهُ وَلِيَ يِلَي وَليًّا وَوَلَايَةً.

 

وَالمَولَى اسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى الرَّبِّ وَالمَالِكِ وَالسَّيِّدِ وَالمُنْعِمِ وَالمُعْتِقِ وَالنَّاصِرِ وَالمُحِبِّ وَالتَّابِعِ وَالجَارِ وَابْنِ العَمِّ وَالحَلِيفِ وَالعَقِيدِ وَالصِّهْرِ وَالعَبْدِ وَالمنْعَمِ عَلَيْهِ.

 

وَالفَرقُ بَيْنَ الوَليِّ وَالمَوْلَى أَنَّ الوَلِيَّ هُوَ مَنْ تَوَلَّى أَمْرَكَ وَقَامَ بِتَدْبِيرِ حَالِكَ وَحَالِ غَيْرِكَ وَهَذِهِ مِنْ وَلَايَةِ العُمُومِ، أَمَّا المَوْلَى فَهُوَ مَنْ تَرْكَنُ إِلَيْهِ وَتَعْتَمِدُ عَلَيْهِ وَتَحْتَمِي بِهِ عِنْدَ الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ وَفِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَهَذِهِ مِنْ وَلَايَةِ الخُصُوصِ.

 

وَالمَوْلَى سُبْحَانَهُ هُوَ مَنْ يَرْكَنُ إِلَيْهِ المُوَحِّدُونَ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ المُؤْمِنُونَ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَلِذَلِكَ خَصَّ الوَلَايَةُ هُنَا بِالمُؤْمِنِينَ، قَالَ تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 11].

 

وَقَالَ: ﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الأنفال: 40].

 

وَقَالَ: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 51].

 

وَاللهُ تعالى جَعَلَ وَلَايَتَهُ لِلْمُوَحِّدِينَ مَشْرُوطَةً بِالاسْتِجَابَةِ لأَمْرِهِ، وَالعَمَلِ فِي طَاعَتِهِ وَقُرْبِهِ، وَالسَّعْيِ إِلَى مَرْضَاتِهِ وَحُبِّهِ، فَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَليًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ التِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ التِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ » [15].

 

ثَالِثًا: وُرُودِ الاِسْمَينِ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ

وَرَدَ اسْمُهُ ( الوَلِيُّ ) فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، مَنْهَا:

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 257].

 

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 45].

 

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ [المائدة: 55].

 

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 127].

 

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ﴾ [الأعراف: 155].

 

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 156].

 

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101].

 

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [الشورى: 28].

 

وَأَمَّا اسْمُهُ ( المَوْلَى ) فَقَدْ وَرَدَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً، مِنْهَا:

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 286].

 

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ﴾ [آل عمران: 150].

 

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ [الأنعام: 62].

 

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الأنفال: 40].

 

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الحج: 78].

 

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 11].

 

رَابِعًا: مَعْنَى الاِسْمَينِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى

أَمَّا ( الوَلِيُّ ):

فَقَالَ ابنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [البقرة: 257]: « نَصِيرُهُمْ وَظَهِيرُهُمْ، يَتَوَلَّاهُم بِعَوْنِهِ وَتَوْفِيقِهِ ﴿ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [البقرة: 257]؛ يَعْنِي بِذَلِكَ: يُخِرْجُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الكُفْرِ إِلَى نُورِ الإيمَانِ » [16].

 

وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 81]: « وَكَفَاكُمْ وَحَسْبُكُمْ بِالله رَبِّكُم وَلِيًّا يَلِيكُمْ وَيَلِي أُمُورَكُمْ بِالحِيَاطَةِ لَكُمْ، وَالحِرَاسَةِ مِنْ أَنْ يَستَفِزَّكُمْ أَعَدَاؤكُمْ عَنْ دِينِكُم، أَوْ يَصُدُّوكُمْ عَنْ اتِّبَاعِ نَبِيِّكُم » [17].

 

وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ [الأعراف: 196]: « يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ: إِنَّ وَلِيِّي وَنَصِيرِي وَمُعِينِي وَظَهِيرِي عَلَيْكُمُ اللهُ الذِي نَزَّلَ الكِتَابَ عَليَّ بِالحَقِّ، وَهُوَ يَتَوَلَّى مَنْ صَلُحَ عَمَلُهُ بِطَاعَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ » [18].

