تأملات في الحج (8) الحج بين الفضائل والبدائل (خطبة)


تأملات في الحج (8)

الحج بين الفضائل والبدائل

 

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، الحمد لله اصطفى لحجِّ بيته عبادًا، وجعل لهم مواسمَ وأعيادًا، ووطِئ لهم على فراش كرامته ودادًا، وهيأ لهم عند بيته المحرم ذكرياتٍ وأمجادًا.

 

الحمد لله القاهر فوق عباده فلا يُمانَع، والحاكم بما يريد فلا يُدافَع، والآمِر بما يشاء فلا يُراجَع، الحمد لله كتب على نفسه البقاء، وكتب على خلقه الفناء، وقدَّر ما كان قبل أن يكون في اللوح والقلم، وخلق آدم وجعل من نسله العربَ والعجمَ، جعل الدنيا دار فناء، والآخرة دار بقاء؛ ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 16، 17]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ندَّ له، ولا مثلَ له، مَن تكلَّم سمِع نطقه، ومن سكت علِم سرَّه، ومن عاش فعليه رزقه، ومن مات فإليه منقلبه؛ ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 227].

 

ونشهد أن سيدنا محمدًا عبدُالله ورسوله، اعتزَّ بالله فأعزه، وانتصر بالله فنصره، وتوكل على الله فكفاه، وتواضع لله فشرح له صدره، ووضع عنه وِزْرَه، ويسَّر له أمره، ورفع له ذكره، وذلَّل له رقابَ عدوِّه، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليك يا رسول الله، وعلى أهلك وصحبك، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:

فإن فضائل الحج كثيرة؛ فهو أفضل الجهاد، وأفضل الأعمال، وأفضل مطهِّر؛ حيث يعود الحاج كيوم ولدته أمه، كما أنه يُكسِب الحاج أفضل الأخلاق، ويُخلِفه في أفضل الأرزاق، ودعاء يوم عرفة أفضل الدعاء، والحج يهدم ما قبله، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، كل ذلك وغيره للمستطيع الذي ارتحل إلى البيت الحرام، وتمتَّع بالحج، أما غير المستطيع، الذي لم يرتحل إلى هناك، فما له في هذه الأيام؟! ستجد الإجابة في السطور الآتية بعون الله تعالى وتوفيقه.

 

أخي المسلم: أنت إذا كان الحج قد فاتك، فإن أفعال الخير لا تفوتك، فتلحق بركب الحجيج، وما أجمل ما قيل: من فاته في هذا العام القيامُ بعرفة، فلْيَقُمْ لله بحقه الذي عَرَفَه، ومن عجز عن المبيت بمزدلفة، فليُبيِّت عزمه على طاعة الله وقد قرَّبه وأزْلَفَهُ، ومن لم يقدِرْ على نَحْرِ هَدْيِهِ بمِنًى، فليذبح هواه هنا وقد بلغ المُنى، ومن لم يصِلْ إلى البيت لأنه منه بعيد، فليقْصِدْ ربَّ البيت فإنه أقرب إليه من حبل الوريد.

 

أولًا: المكث في المسجد بعد صلاة الفجر حتى الشروق، ثم صلاة ركعتين.

عباد الله: من صلى الفجر فهو في ذمة الله، علاوة على أنه كأنما قام نصف الليل، وقرآن الفجر مشهود من قِبَلِ الملائكة، وفوق كل ذلك وغيره من مكث بعد الفجر في المسجد يُسبِّح ويُكبِّر، ويُهلِّل ويتلو القرآن، حتى بعد الشروق، كُتِبت له حجة وعمرة تامتين، بديلًا عن عدم استطاعته للذهاب إلى الأماكن المقدسة، كيف؟!

 

عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى الغداة – الفجر – في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلُعَ الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة))؛ [أخرجه الترمذي بسند صحيح، وصححه الألباني في الصحيحة].

 

ثانيًا: عمرة في رمضان:

إخوة الإسلام: من فضل الله على عباده ورحمته بهم أنْ جَعَلَ لهم أوقاتًا تبلغهم العلا، وبدائلَ عن الحج ترفع قدرهم، فمن لم يقدر على الحج عليه بعمرة رمضان، فهي تعدل عند الله حِجَّة، كيف؟!

فقد أخرج الإمام مسلم عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة من الأنصار يُقال لها أم سنان: ((ما منعكِ أن تكوني حَجَجْتِ معنا؟ قالت: ناضحان كانا لأبي فلان – تعني زوجها – حج هو وابنه على أحدهما، وكان الآخر يسقي عليه غلامنا، قال صلى الله عليه وسلم: عمرة في رمضان تقضي حجة، أو حجة معي))، والناضح: الجمل.

