بيان قدر ليلة القدر


بيان قدر ليلة القدر

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعد:

فاعلم – أخي المسلم – أن الله عز وجل إذا عظَّم شيئًا لا ينبغي لمؤمنٍ أن يتجاهل هذا التعظيم لهذا الشيء من الله العليِّ العظيم، فمن نقصان العقل أن يستقبل ما عظَّمه الله بعدم المبالاة به، أو قلة المبالاة به.

 

والذي ينبغي على المؤمن أن يُجِلَّ ويُعَظِّم ما عظَّمه الله تعالى؛ فذلك من تعظيم الله وقدره حقَّ قدره عز وجل، ومن نَقَصَ عنده تعظيم هذا الشيء، فقد نقص عنده تعظيم من عظَّم هذا الأمر.

 

ومما عظَّمه الله في كتابه ليلة القدر، بل قد عظَّم رمضان لوجود ليلة القدر فيه، وعظَّم ليلة القدر لإنزال كتابه فيها.

 

فلنقف معًا مع آيات من القرآن تبين تعظيم الله تعالى لهذه الليلة العظيمة:

يقول الله عز وجل في سورة القدر: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]، ففي هذه الآية ذكر الله تعالى أعلى فضيلة لليلة القدر؛ وهو أنه سبحانه وتعالى اختصها بإنزال القرآن الكريم فيها، فأنزل فيها خير كتاب، فكان من بركات نزوله أنْ جعل هذه الليلة عظيمة إلى يوم القيامة، فكيف لا تكون عظيمة، ولم ينزل الله أمرًا من عنده إلى الناس أعظمَ من القرآن الكريم؟!

 

كيف لا تكون عظيمة، وقد أنزل الله فيها الكتاب الذي سيكون سببَ دخول أمة محمد صلى الله عليه وسلم الجنة، وهم ثلثا سكانها؟!

 

كيف لا تكون ليلة عظيمة، وقد أُنزِل فيه الذكر الحكيم، والنور المبين، والقول الفصل، وخير الكلام؟!

 

كيف لا تكون عظيمة، وقد أُنزل فيها جامع العلوم، الذي حوى نبأ مَن قبلنا، ومَن بعدنا إلى يوم القيامة، وإلى مستقر الفريقين في الجنة والنار؟!

 

كيف لا تكون عظيمة، وقد أُنزل فيها الكتاب الذي حوى ما أُنزل من قبل من الكتب وزاد عليها؟!

 

كيف لا تكون عظيمة، وقد أُنزل الشرف العظيم، والخير العميم، والحجة البالغة، والكلام الأوفى، وأصفى منهل، وأجزل عطية على الإطلاق؟!

 

نعم، تأمل – يا أخي – هذا الفضل لهذه الليلة؛ حيث بدأت فيها السعادة لأمة آخر الزمان، وكانت نقطة تحوُّلٍ لا تعرف السماء ولا الأرض ومن فيهما لها مثيلًا منذ خُلقوا إلى الآخرة.

 

نعم، والله لا يُعرَف زمن في الدنيا أجلُّ من هذا الزمن، ولا أعلى منه، ولا أغلى منه، ولا أرفع منه، زمن كان فيه الفصل الأعظم في هذه الحياة، حتى السماء في تلك الليلة امتلأت حرسًا شديدًا وشهبًا، فلم يسترقِ السمعَ شيطانٌ بعدها إلا أُحرِق بشهاب، كذلك ما من باطل في هذه الحياة إلا وفي هذا الكتاب الحكيم الشُّهُب التي تحرقه وتمحقه وتُزْهِقه.

 

نعم، كانت نقطة تحول سماوية وأرضية، كذلك نقطة تحول دينية ودنيوية؛ فلا يُعرَف دين ولا شريعة أجلُّ من شريعة الإسلام، ولا تُعرَف نهضة للأمم في المجال الدنيوي إلا بعد نزول هذا الكتاب العظيم.