 

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: ( الوَلِيَّ ) هُوَ فَعِيلٌ، مِنَ المُوَالَاةِ، وَالوَلِيُّ: النَّاصِرُ، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 257]، وَهُوَ تَعَالَى وَلِيُّهُمْ بِأَنْ يَتَوَلَّى نَصْرَهُم وَإِرْشَادَهُمْ، كَمَا يَتَوَلَّى ذَلِكَ مِنَ الصَّبِيِّ وَلِيُّهُ، وَهُوَ يَتَوَلَّى يَومَ الحِسَابِ ثَوَابَهُمْ وَجَزَاءَهُمْ [19].

 

وَذَكَرَ الخَطَّابِيُّ نَحْوَ كَلَامِ الزَّجَّاجِ، وَزَادَ: « وَالوَلِيُّ أَيْضًا المُتَوَلِّي لِلْأَمْرِ وَالقَائِمُ بِهِ، كَوَلِيِّ اليَتِيمِ، وَوَلِيِّ المَرْأَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَيْهَا، وَأَصْلُهُ مِنَ الوَلْيِ، وَهُوَ القُرْبُ » [20].

 

وَقَالَ الحَلِيمِيُّ: «(الوَليُّ) وَهُوَ الوَالِي، وَمَعْنَاهُ: مَالِكُ التَّدْبِيرِ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْقَيِّمِ عَلَى اليَتِيمِ: وَلِيُّ اليَتِيمِ، وَلِلأَمِيرِ: الوَالِي»[21].

 

وَقَالَ فِي المَقْصِدِ: « ( الوَلِيُّ ) هُوَ: المُحِبُّ النَاصِرُ » [22].

 

وَأَمَّا ( المَوْلَى ):

فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 286]: « أَنْتَ وَلِيُّنَا بِنَصْرِكَ، دُوْنَ مَنْ عَادَاكَ وَكَفَرَ بِكَ، لأَنَّا مُؤْمِنُونَ بِكَ وَمُطِيعُونَ فِيمَا أَمَرْتَنَا وَنَهَيْتَنَا، فَأَنْتَ وَلِيُّ مَنْ أَطَاعَكَ وَعَدُوُّ مَنَ كَفَرَ بِكَ فَعَصَاكَ، فَانْصُرْنَا لأنَّا حِزْبُكَ، عَلَى القَوْمِ الكَافِرينَ الذِينَ جَحَدُوا وَحْدَانِيَّتَكَ وَعَبَدُوا الآلِهَةَ وَالأنْدَادَ دُونَكَ، وَأَطَاعُوا فِي مَعْصِيَتِكَ الشَّيْطَانَ.

 

وَالمَوْلَى فِي هَذَا المَوضِعِ المَفْعَل، مِنْ وَلِيَ فُلَانٌ أَمْرَ فُلَانٍ فَهُوَ يَلِيِهِ وَلَايَةً وَهُوَ وَلِيُّهُ وَمَوْلَاهُ، وَإِنَّمَا صَارَتِ اليَاءُ مِنْ وَلِيَ أَلِفًا لِانْفِتَاحِ الَّلامِ قَبْلَهَا التِي هِيَ عَينُ الاسْمِ » [23].

 

وَقَالَ الخَطَّابِيُّ: و(المَوْلَى) النَّاصِرُ وَالمَعِينُ، وَكَذَلِكَ النَّصِيرُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِل، كَمَا تَقُولُ: قَدِيرٌ وَقَادِرٌ، وَعَلِيمٌ وَعَالِمٌ.

 

كَقَولِهِ تَعَالَى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الحج: 78] [24].

 

وَقَالَ الحَلِيمِيُّ فِي مَعْنَاهُ: « أَنَّهُ المَأْمُولُ فِي النَّصْرِ وَالمَعُونَةِ ؛ لأَنَّهُ هُوَ المَالِكُ، وَلَا مَفْزَعَ لِلْمَمْلُوكِ إِلَّا مَالِكُهُ » [25].

