“بواكير حركة الترجمة في الإسلام” (2)
قراءة مختصرة لكتاب: “بواكير حركة الترجمة في الإسلام” (2)
للدكتور عبدالحميد عبدالمنعم مدكور
الترجمة في عصر الدولة الأموية (40 – 132 هـ):
إذا كان العصرُ السابق قدْ خلا مِن الترجمة، فإنَّ هذا العصر قد شهِد “ولادة” هذه الترجمة، ولدينا شهادات بذلك من مصادرَ متعدِّدة ومتنوِّعة: أدبية، وتاريخية، بل لدينا شهادات برؤية بعض ثمارها رؤيةَ عين.
وليس لنا أن نتوقَّع أن تكون هذه الترجمات مِن الكثرة والشمول والنضج بحيث تُقارَن بالترجمات التي تمَّتْ في العصر العباسي، فإنَّ البداياتِ لا ترتقي لنتائج المراحِل المتعاقبة عليها.
ويمكن القول بأنَّ وجود الترجمة في هذا العصر، قد جاء موازيًا لما شهدته الحركة العلمية فيه من نُضج شمِل كثيرًا من جوانبها الدِّينيَّة والتاريخيَّة والأدبيَّة، ومعنى ذلك أنَّ النهضة في مجال العلوم الإسلاميَّة والعربيَّة قد ساعدتْ على التطلُّع إلى معرفة تُراث الأمم الأخرى، وهيَّأتِ البيئة من الناحية الثقافيَّة والنفسيَّة لاستقبالها والتفاعُل معها، كما وضعتِ الأساس لنهضتِها في مراحلَ تالية.
وما دُمنا نتحدَّث عن مرحلة البداية، فإنَّ علينا ألا نستغرب إذا ما وجدْنا أنَّ المعلوماتِ التي تقدِّمها لنا المصادر تتَّسم بكثير من النقص والإبهام، حتى إنَّ كتابًا واحدًا تُرجم في الطب – وهو كتاب اهرن القس – من السريانية إلى العربية قدِ اختلف في اسم مترجمه، فهو عندَ البعض ماسرجويه، وماسرجيس عند بعضهم، كما اختلفوا في تحديدِ الفترة التاريخيَّة التي أنجز فيها الترجمة، وهذا كله يدلُّنا على الغموض الذي انتاب تأريخ الترجمة في تلك الحِقبة الهامة.
وكان مِن أشهر مَن اهتمَّ بترجمة الكتب في العصر الأُموي خالد بن يزيد بن معاوية (توفي ما بين 82 -90هـ)، يقول عنه ابن النديم في الفهرست: “كان خالدُ بن يزيد بن معاوية يُسمَّى حكيمَ آل مرْوان، وكان فاضلاً في نفسه، وله همَّة ومحبَّة للعلوم، خطَر بباله الصنعة [الكيمياء]، فأمر بإحضار جماعة مِن فلاسفة اليونانيِّين، ممن كان ينزل مدينة مصر، وقد تفصَّح بالعربية، وأمرهم بنقْل الكتب في الصنعة مِن اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي، وهذا أوَّل نقْل كان في الإسلام مِن لُغة إلى لُغة”.
وإذا كان نص ابن النديم يُشير إلى الترجمة التي كانتْ في مجال الكيمياء، فإنَّ لدى ابن النديم وغيره نصوصًا أخرى تكشف عن اهتمامِ خالد بالترجمة في مجالات أخرى غير الكيمياء، فيقول ابن النديم عن خالد بن يزيد: “وهو أوَّل مَن تُرجِم له كتب الطب والنجوم وكتب الكيمياء”، وهو قول الجاحِظ في “البيان والتبيين”.
ويقول ابن أبي الحديد في شرْح نهج البلاغة عن خالد: “وكان أوَّل مَن أعطى التراجمة والفلاسفة وقرَّب أهل الحِكمة، ورؤساء أهل كلِّ صنعة، وترجم كتب النجوم والطب والكيمياء والحروب والآداب والآلات والصنائع”.
وبغضِّ النظر عن التسليم للنتائج المستنبطَة مِن نص الجاحِظ، فإنَّ تشجيع خالد بن يزيد للترجمة والمترجمين – عن طريق الدَّعْم – قد أعان على تثبيتِ أقدام هذه الظاهِرة الجديدة الناشئة، وحمايتها مِن مقاومة المجتمع لها إلى حدٍّ كبير، ومنح أصحابها مِن المكانة ما يتناسب مع الانتساب إلى هذا الأمير الذي يتمتَّع بتقدير الخليفة، ويحْظَى بمكانة في المجتمع، فما كان لهؤلاء المترجمين أن يجتمعوا ويمارسوا نشاطَهم لولا رعايةُ خالد لهم.
وقدْ جاءتْ بعض الترجمات في مكانٍ آخَر، ولأغراض أخرى، ففي وقتٍ مقارب للوقت الذي تمَّتْ فيه الترجمات لخالد بن يزيد وقعتْ ترجمة أخرى في مصر أثناء ولاية عبدالعزيز بن مرْوان.