 

أما الآخرة، فسيبين أثر هذا الكتاب حين يشرِّف الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم، وتشرف به أمته، وتكون هذه الأمة شهداء على الناس يوم القيامة؛ بسبب هذا الكتاب العظيم، نعم سَيَبِين أثره حين يرتقي قارئه، سيبين أثره حين يأتي محاججًا عن أهله، سيبين أثره في الجنة حينما يكون أكثر أهلها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، سيبين أثره في النار حينما يكون مصير من كذَّبه من المنافقين والكافرين النارَ والخزيَ العظيم.

 

وفي إنزال الله تعالى لهذا الكتاب في ليلة إشارةٌ إلى أن الناس كانوا في ظلمة، فأنار الله لهم بكتابه الذي هو النور المبين؛ فأخرج به الناس من الظلمات إلى النور.

 

وجعل الله لهذه الليلة وصفًا لا يفارقها؛ وهي أنها ليلة القدر؛ وتعني ليلة العظمة، وليلة ذات قدر عظيم، ومن عظمتها أن جميع أقدار الناس للسنة القادمة تُقدَّر فيها.

 

ثم إن الله تعالى شوَّق لمعرفة قدرها ومعرفة عظمتها؛ فقال: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 2]، وهذا تشويق لمعرفة قدرها الذي بيَّن الله عظمته في كتابه، فقال عز وجل: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 3]؛ خير من عمل ألف شهر بُذِلت في الأعمال الصالحة، خير من ألف شهر بقيامها وصيامها، وزكاتها وحجِّها وجهادها، وجميع أعمال البر والتقوى فيها من أذكار وصدقات وغيرها.

 

نعم، فمن حقها أن تكون لها هذا الفضيلة العظيمة؛ حيث أُنزِل فيها كتاب جُعِل سعادة للناس إلى آخر الدهر، فخيرُهُ في الأمة يُنهَل منه منذ أربعمائة وألف سنة، فخيره سعد به الناس ليس في ألف شهر، بل عشرات الآلاف من الشهور، وسيسعد به إلى المستقر الأخير للصالحين في الجنة.

 

ثم قال عز وجل: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾ [القدر: 4]؛ يعني إن جبريل عليه السلام والملائكة تنزل معه في تلك الليلة، فسبحان الله! تأمل يا أخي، اختار الله في هذه الليلة نزول أعظم كتاب، ونزول أعظم مَلَكٍ عند الله، واللهُ في تلك الليلة ينزل كما ينزل في كل ليلة، وهو العلي العظيم جل جلاله، وتقدست أسماؤه وصفاته، وتمتلئ الأرض بالملائكة حتى يكونوا أكثر من عدد الحصى، نعم، تأمل هذا، الملائكة تلك الأرواح الطيبة أكثر من عدد الحصى، كل حصى الدنيا.

 

فلا يُعرَف وقت أجلُّ من هذا الوقت؛ السماء فيها ذو الجلال والإكرام، والأرض فيها جبريل الأمين، والملائكة تملؤها إيمانًا وذكرًا، وتسبيحًا وتعظيمًا لله، وتعظيمًا لتلك الليلة، وهناك من عباد الله تعالى ممن يزين تلك الليلة بقيامه وتلاوته للقرآن الكريم.

 

واهًا لهذا الوقت ولمجيئه وإدراكه!

واهًا لعبد اغتنم هذه الليلة وجعلها في طاعة وعبادة!

آهٍ على من فاته هذا الزمن بغير الطاعات!

آهٍ على من فرَّط بساعاته ولحظاته!

 

إن الموفَّق بحقٍّ من سعى لاغتنامها بالخير والعمل الصالح، وإن المخذول ذاك الذي لم يبالِ بها، وسعى وراء لهوِه وغفلاته.

 

تأمل يا عبد الله هذا، تأمل رحمك الله مَن الذي نزل في هذه الليلة؛ إنه الله وجبريل والملائكة، في هذه الليلة يكثر أهل الحق في الأرض؛ حتى لا يبقى للكافرين ولا المنافقين ولا الشياطين أي عدد يُذكر، مقارنة بالملائكة الذين عددهم أكثر من الحصى.

 

إنها ليلة طيبة، طاب فيها الحق وأهله، وأُخزِي فيها الباطل وأهله.