 

خَامِسًا: ثَمَرَاتُ الإيمَانِ بِهَذَينِ الاسْمَينِ

1- أَنَّ اللهَ أ وَلِيُّ الذِينَ آمَنُوا، أَيْ نَصِيرُهُمْ وَظَهِيرُهُمْ يَنْصُرُهُمْ عَلَى عَدُوِّهِم، وَكَفَى بِهِ وَلِيًّا وَنَصِيرًا، فَهُوَ السَّمِيعُ لِدُعَائِهِم وَذِكْرِهِم، القَرِيبُ مِنْهُم، يَعْتَزُّونَ بِهِ وَيَسْتَنْصِرُونَهُ فِي قِتَالِهِم.

 

جَاءَ فِي حَدِيثِ البَرَاءِ رضي الله عنه فِي ( غَزْوَةِ أُحُدٍ ) أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ بَعْدَ أَنْ أُصِيبَ المُسْلِمُونَ: أَفِي القَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ فَقَالَ: ( أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ): « لَا تُجِيبُوهُ »، فَقَالَ: أَفِي القَومِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ قَالَ: « لَا تُجِيبُوهُ »، فَقَالَ: أَفِي القَومِ ابْنُ الخَطَّابِ؟ فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ قُتِلُوا، فَلَو كَانُوا أَحْيَاءً لأَجَابُوا فَلَمْ يَمِلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ فَقَالَ: كَذَبْتَ عَدُوَّ الله، أَبْقَى اللهُ عَلَيْكَ مَا يُخْزِيكَ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: اعْلُ هُبَل، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: « أَجِيبُوهُ »، قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: اللهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا العُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُم؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: « أَجِيبُوهُ »، قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ قُولُوا: « اللهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ… » [26].

 

وَفِي هَذِهِ الغَزْوَةِ تَنْبِيهٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَتَحذِيرٌ لَهُمْ وَلِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَعِبْرَةٌ لِمَنْ يَعْتَبِرُ عَلَى مَرِّ العُصُورِ، أَنَّهُ بِقَدْرِ مَا يُوَافِقُ المُسْلِمُ كِتَابَ رَبِّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَاعْتِقَادًا، تَكُونُ لَهُ النُّصْرَةُ وَالمَعُونَةُ مِنَ الله جَلَّ شَأْنُهُ، وَمَا حَصَلَتْ تِلْكَ الهَزِيمَةُ فِي أُحُدٍ إِلَّا بِسَبَبِ مَعْصِيَةِ الرُّمَاةِ وَمُخَالَفَتِهِمْ لأَمْرِ نَبِيِّهِم صلى الله عليه وسلم بَتَرْكِ أَمَاكِنِهِمِ عَلَى الجَّبَلِ، بَعْدَ أَنْ رأَوْا بَشَائِر النَّصْرِ وَهَرَعُوا إِلَى الغَنِيَمةِ.

 

قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رحمه الله: « وَالمَقْصُودُ أَنَّهُ بِحَسْبِ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ تَكُونُ العِزَّةُ وَالكِفَايَةُ وَالنُّصْرَةُ، كَمَا أَنَّهُ بِحَسْبِ مُتَابَعتِهِ تَكُونُ الهِدَايَةُ وَالفَلَاحُ وَالنَّجَاةُ، فَاللهُ سُبْحَانَهُ عَلَّقَ سَعَادَةَ الدَّارَينِ بِمُتَابَعتِهِ، وَجَعَلَ شَقَاوَةَ الدَّارَينِ فِي مُخَالفَتِهِ، فَلِأَتْبَاعِهِ الهُدَى وَالأمْنُ، وَالفَلَاحُ وَالعِزَّةُ، وَالكِفَايِةُ وَالنُّصْرَةُ، وَالوَلَايَةُ وَالتَّأْيِيدُ، وَطِيْبُ العَيْشِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَلِمُخَالِفِيهِ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ، وَالخَوفُ وَالضَّلَالُ، وَالخِذْلَانُ وَالشَّقَاءُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ » [27].

 

2- اللهُ تعالى وَلِيُّ المُؤْمِنيِنَ بِإنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِم، وَتَوَلِّيهِ سَائِرَ مَصَالِحِهِم، فَهُوَ وَلِيُّ نِعْمَتِهِم.