يذكر ساويرس بن المقفع أنَّ الأصبغ بن عبدالعزيز بن مرْوان كان يلي كثيرًا مِن أمور مصر في ولاية أبيه، فأمَر بتفسير الإنجيل إلى العربيَّة، ومعه الأرطستكات لتقرأَ عليه، فينظر هل فيهم سبٌّ للمسلمين؟
وواضح الغرَض مِن نوعية تلك الترْجمة، وتكمُن أهميتها في أنها ربَّما كانتِ المرة الأولى التي تتمُّ فيها ترجمة الإنجيل إلى العربيَّة، وهي التي تمَّت على يدِ بنيامين عامل الأصبغ كما يذكُر ساويرس بن المقفع، وهذا يُعطيها أهميةً كبرى من حيث تاريخها.
فإذا تقدَّمْنا نحوَ أواخر الدولة الأُمويَّة، فسنجد أنَّ المصادر والمراجع تحدِّثنا عن وقوعِ بعض الترجمات في عهدِ هِشام بن عبدالملك (ت 125هـ)، وقد جاءتْ هذه الترجمات في فروع مختلفة، منها التاريخ، حيث كان في مكتبة هِشام كتاب يرْوي تاريخ الساسانيِّين، ويتحدَّث عن طُرقهم في الحُكم، وعن علومهم، وقد تُرجِم إلى العربية في أيَّامه.
ومنها كذلك في الفلك، الذي تُرجِم فيه كتابٌ يتحدَّث عن تحويل سِني العالَم، وما فيها من الأحكام النجوميَّة، ووجدْنا أحد النقلة من اللسان الفارسي إلى العربي – كما يقول ابنُ النديم – وهو جبلة بن سلمة كاتِب هشام – يقوم بترجمة كُتب في السِّيَر والأسمار المعقولة، التي لا تجري مجرَى الخرافات، ومنها كتاب: رستم وإسفنديار، وكتاب بهرام شوس، وكان من أهمِّ ما ترْجَمه – كما يقول ابنُ النديم – أنَّه نقَل من رسائل أرسطاليس إلى الإسكندر، ونقَل له، وأصلح هو الرسائل، مجموعها نحو مائة ورقة.
فيتضح ممَّا سبَق أنَّ بعض الترجمات بالفِعل قد أُنجزِتْ في عهد الدولة الأمويَّة، وقد جاءتْ هذه الترجمات في مجالات متعدِّدة؛ كالكيمياء، والطب، والفلك، والتاريخ، والسياسة، والمعارف الدِّينيَّة والوصايا الأخلاقيَّة، ثم كانتْ هذه الترجمات من لُغات مختلفة؛ كاليونانيَّة، والسريانيَّة، والفارسيَّة، والقبطيَّة.
وإذا كانتِ المصادر والمراجِع قد حدثتْنا صراحةً عن بعض الترجمات، وبعض أسماء المترجِمين، وعن الأزمنة التي تمَّت فيها، ولو على وجهِ التقريب، فإنَّه ينبغي ألا يكون ذلك مدعاةً إلى الاعتقاد بأنَّ هذه هي الترجمات الوحيدة التي تمَّتْ في العهد الأُموي، بل إنَّه يُمكن القول – على الرغم من صَمْت المصادِر – بأنَّ هناك ما يدلُّ على وجود ترجمات أخرى، وإنْ لم نعلمها على وجه التحديد.
فليس مِن المستبعَد أن يكون عبدالله بن المقفع – المترجِم – الذي عاش أكثرَ عمرِه في ظلِّ الدولة الأموية قد أنْجَز بعض التراجم في العهد ذاته.
كما تُوحي بعضُ النصوص بأنَّ الترجمة قد وُجِدت في القرن الأول، وإن لم تشتهرْ كما وقع بعدَ ذلك، فالحاصل مِن هذا كله – كما ذكَر السيوطي وغيره -: أنَّ علوم الأوائل دخلتْ إلى المسلمين في القرن الأول، لما فتحوا بلادَ الأعاجم، ولكنَّها لم تكثرْ فيهم، ولم تشتهرْ بينهم؛ لما كان السَّلَف يمنعون مِن الخوض فيها.
وليس يَعْني هذا مطلقًا أنَّ الترجمة في عهدِ الدولة الأُموية قد وصلتْ في نموِّها وازدهارها وأشكالها إلى ما بلغتْه الترجمة في عهد الدولة العباسيَّة، فهذا ما لا يتَّفق مع منطق التطوُّر الذي تخضع له كثير من الظواهر الاجتماعيَّة والإنسانيَّة، وهو تطوُّر تدريجيٌّ عادة.
ويُمكِن القول بأنَّ قلَّة المحصول الأوَّل ليستْ ممَّا يُثير الدهشة، بل هي أمرٌ طبيعي يتَّفق مع طبيعة البداية غالبًا، ولقد مثَّلت الدولة الأُموية فترةَ التأسيس والتمهيد وارتياد الطريق، وخاضتْ طريقًا مليئًا بالصعوبات والعقبات، ووضعتْ بالجهود التي تمَّت فيها أساسًا لصَرح الترجمة، الذي نما وازدهر في عصر الدولة العباسيَّة، وهي – أي: الدولة الأموية – جديرةٌ – بهذه الرُّوح الرائدة، وبما أثمرتْه من ثمرات في حقْل الترجمة – بأن يكون لها مكانٌ مناسب عندَ الحديث عن حرَكة الترجمة في الإسلام، دون تجاهُل أو إهمال.
آخِر الكتاب، وهو مِن مطبوعات مؤسسة دار السلام بالقاهرة.
والحمد لله ربِّ العالمين