 

وفي اختصاص جبريل بالذكر؛ وذلك لعظمته، ولأنه كان الأمين على القرآن وإيصاله لمحمد صلى الله عليه وسلم، فخُصَّ بالذكر لأنه نزل بسبب شرف هذه الليلة؛ وهو القرآن الكريم، كان هو مبلِّغه للنبي صلى الله عليه وسلم.

 

فكان من حقه أن يُخصَّ بالذكر عن باقي الملائكة، وأن ينزل في كل ليلة قدر بهيئة عظيمة، بملائكة لا يحصيهم إلا الله وحده.

 

ولا يُعرَف مخلوق يأتي بمثل هذه الهيئة ويكون قائدها ومعه هذا العدد الكبير من الملائكة، إلا جبريل عليه السلام.

 

فيزيده الله شرفًا إلى شرفه، وسؤددًا إلى سؤدده، وذلك ببركة تنزُّله بالذكر الحكيم على النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

 

فانظروا لبركة كتاب الله، كيف شرَّف به أزمنة وملائكة ونبيه وأمة محمد صلى الله عليه وسلم؟!

 

فكان أعظمَ كتاب نزل به أعظمُ مَلَكٍ على أعظم نبي لهداية أعظم أمة؛ فكان كتاب الله عز وجل كما قال: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ﴾ [ص: 29]، فحلَّت بركته في السماء والأرض، وعلى كل ما تعلق بنزوله من زمان ومكان ومخلوقات.

 

وقال عز وجل: ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 5]؛ فهي ليلة سلام نَزَلَ من السماء إلى الأرض؛ فلا يُصاب أحدٌ من المؤمنين بمرض سببه الشياطين، فهي مقيدة في شهر رمضان، وتكون في تلك الليلة أشد تقييدًا وصَغارًا، فالأرض والسماء قد مُلِئت بالأرواح الطيبة؛ فتكون الأرواح الشيطانية في أتم خزيٍ وبوارٍ لأمرها.

 

وقوله تعالى: ﴿ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 5] فيه دلالة على أن جميع الليلة من وقت غروب الشمس إلى طلوع الفجر وقت فضيلة لها، وعليه فينبغي على المؤمنين ألَّا يَكلُّوا عن العمل الصالح فيها من وقت الغروب إلى طلوع الفجر، وأكثر الناس تغفُل عن أكثر الليلة وتخصص جزءًا منها بالقيام وقراءة القرآن؛ وقد جاء الشرع بترقب أوقات غفلات الناس، وأن يتحراها المسلم بالعمل الصالح، فتلتمس ليلة القدر بالذكر والدعاء وحتى الصدقات، وغيرها من الطاعات من أول وقتها إلى نهايته.

 

ثم اعلم أخي أن هذا السورة احتوت فوائد شرعية عديدة؛ منها:

أن ترتيب هذه السورة بين سورة العلق وسورة البينة له دلالة عظيمة؛ حيث لها ارتباط بسورة العلق في أول ما أنزل من القرآن؛ ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، وقد دلت الأدلة أيضًا على أن نزول سورة العلق كان في آخر رمضان في غار حراء في ليلة القدر، وأما تقدمها لسورة البينة؛ ففيه إشارة إلى أن البينة التي لولاها لبقِيَ الكفار على دينهم هي النبي صلى الله عليه وسلم، الذي ﴿ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ﴾ [البينة: 2، 3]، التي كانت ليلة القدر أول نزولها عليه، وفيها صار محمد نبيًّا من عند الله عز وجل، ففي ليلة القدر كان نزول البيان من الله عز وجل الذي لا شيء أبْيَن منه.

 

أن اختصاص هذه الليلة بسورة من القرآن يدل على عظمتها وعلوِّ شأنها عند الله تعالى.

 

أن القرآن الكريم الذي أُنزل فيها نور مبين؛ فكان من بركة نوره أن تكون من علامات ليلة القدر أنها ليلة مشرقة مضيئة، تملأ أنوارها السهول والجبال، والوديان والشِّعاب.

 

أن نزول الملائكة الذين خُلِقوا من نور، يناسب نزول القرآن الذي هو النور المبين، ونورهم سبب في إنارة وسطوع ليلة القدر.

 

من بركة نور القرآن ونور الملائكة أن تشرق الشمس صبيحة ليلة القدر ذات نور، وليست ذات إشعاع، فشملت بركة نور ليلة القدر الشمسَ في أول طلوعها.