 

فَهَل يَصِحُّ هَذَا المَعْنَى فِي الكُفَّارِ؟

 

قَالَ الزَّجَّاجِيُّ: «فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَقَدْ أَنْعَمَ اللهُ تعالى عَلَى الكَافِرِينَ كَمَا أَنْعَمَ عَلَى المُؤْمِنِينَ، أَفَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: وَلِيُّ الكَافِرِينَ؟ قِيلَ لَهُ: لَمْ نَقُلْ إِنَّهُ مَعْنَى لِلْوَلِيِّ إِلَّا هَذَا، بَلْ قُلْنَا: إِنَّ هَذَا أَحَدُ وُجُوهِ الوَلِيِّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ اسْمُهُ ـ لمَّا أَنْعَمَ عَلَى المُؤْمِنِينَ فَقَابَلُوا إِنْعَامَهُ بِالشُّكْرِ وَالإِقْرَارِ وَالطَّاعَةِ وَالتَّوْحِيدِ، جَازَ أَنْ يُقَالَ اللهُ وَلِيُّ الذِينَ آمَنُوَا بِإِنْعَامِهِ عَلَيْهِمِ وَقَبُولِهِمِ وَشُكْرِهِم.

 

وَإِنْ كَانَ قَدْ أَنْعَمَ عَلَى الكُفَّارِ فَلَا يُقَالُ: هُوَ وَلَيُّهُمْ لِجُحُودِهِم ذَلِكَ وَتَرْكِهِم الإقْرَارَ، كَمَا قَالَ تعالى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ﴾ [النازعات: 45]، وَقَدْ أَنْذَرَ مَنْ لَمْ يَخْشَ أَيْضًا وَلَكِنْ لَمَّا يَنْتَفِعْ بِإنْذَارِهِ غَيْرُ مَنْ خَشِيَ قِيلَ: ﴿ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ﴾، وَلَمْ يَقُل أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ لَمْ يَخْشَ إِذْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِذَلِكَ الإِنْذَارِ.

 

وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ ( الوَلِيُّ ) قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى النَّاصِرِ وَالمُوَالِي وَالمُثْنِي وَغَيرِ ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: اللهُ وَلِيُّ الكَافِرِينَ، فَيَسْبِقُ إِلَى ظَنِّ السَّامِعِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ أَهْلُ تِلْكَ الأَوْجُهِ، إِذ كَانَتْ أَشْهَرَ وَأَعْرَفَ وَأَكْثَرَ استْعْمَالًا، وَمَنَعَ مِنْ إِطْلَاقِ ذَلِكَ لِلْكُفَّارِ التَّنْزِيلُ؛ لأَنَّهُ قَالَ تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 257][28]، وَهَذَا كَلَامٌ مَتِينٌ.

 

وَقَدْ تَعَرَّضَ لِهَذِهِ المَسْأَلةِ العَلَّامَةُ المُحَقِّقُ ابْنُ قَيِّمِ الجَوْزِيَّةِ فِي كِتَابِهِ المُفِيدِ: بَدَائِعِ الفَوَائِدِ فَقَالَ: «وَأَمَّا المَسْأَلةُ الثَّامِنَةُ: وَهِيَ َأنَّهُ خَصَّ أَهْلَ السَّعَادَةِ بِالهِدَايَةِ دُونَ غَيْرِهِم، فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا، وَطَالَ الحِجَاجُ مِنَ الطَّرَفِينِ وَهِيَ أَنَّهُ هَلْ للهِ عَلَى الكَافِرِ نِعْمَةٌ أَمْ لَا؟ فَمِنْ نَافٍ مُحْتَجٍّ بِهَذِهِ ـ يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 7]، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69]، فَخَصَّ هَؤُلَاءِ بِالإِنْعَامِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ غَيْرُ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ، وَلِقَوْلِهِ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ: ﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 150]، وَبِأَنَّ الإِنْعَامَ يُنَافِي الانْتِقَامَ وَالعُقُوبَةَ، فَأيُّ نِعْمَةٍ عَلَى مَنْ خُلِقَ لِلْعَذَابِ الأَبَدِيِّ.

 

وَمِنْ مُثْبِتٍ مُحْتَجٍّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34]، وَقَولِهِ لِلْيَهُودِ: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ [البقرة: 40]، وَهَذَا خِطَابٌ لَهُمْ فِي حَالِ كُفْرِهِمِ، وَبقَولِهِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ التِي عَدَّد فِيهَا نِعْمَهُ المُشْتَركَةَ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ: ﴿ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [النحل: 81 – 83].

