بقية العشر ويوم النحر وأيام التشريق (خطبة)


بقية العشر ويوم النحر وأيام التشريق

 

أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].

 

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، مَا زِلنَا في أَيَّامٍ هِيَ أَفضَلُ الأَيَّامِ، وَالأَعمَالُ الصَّالِحَةُ فِيهَا أَحَبُّ إِلى اللهِ مِنهَا في غَيرِهَا، مِنَّا مَن صَامَ وَصَلَّى وَقَامَ، وَمِنَّا مَن تَصَدَّقَ وَبَذَلَ وَأَنفَقَ، وَمِنَّا مَن لَهَجَ لِسَانُهُ بِالذِّكرِ وَالدُّعَاءِ عَلَى كُلِّ أَحوَالِهِ، وَمِنَّا مَنِ اشتَغَلَ بِالدَّعوَةِ إِلى اللهِ وَنَشرِ العِلمِ بِلِسَانِ حَالِهِ وَمَقَالِهِ، وَمِنَّا مَن وَفَّقَهُ اللهُ فَخَرَجَ حَاجًّا بَيتَ اللهِ، وَكُلُّ أُولَئِكُم قُرُبَاتٌ وَأَعمَالٌ صَالِحَاتٌ، لا يُوَفَّقُ إِلَيهَا إِلاَّ مَن أَرَادَ وَجهَ اللهِ وَالدَّارَ الآخِرَةَ، وَاللهُ لا يُضِيعُ أَجرَ مَن أَحسَنَ عَمَلاً، وَلا يُخَيِّبُ مَن عَظُمَ فِيهِ أَمَلُهُ وَامتَدَّ رَجَاؤُهُ، قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: “عَلَيكَ بكَثرَةِ السُّجُودِ للهِ، فَإِنَّكَ لا تَسجُدُ للهِ سَجدَةً إِلاَّ رَفَعَكَ اللهُ بها دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنكَ بِهَا خَطِيئَةً”؛ رَوَاهُ مُسلِمٌ. وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: “أَحَبُّ الكَلامِ إِلى اللهِ أَربَعٌ: سُبحَانَ اللهِ، وَالحَمدُ للهِ، وَلا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللهُ أَكبَرُ، لا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأتَ”؛ رَوَاهُ مُسلِمٌ. وَعَن أَبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: “مَا أَهَلَّ مُهِلٌّ قَطُّ إِلاَّ بُشِّرَ، وَلا كَبَّرَ مُكبِّرٌ قَطُّ إِلاَّ بُشِّرَ” قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِالجَنَّةِ؟! قَالَ: “نَعَمْ”؛ رَوَاهُ الطَّبَرَانيُّ وَغَيرُهُ وَقَالَ الأَلبَانيُّ: حَسَنٌ لِغَيرِهِ. وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: “مَن تَصَدَّقَ بِعَدلِ تَمرَةٍ مِن كَسبٍ طَيِّبٍ، وَلا يَقبَلُ اللهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ، فَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُم فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثلَ الجَبَلِ”؛ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ. وَعَن أَبي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قُلتُ يَا رَسُولَ اللهِ، مُرْني بِعَمَلٍ. قَالَ: “عَلَيكَ بِالصَّومِ فَإِنَّهُ لا عَدلَ لَهُ” قُلتُ يَا رَسُولَ اللهِ، مُرْني بِعَمَلٍ. قَالَ: “عَلَيكَ بِالصَّومِ فَإِنَّهُ لا عَدلَ لَهُ”؛ رَوَاهُ النَّسَائيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ. وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: “مَن حَجَّ فَلَم يَرفُثْ وَلم يَفسُقْ رَجَعَ كَيَومَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ”؛ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

 

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، غَدًا يَومُ عَرَفَةَ، وَمَا أَدرَاكُم مَا يَومُ عَرَفَةَ، إِنَّهُ اليَومُ المَشهُودُ، الَّذِي أَكمَلَ اللهُ فِيهِ الدِّينِ وَأَتَمَّ عَلَى عِبَادِهِ النِّعمَةَ، يَومٌ يُبَاهِي اللهُ تَعَالى فِيهِ مَلائِكَتَهُ بِعِبَادِهِ في الأَرضِ، وَيَغِيظُ أَكبَرَ أَعدَائِهِم وَأَعظَمَهُم شَرًّا وَهُوَ إِبلِيسُ، بِمَا يُعتِقُهُ فِيهِ مِن رِقَابِهِم وَمَا يُقِيلُهَ مِن عَثَرَاتِهِم، وَمَا يَغفِرُهُ مِن سَيِّئَاتِهِم وَيَمحُوهُ مِن زَلاَّتِهِم، عَن عَائِشَةَ رضي اللهُ عَنهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَا مِن يَومٍ أَكثَرُ مِن أَن يُعتِقَ اللهُ فِيهِ عَبدًا مِنَ النَّارِ مِن يَومِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدنُو ثم يُبَاهِي بهم المَلائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ”؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. إِنَّهُ يَومُ التَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ، قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: “خَيرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَومِ عَرَفَةَ، وَخَيرُ مَا قُلتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِن قَبلِي: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ”؛ رَواهُ التَّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الألبَانِيُّ. فَحَقٌّ عَلَى المُسلِمِينَ أَن يُعَظِّمُوا يَومَ عَرَفَةَ وَأَن يَصُومُوهُ؛ لِيَسعَدُوا مِن رَبِّهِم بِتَكفِيرِ ذُنُوبِهِم سَنَتَينِ كَامِلَتَينِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: “صِيَامُ يَومِ عَرَفَةَ أَحتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتي بَعدَهُ”؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

