بين المظهر والمخبر (خطبة)
بين المظهر والمخبر
الحمد لله، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [آل عمران: 102].
حب رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة ماثلة في قلوب مليار مسلم في الأرض، وهو فريضة لازمة كذلك، قال الله سبحانه: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 6]، وقال سبحانه: ﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ﴾ [التوبة: 120]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحَبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)).
وهذه الحقيقة العاطفية يعبر عنها المسلمون بأشكال مختلفة، فمنهم من يكتب قصيدة عصماء يمجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكتفي بذلك، ومنهم من يترنم بأناشيد وتواشيح وابتهالات يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكتفي بذلك، ومنهم من يكتب كتابًا في الشمائل النبوية، ومنهم من يعلق اسم محمد في بيته وسيارته، ومنهم من يتخذ سبحةً طويلةً أو عريضةً، ومنهم من يغني، ومنهم من يرقص، ومنهم من يجوع ويعطش، ومنهم ومنهم، كل ذلك طلبًا للتقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكن هل هذه الممارسات هي حب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل مثلها في حق الله حبٌّ لله؟ هل عبدالله بن أُبَيِّ بن سلول محب لله لأن اسمه عبدالله؟ ليس كذلك، تسمَّ بما شئت مما أباح الله، وكن لله محبًّا؛ من هنا قال العلماء رحمهم الله: إن تغيير الأسماء لا يغير الأحكام؛ لأن العبرة بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني، هذه القاعدة الفقهية الذهبية تحكم في المسائل القضائية والتعبدية والقيمية كذلك.
الإسلام يريد من أتباعه أن يتمثلوا العقيدة والعبادة بقلوبهم، بالصدق مع الله سبحانه، وليس بالشكليات والمظاهر، وعندما بدأت حركة النفاق في المدينة النبوية كانت أخطر فتنة واجهت المسلمين؛ لأن بها يختلط الحق بالباطل، ويخدع الناس، ويشرخ المجتمع المسلم، وتتميَّع المعاني الإيمانية، يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، وقلوبهم قلوب الذئاب.
نظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى شاب قد نكس رأسه، فقال له: “يا هذا، ارفع رأسك، فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب، فمن أظهر للناس خشوعًا فوق ما في قلبه، فإنما أظهر نفاقًا على نفاق”، بذلك صنع الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم مبدأ المخبر لا المظهر، والحقائق لا الدعاوى، والمعاني لا المسميات، والبواطن لا الظواهر.
ولما قدم عمر رضي الله عنه الشام تلقته الجنود، وعليه إزار وخفان وعمامة، وهو آخذ برأس راحلته، يخوض الماء، وقد خلع خُفَّيه، فجعلهما تحت إبطه، فقيل له: يا أمير المؤمنين، تلقاك الجنود وبطارقة الشام، وأنت على هذه الحال، قال: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فلن نلتمس العز بغيره.
خطب عثمان رضي الله عنه أول خطبة له بعد الخلافة، فأُرْتِج عليه، واضطرب في كلامه، ثم قال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالًا، وأنتم إلى إمام فعَّال أحوجُ منكم إلى إمام قوَّال.
وأخذها منهم علماء الإسلام الثقات، فقال مالك بن دينار: “تلقى الرجل وما يلحن حرفًا -أي: لا يخطئ في تلاوته- وعمله كله لحن.
وعن معاوية بن قرة قال: “بكاءُ العمل أحَبُّ إليَّ من بكاء العين”، وقال ابن الجوزي رحمه الله: “الإنسان لو ضرب بالسياط ما أفطر في رمضان، ويأخذ أعراض الناس وأموالهم“، وقال ابن القيم رحمه الله: “تجد الرجل يتورع عن القطرة من الخمر، أو من استناده إلى وسادة حرير لحظة واحدة؛ ولكنه يطلق لسانه في الغيبة والنميمة في أعراض الخلق”.
وقال النووي رحمه الله: “الأعمال الظاهرة لا يحصل بها التقوى؛ وإنما تحصل بما يقع في القلب من عظمة الله، وخشيته، ومراقبته“، وقال ابن الحاج في المدخل: “فمراعاة الباطن أوجب من مراعاة الظاهر؛ لأن الظاهر للخلق، والباطن للخالق”.
فلنُحكِّم أيها الأخوة الكتاب والسنة في مفاهيمنا وقيمنا، حين يقول الله سبحانه: ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [الحجرات: 14]، وحين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((التقوى ها هنا))، ويشير إلى صدره، تتضح قاعدة الأولويَّات؛ خشية الله سبحانه، الورع تعظيم الله سبحانه، الوقوف عند حدوده، الولاء لله ورسوله والمؤمنين، ومعاداة أعدائهم، وإذا بحثت عن التقي وجدتهرجلًا يصدق قوله بفعال.
ومن أهم الأعمال القلبية التي يعرف بها صدق التدين، وحقيقة الالتزام، ما كان عند الاستتار، فيصدق فيها من يراقب الله تعالى في أفعاله، ومحاسبته لنفسه، ومن معايير التدين الدقيقة النظر في حسن معاشرة الناس في الحياة اليومية التي يبتلى فيها الصادق من الكاذب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((خيرُ الناس أنفعُهم للناس))، وقال ((خيرُكم خيرُكم لأهله)).
ومن المواقف كذلك الشدائد التي تبلو الناس، وتختبر صدقهم، وتنقِّي معدنهم، الشدائد التي يفر منها المنافقون: ﴿ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي ﴾ [التوبة: 49]، ﴿ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ﴾ [الأحزاب: 13].
الخطبة الثانية
كان الصحابة رضي الله عنهم مع إيمانهم بأهمية عمل الباطن، والاجتهاد في إصلاحه، يجتهدون في إصلاح الظاهر ما استطاعوا حتى يبلغوا الكمال، فهذا عمر رضي الله عنه الذي كان يعلم يقينًا أولوية أعمال القلوب يطوف بالبيت، ثم يُقبِّل الحجر الأسود، ويقول: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضُرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبِّلُك ما قَبَّلْتُك، اتِّباعٌ تامٌّ للسُّنة.
وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بالصحابة، فنزع نعليه أثناء الصلاة، وجعلهما عن يساره، ففعل الصحابة مثل ما فعل، فلما فرغ قال لهم: ((ما لكم خلعتم نعالكم في الصلاة؟))، قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال صلى الله عليه وسلم: ((فإن جبريل أتاني آنفًا وأخبرني أن فيهما قذرًا))، اتِّباعٌ تامٌّ للسُّنة.
وقال صلى الله عليه وسلم لعليِّ بن أبي طالب يوم أعطاه راية فتح خيبر: ((امْضِ ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك، فمضى رضي الله عنهومعه الراية والمسلمون، وبعد هنيهة توقف، وأخذ يصرخ ولم يلتفت: يا رسول الله، يا رسولَ اللَّهِ، على ماذا أقاتلُ؟ قالَ: ((قاتِلهُم حتَّى يَشهَدوا أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ محمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، فإذا فعَلوا ذلِكَ فقَد مَنعوا دِماءَهُم وأموالَهُم إلَّا بِحقِّها، وحِسابُهُم علَى الله))، اتِّباعٌ تامٌّ للسُّنة.
هذا هو الحرص على الكمال.