 

وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ صَرْفًا، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ البَرَّ وَالفَاجِرَ وَالمُؤْمِنَ وَالكَافِرَ كُلَّهُم يَعِيشُ فِي نِعْمَتِهِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بالاضْطِرَارِ عِنْدَ جَمِيعِ أَصْنَافِ بَنِي آدَمَ، إِلَّا مَنْ كَابَر وَجَحَدَ حَقَّ الله تَعَالَى وَكَفَرَ بِنِعْمَتِهِ.

 

وَفَصْلُ الخِطَابِ فِي المَسْأَلَةِ:

أَنَّ النِّعْمَةَ المُطْلَقَةَ مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الإِيمَانِ لَا يُشْرِكُهُم فِيهَا سِوَاهُم، وَمُطْلَقُ النِّعْمَةِ عَامَّةٌ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهِمْ بَرِّهِم وَفَاجِرِهِمِ مُؤْمِنِهِمِ وَكَافِرِهِمِ، فَالنِّعْمَةُ المُطْلَقَةُ التَّامَّةُ هِيَ المُتَّصِلَةُ بِسَعَادَةِ الأَبَدِ وَبِالنَّعِيمِ المُقِيمِ فَهَذِهِ غَيرُ مُشْتَرَكَةٍ.

 

وَمُطْلَقُ النعمة عَامٌّ مُشْتَرَكٌ، فَإِذَا أَرَادَ النَّافِي سَلْبَ النِّعْمَةِ المُطْلَقَةِ أَصَابَ، وَإِنْ أَرَادَ سَلْبَ مُطْلَقِ النِّعْمَةِ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَرَادَ المُثْبِتُ إِثْبَاتَ النِّعْمةِ المُطْلَقَةِ للكَافِرِ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَرَادَ إِثْبَاتَ مُطْلَقِ النِّعْمةِ أَصَابَ.

 

وَبِهَذَا تَتَّفِقُ الأَدِلَّةُ وَيَزُولُ النِّزَاعُ، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الفَرِيقَينِ مَعَهُ خَطَأٌ وَصَوَابٌ، وَاللهُ المُوَفِّقُ للصَّوَابِ » [29].

 

3- وَلَا يُنَافِي مَا سَبَقَ أَنْ نَقُولَ بَأَنَّ اللهَ جَلَّ شَأْنُهُ مَوْلَى الخَلْقِ أَجْمَعِينَ بِمَعْنَى أَنَّهُ سَيِّدُهُم وَمَالِكُهُم وَخَالِقُهُم وَمَعْبُودُهُم، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ العَزِيزِ: ﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ [الأنعام: 62].

 

قَالَ ابنُ جَرِيرٍ رحمه الله: « يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ رَدَّتِ المَلَائِكَةُ الذِينَ تَوَفُّوهُم فَقَبَضُوا نُفُوسَهُم وَأَرْوَاحَهُم إِلَى الله سَيِّدِهِم الحَقِّ: ﴿ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ ﴾، يَقُولُ: أَلَا لَهُ الحُكْمُ وَالقَضَاءُ دُونَ مَنْ سِوَاهُ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ: ﴿ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ » [30].

 

وَقَالَ الشِّنْقِيطِيُّ رحمه الله: « قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ﴾، هَذِهِ الآيةُ الكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ مَولَى الكَافِرينَ، وَنَظِيرُهَا قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [يونس: 30].

 

وَقَدْ جَاءَ فِي آيةٍ أُخْرَى مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 11].

 

وَالجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ مَعْنَى كَونِهِ مَوْلَى الكَافِرِينَ أَنَّهَ مَالِكُهُمِ المُتَصَرِّفُ فِيهِم بِمَا شَاءَ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مَوْلَى المُؤْمِنِينَ دُونَ الكَافِرِينَ، أَيْ: وَلَايَةُ المَحَبَّةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالنَّصْرِ، وَالعِلْمُ عِنْدَ الله تَعَالَى.

 

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: ﴿رُدُّوا ﴾ وَقَوْلِهِ: ﴿ مَوْلَاهُمُ ﴾ عَائِدٌ إِلَى المَلَائِكَةِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الآيةِ أَصْلًا، وَلَكِنَّ الأَوَّلَ أَظْهَرُ »[31].