 

أَيُّهَا المُؤمِنُونَ، وَبَعدَ عَرَفَةَ تُختَمُ العَشرُ بِيَومٍ عَظِيمٍ هُوَ يَومُ النَّحرِ، الَّذِي هُوَ أَحَدُ عِيدَينِ عَظِيمَينِ، لَيسَ لِلمُسلِمِينَ عِيدٌ شَرعِيٌّ سِوَاهُمَا، عَن أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَدِمَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ وَلَهُم يَومَانِ يَلعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ: “مَا هَذَانِ اليَومَانِ؟!” قَالُوا: كُنَّا نَلعَبُ فِيهِمَا في الجَاهِلِيَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: “قَد أَبدَلَكُمُ اللهُ بِهِمَا خَيرًا مِنهُمَا: يَومَ الأَضحَى وَيَومَ الفِطرِ”؛ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ. وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: “أَعظَمُ الأَيَّامِ عِندَ اللهِ يَومُ النَّحرِ ثم يَومُ القَرِّ”؛ رَوَاهُ الإِمامُ أَحمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ. وَيَومُ القَرِّ هُوَ الحَادِيَ عَشَرَ، وَهُوَ أَوَّلُ أَيَّامِ التَّشرِيقِ الثَّلاثَةِ، الَّتي قَالَ فِيهَا النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: “أَيَّامُ التَّشرِيقِ أَيَّامُ أَكلٍ وَشُربٍ وَذِكرِ اللهِ”؛ رَوَاهُ مُسلمٌ.

 

إِنَّهَا أَيَّامٌ عَظِيمَةٌ، وَمَوَاقِيتُ لِلطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ، فَاحمَدُوا اللهَ تَعَالى عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيكُم وَاشكُرُوهُ، وَاعمُرُوا أَوقَاتَكُم بِطَاعَتِهِ وَاذكُرُوهُ، وَصُومُوا يَومَ عَرَفَةَ، وَاشهَدُوا صَلاةَ العِيدِ، وَضَحُّوا وَكُلُوا وَاشرَبُوا وَأَكثِرُوا مِن ذِكرِ اللهِ وَعَظِّمُوا شَعَائِرَهُ ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الحج: 32 – 37].

 

الخطبة الثانية

أمَّا بعدُ، فاتَّقوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاشكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ وَفَضلِهِ وَلا تَكفُرُوهُ ﴿‌ وَاتَّقُوا ‌اللَّهَ ‌وَاعْلَمُوا ‌أَنَّكُمْ ‌مُلَاقُوهُ ﴾ [البقرة: 223].

 

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ ذَبحَ الأَضَاحي في يَومِ العِيدِ وَأَيَّامِ التَّشرِيقِ، إِنَّهُ لَمِن أَعظَمِ شَعَائِرِ الدِّينِ وَأَجَلِّ القُرُبَاتِ، قَالَ سُبحَانَهُ: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163]، وقال تعالى: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ وَقَد قَالَ بِوُجُوبِ الأُضحِيَةِ عَلَى المُقتَدِرِ عَدَدٌ مِنَ العُلَمَاءِ؛ لِقَولِهَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: “مَن كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلم يُضَحِّ فَلا يَقرَبَنَّ مُصَلاَّنَا”؛ رَوَاهُ ابنُ مَاجَه وَحَسَّنَهُ الألبَانِيُّ. فَاحرِصُوا رَحِمَكُمُ اللهُ عَلَى الأُضحِيَةِ، وَلا يَمنَعَنَّكُم مِنهَا أَن تَرتَفِعَ أَسعَارُهَا فَتَجعَلُوا ذَلِكَ مُسَوِّغًا لِتَركِهَا، فَإِنَّنَا نَرَى في الوَاقِعِ أَموَالاً كَثِيرَةً تُنفَقُ وَتُهدَرُ لِتَحقِيقِ رَغَبَاتِ النُّفُوسِ وَتَحصِيلِ مُشتَهَيَاتِهَا، وَالظُّهُورِ أَمَامَ النَّاسِ بِالمَظَاهِرِ الَّتي لا غَايَةَ لَهَا إِلاَّ استِجلابُ مَدحِهِم وَثَنَائِهِم، في أَسَفارٍ أَو وَلائِمِ تَفَاخُرٍ وَتَكَاثُرٍ، أَوِ استَجَابَةً لِنِدَاءِ القَبِيلَةِ أَو حَيَاءً مِنَ العَشِيرَةِ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ، وَتَعَلَّمُوا أَحكَامَ الأُضحِيَةِ وَضَحُّوا وَكُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَأَهدُوا، وَأَطعِمُوا الطَّعَامَ وَأَلِينُوا الكَلامَ وَصِلُوا الأَرحَامَ، وَاجعَلُوا مِن أَيَّامِ عِيدِكُم أَيَّامَ طَاعَةٍ وَتَوَاصُلٍ وَتَرَاحُمٍ وَتَزَاوُرٍ وَاجتِمَاعٍ عَلَى مَا يُرضِي اللهَ.





Source link

أترك تعليقا
مشاركة
الخصائص العلية للأمة الإسلامية (خطبة)
مكتبه السلطان – كتب مسموعة // كتاب لا تكن لطيفاً أكثر من اللازم // كتب صوتية ( خير جليس جيل يقرأ )