 

ثبت عن ابن عباس أن القرآن أُنزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا، وكان هذا في ليلة القدر؛ وعليه فمن التمسها وهو مؤمن بالكتاب جملة واحدة، فيصح التماسه لها، أما الذي يؤمن ببعضه ويشك أو يكفر ببعضه، فعليه تصحيح إيمانه قبل أن يلتسمها؛ فقد شرفت ليلة القدر بإنزال القرآن جملة واحدة فيها.

 

أن الله تعالى ذكر النزول بصيغة التوكيد والتعظيم؛ فقال: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ﴾ [القدر: 1]؛ ليظهر للناس أنها ليلة عظمت بإنزال القرآن الذي عظَّم الله نزوله، فعظَّم به ذلك الوقت الذي أُنزل فيه.

 

اختيار وقت الليل لإنزال القرآن الكريم؛ لأنه وقت سكينة، فناسب أن القرآن سكينة لقلوب الناس.

 

اختيار وقت الليل لإنزال القرآن جملة واحدة فيه إشارة أن الناس كانوا غافلين، كما أن الليل وقت غفلة عند كثير من الناس؛ فجاء القرآن في زمن غفلة كبيرة من الناس.

 

لا يوجد في القرآن أجرٌ ذُكر أنه خير من عدد معين من الأزمنة إلا أجر ليلة القدر؛ وذلك لرفعة قدرها عنده عز وجل.

 

أن الله تكفل ببيان الأجر المترتب لمن التمسها بالعمل الصالح؛ من أجل ألَّا يُحرَم خيرها إلا محروم؛ فالقرآن يسمعه كل مسلم، ولو كان بيان أجرها بالسُّنَّة فقط، لَعلِمه بعض الأمة وجهله البعض، مع أن السُّنَّة زادت ذكر فضيلة لليلة القدر؛ وهي أن ((من قامها إيمانًا واحتسابًا، ثم وُفِّقتْ له، غُفر له ما تقدم من ذنبه)).

 

أن أجر ليلة القدر هذا خُصَّت به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأما ليلة القدر فكانت موجودة مع الأنبياء وأتباعهم من لدن آدم إلى يوم القيامة.

 

خُصَّتْ الأشهر بالذكر دون الأعوام؛ لأن من أشهر السنة أشهرًا خيرًا من أشهر أخرى، وتتفاضل فيما بينها على مر السنين، أما الأعوام فتتساوى بينها غالبًا، فناسب ذكر خيرية ليلة القدر على الألف شهر.

 

أن أجلَّ أعمال ليلة القدر هو القيام لله تعالى في الصلاة؛ وذلك لأن عمل القيام هو تلاوة القرآن وترتيله، فناسب هذا العمل السبب الأعظم لتفضيل ليلة القدر؛ وهو نزول القرآن فيها.

 

ذكر الله أن ليلة القدر سلام هي حتى مطلع الفجر؛ أي: لا يكون فيها داء، وإنما تتنزل في تلك الليلة الرحمات والخير، وعليه فليلة القدر لا يمكن أن توافق تلك الليلة من السَّنة التي ينزل فيها الداء من السماء.

 

جعل الغاية في نهاية ليلة القدر إلى مطلع الفجر؛ لأن وقت قيام الليل ينتهي بطلوع الفجر.

 

وقال الله عز وجل في ليلة القدر في سورة الدخان: ﴿ حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الدخان: 1 – 6].

 

بيَّن الله في هذه الآيات أنه أنزل كتابًا مبينًا؛ يعني: باللسان العربي الذي هو أبْينُ وأفصح الألسنة في الدنيا، وقوله ﴿ حم ﴾ في بداية السورة إشارة للسان العرب.

 

وقوله: ﴿ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ﴾ [الدخان: 3]؛ حيث هي مباركة من قبل، ولكن نزول الكتاب المبين فيها زَادَها بركة؛ فهو كتاب مبارك.