 

4- واللهُ تَعَالَى هُوَ المُحِبُّ لأَوْلِيَائِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ: ﴿ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 127]؛ أَيْ: هُوَ وَلِيُّهُم بِسَبَبِ أَعْمَالِهِم الصَّالِحَةِ التِي قَدَّمُوهَا وَتَقَرَّبُوا بِهَا إِلَى رَبِّهِم.

 

5- يَصِحُّ إِطْلَاقُ هَذَينِ الاسْمَيَنِ عَلَى العِبَادِ، نَطَقَ بِهِ التَّنْزِيلُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34].

 

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71].

 

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 33].

 

6- وَأَوْلِيَاءُ الله تَعَالَى هُمْ مُحِبُّوهُ وَنَاصِرُو دِينِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [يونس: 62 – 64].

 

وَمِنْ صِفَةِ الوَلِيِّ مِنْ عَبَادِ الله: أَنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم، وَيُحِبُّ مَنْ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وُيَبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُوالِي مَنْ وَالَى اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِي اللهَ وَرَسُولَهُ، يَعْمَلُ بِطَاعَةِ الله تعالى وَيَنْتَهِي عَنْ مَعْصِيَتِهِ.

 

وَلَا تُنَالُ الوَلَايَةُ إِلَّا بِالإيمَانِ الصَّادِقِ، وَالعِلْمِ الرَّاسِخِ، وَالعَمَلِ المُتَوَاصِلِ الثَّابِتِ، وَالاهْتِدَاءِ بِهَدْي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ هَذِهِ الأَمَةِ.

 

فَوَلَايَةُ الله تَعَالَى إِذنْ كَسْبِيَّةٌ، لَهَا أَسْبَابُهَا وَأَعْمَالُهَا القَلْبِيَّةُ وَالبَدَنِيَّةُ، وَلَيْسَتْ وَهْبِيَّةً لَا سَبَبَ لَهَا وَلَا عَمَل، كَمَا يَتَفَوَّهُ بِهِ جُهَّالُ المُتَصَوِّفَةِ وَزَنَادِقَتُهُمْ، فَنَسَبُوا الوَلَايَةَ للمَجَانِينَ وَالفَسَقَةِ وَالظَّلَمَةِ وَالزَّنَادِقَةِ مِنْ أَهْلِ وَحْدَةِ الوُجُودِ وَالاتِّحَادِ، بِمُجَرَّدِ حُصُولِ بَعْضِ الخَوَارِقِ وَالشَّعْوَذَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ عَلَى أَيْدِي هَؤُلَاءِ، كَالدُّخُولِ فِي النِّيرَانِ، وَحَمْلِ الأَفَاعِي، وَضَرْبِ بَعْضِهِمُ البَعْضَ بِالسُّيُوفِ وَالخَنَاجِرِ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَفْعَالَ السَّحَرَةِ الفَجَرَةِ [32].

 

فَهَذِهِ هِيَ وَلَايتُهُم البِدْعِيَّةُ، أَمَّا الوَلَايَةُ السُّنِّيَّةُ فَطَرِيقُهَا لُزُومُ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالعَمَلُ بِهَا، وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ، الأَتْقِيَاءِ الأَنْقِيَاءِ، البَرَرَةِ الكَرِامِ.

 

قَالَ تَعَالَى مُوصِيًا نَبِيَّهُ الكَرِيمَ صلى الله عليه وسلم: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [الجاثية: 18، 19].


[1] رَوَى مسلمٌ عن أبي هريرةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: « ما اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بيتٍ مِنْ بِيوتِ الله، يَتْلُونَ كِتابَ الله ويَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلا نزلتْ عَليهم السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُم الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُم الملائكةُ، وَذَكَرَهُم اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ ».

[2]َ روَى الإمامُ أَحمدُ وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (5507) عن أنسِ بنِ مالكٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « مَا اجْتَمَعَ قَومٌ عَلَى ذِكْرٍ، فَتَفَرَّقُوا عنه إلا قِيلَ لَهُمْ قُومُوا مَغْفُورًا لَكُم »، ومَجَالِسُ الذِّكْرِ هِيَ المجالسُ التي تُذَكِّرُ بِالله وبآياتهِ وأحكامِ شرعهِ ونحو ذلك.