 

وقوله: ﴿ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ﴾ [الدخان: 3] مناسب لوقت نزول القرآن؛ حيث كان الناس في شرك وظلم، وكانوا ممقوتين من الله تعالى إلا بقايا من أهل الكتاب، فكان الناس أولَى بالنذارة من البشارة، وهو ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لقومه في أول أمره؛ حيث قال: ((إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد))، ولم يقل: إني بشير لكم؛ لأن بشارته للمؤمنين فقط؛ وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾ [الشعراء: 193، 194].

 

وقوله تعالى: ﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [الدخان: 4]؛ وهو معنى كونها ليلة القدر، فيقدر فيها ما سيكون في العام القادم إلى ليلة القدر فيه.

 

وجاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه فسَّر قوله تعالى: ﴿ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 187] بأنه التماس ليلة القدر؛ وفيه دلالة على اختصاص هذه الأمة بفضيلة ليلة القدر؛ حيث كتبها الله لهم.

 

ثم اعلم – يا أخي – أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرَّى ليلة القدر ويلتمسها بقيامٍ لا يجتهد في العام كاجتهاده في التماسها في رمضان، ولما كانت مبهمة عليه في أول الأمر كان يلتمسها في العشر الأُوَل، ثم في العشر الأواخر، ثم كان اجتهاده الأكبر في العشر الأواخر حتى توفاه الله تعالى، مع قيامه العشرين الأولى من الشهر.

 

وقد كان الصحابة والتابعون حريصين على التماس ليلة القدر وإصابتها؛ فكانوا يجتهدون في رمضان وخاصة في العشر الأخير اجتهادًا عظيمًا، مقتدين بنبيهم صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ فعرفوا مراد الله عز وجل ومراد الرسول صلى الله عليه وسلم من الحث على طلبها، ورحم الله عبدًا عظَّم ما عظَّمه الله تعالى، وعظَّمه رسوله صلى الله عليه وسلم.

 

ثم إن علماء الأمة اقتدَوا بالكتاب والسنة وعمل الصحابة، فالتمسوها وجمعوا ما قيل فيها، واعتنَوا به، وبيَّنوا للأمة كل ما جاء فيها بأفصح عبارة، وأخصر إشارة.

 

فلم يتبقَّ معك يا عبد الله، إلا أن تقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم وبخيار الأمة، وأن تجتهد في طلب ليلة القدر، وأن تسأل الله الإخلاص في العمل والسداد فيه.

 

فليلة القدر أعلى من كل مشاغل الدنيا وزخرفها، وكل ما سواها رخيص وقليل، وحريٌّ أن تُستَغَلَّ من أجلها الأوقات، وأن تسهر الأعين، وأن تُترَك من أجلها الشهوات؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتزل فراشه، ويعتزل نساءه؛ من أجل أن يستغل جميع ليلة القدر بالطاعات والعبادات لله وحده، كان يجعل ليالي العشر الأواخر خالصة لله وحده، ليس لأحد غيره منها نصيب.

 

وقد نصح النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، فرغَّبهم في التماسها والسعي لإصابتها؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: دَخَلَ رَمَضَانُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ)).

 

فتأمل هذا الحديث يا أخي، وكيف حث النبي صلى الله عليه وسلم على التماس ليلة القدر، وبيَّن أن حرمانها حرمان للخير كله؛ أي: إن كل خير موجود فيها، فما من أمر دنيوي وأخروي إلا وله تعلق بليلة القدر، وقد تقدم أن شرفها هذا بسبب إنزال القرآن فيها، الذي هو جامع الخير كله.

 

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم هذه الموعظة إذا دخل رمضان، وهذا مما يدلل على أن تُلتَمَس في جميع رمضان، وقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن بعض الصحابة.

 

وعليه فينوي المسلم أن يلتمس ليلة القدر في كل ليلة من رمضان، وأن يدعو بهذا الدعاء في كل ليلة منه: ((اللهم إنك عفوٌّ كريم تحب العفو، فاعفُ عني)).

 

وصدق ابن الجوزي بقوله: “إخواني، والله ما يغلو في طلبها عَشر، لا والله ولا شهر، لا والله ولا دهر؛ فاجتهدوا في الطلب، فرُبَّ مجتهد أصاب”.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
تحميل كتاب عبد المؤمن بن علي ؛ مؤسس دولة الموحدين pdf
الاكتئاب داء العصر