[3] في الصحيحين عن أبي هريرة أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « مَنْ غَدَا إلى المسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللهُ له في الجنةِ نُزُلًا كُلَّمَا غَدَا أو رَاحَ »، وفي صحيح مُسْلِمٍ عَنْه أيضًا أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: « مَنْ تَطَهَّرَ في بيتهِ ثُمَّ مَضَى إلى بيتٍ مِنْ بيوتِ الله لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ الله كانتْ خُطُواتُه: إِحدَاها تَحطُّ خَطِيئَةً، والأُخْرَى تَرْفَعُ دَرجةً ».

[4]رَوَى البخاريُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ في صَلَاةٍ مَا دَامَتِ الصلاةُ تَحْبِسُه، لا يَمْنَعُه أَنْ يَنْقَلِبَ إِلى أهلهِ إلا الصلاةُ ».

ورَوَى البُخَاريُّ عَنه أنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « الملائكةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكم مَا دامَ فِي مُصَلَّاهُ الذي صَلَّى فيه، مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللهُمَّ ارْحَمْه».

[5]، (4) رَوَى البخاريُّ ومُسْلِمٌ عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لعلي بنِ أبي طالبٍ: « فوالله لأنْ يَهْدِي اللهُ بك رَجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النِّعَمِ ».

رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « مَنْ دَعَا إلى هُدَى كَانَ لَه مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَه، لا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهم شيئًا».

[6]رَوَى التِّرْمِذِيُّ وصحَّحَه الألبانيُّ عن أبي أمامةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « إنَّ اللهَ وملائكتَه، حتى النملةَ فِي جُحْرِها، وحتى الحوتَ في البحرِ لَيُصَلُّون عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخيرَ »، وَصلاةُ الملائكةِ الاسْتِغْفَارُ.

[7] مسلم في الأيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه (3/ 1284) (1663).

[8] انظر: شفاء العليل (ص: 280).

[9] البخاري في الرقاق، باب التواضع (5/ 2384) (6137).

[10] شرح العقيدة الطحاوية (ص: 403).

[11] الأسماء والصفات للبيهقي (ص: 67).

[12]صحيح: أخرجه البخاري (2443، 2444) في المظالم، باب: أعن أخاك ظالمًا أو مظلومًا، من حديث أنس ت.

[13]صحيح: أخرجه البخاري (498) في الصلاة، باب: تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، ومسلم (2585) في البر والصلة، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، من حديث أبي موسى ت.

[14] الأسني في شرح أسماء الله الحسنى للقرطبي (1/ 303).

[15] رواه البخاري (6502).

[16] جامع البيان (3/ 15).

[17] المصدر السابق (5/ 75).

[18] المصدر السابق (9/ 103).

[19] تفسير الأسماء ( ص: 55).

[20] شأن الدعاء (ص: 78).

[21]المنهاج (1/ 204)، وذكره ضمن الأسماء التي تتبع إثبات التدبير له دون ما سواه، ونقله البيهقي في الأسماء (ص: 67)، وانظر: الاعتقاد (ص: 62).

[22] المقصد الأسني (ص: 82).

[23] جامع البيان (3/ 106).

[24] شأن الدعاء (ص: 101).

[25] الكتاب الأسني (ورقة 335 أ)، ولم أجده في المنهاج، ونقله عنه البيهقي في الأسماء (ص: 68) بعد أن ذكر ( الولي ).

[26] رواه البخاري (7/ 349-350).

[27] زاد المعاد (1/ 37).

[28] اشتقاق الأسماء (ص: 114)، وانظر كذلك: الكتاب الأسني (ورقة 334 أ ـ ب).

[29] بدائع الفوائد (2/ 22-23).

[30] جامع البيان (7/ 140).

[31]دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب (ص: 116) للعلامة محمد الأمين الشنقيطي / .

[32] انظر: في تفصيل هذا الموضوع كتاب: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لشيخ الإسلام ابن تيمية الدمشقي.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
إعراب كلمات يكثر السؤال عن إعرابها (PDF)
إتقان العمل (بطاقة دعوية)