 

ثالثًا: حضور صلاة الجماعة:

أيها المسلمون: من لم يقدر على الحج، أو أن يعتمر في شهر رمضان، هناك بدائل أخرى؛ منها أن تحافظ على صلاة الجماعة، كيف؟!

 

أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من مشى إلى صلاة مكتوبة في الجماعة، فهي كحِجَّةٍ، ومن مشى إلى صلاة تطوع، فهي كعمرة نافلة))، وفي رواية: ((ومن مشى إلى سُبْحَةِ الضحى، كان له كأجر المعتمر))؛ [صحيح الجامع].

 

رابعًا: حضور مجالس العلم في المساجد:

عباد الله، العلم نور، ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة، وإنما تتقدم الأمم بالعلم، وترتقي البلاد بالعلماء، وفوق ذلك تلقِّي العلم بالمسجد يعطيك أجر حِجَّة، كيف؟!

عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرًا أو يُعَلِّمه، كان كأجر حاجٍّ تامًّا حجته))؛ [أخرجه الطبراني والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب]، فضلًا عن السكينة والرحمة والمغفرة؛ فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشِيَتْهُمُ الرحمة، وحفَّتْهُمُ الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)).

 

خامسًا: بـرُّ الوالدين:

أيها المسلمون: إن الله تعالى جعل الإحسان إلى الوالدين بعد الوصية بعبادته هو – لا غيره – مباشرة؛ فقال تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ [الإسراء: 23].

 

ثم أوصى ببرِّهما وخفض الجناح لهما، والدعاء لهما؛ فقال سبحانه: ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24].

 

مقابل ذلك، فإن برَّ الوالدين يمنحك أجرَ الحج، كيف؟

أخرج أبو يعلى بسند جيد: ((أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه، قال: هل بقِيَ من والديك أحد؟ قال: أمي، قال: قابل الله في برِّها؛ فإن فعلتَ، فأنت حاج ومعتمر ومجاهد)).

 

سادسًا: الأذكار بعد الصلاة:

عباد الله: إن ذكر الله تعالى أشرف ما يمر بالفم، وأجمل ما يمر على الخاطر، وأنبل ما يستقر في العقل الباطن، وأفضل ما يكون في العقل الواعي، لا يكون ساعة دون ساعة، أو يوم دون يوم، وإنما يجب أن يكون على الدوام، كيف؟!

قال ربنا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 41 – 43].

 

والعبد الذاكر لربه، المسبِّح بحمده، المتوكل عليه، المتوجه إليه، يكون عند ربه مذكورًا، وسعيه مشكورًا، وكلما زاد في ذكره، زاد الله في جَبْرِهِ، وشدَّ من أزْرِهِ، وضاعف أجره؛ قال ربنا: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152]، وذِكْرُ الله تعالى بعد الصلاة يؤهِّلك لأجر الحج كاملًا غير منقوص، كيف؟!

فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن فقراء المهاجرين أتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدُّثُور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويُعْتِقون ولا نُعْتِق، ولهم فضول أموالهم يحُجُّون ويعتمرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضلَ منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبِّحون وتكبِّرون وتحمَدون دُبُرَ كلِّ صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)).

 

سابعًا: صدق النية مع الله:

إخوة الإسلام، عباد الله: إن صفاء النية وصدقها من أجَلِّ العبادات، وهو أقصر الطرق إلى الله تعالى، والأعمال إنما تُقبَل بإخلاص النية وصدق توجهها، بل إن صاحب النية السليمة المخلصة يرتقي في ثوابه وأجره إلى أجر الحج وثوابه، كيف؟!

 

ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما الدنيا لأربعة نَفَرٍ: عبدٍ رزقه الله مالًا وعلمًا، فهو يتقي فيه ربَّه، ويصِل رَحِمَهُ، ويعمل لله فيه بحقه، فهذا بأفضل المنازل، وعبدٍ رزقه الله علمًا، ولم يرزقه مالًا، فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالًا لَعمِلت بعمل فلان، فأجرهما سواء، وعبدٍ رزقه الله مالًا، ولم يرزقه علمًا، فهو يتخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصِل فيه رحمه، ولا يعمل فيه بحقٍّ، فهذا بأخبث المنازل، وعبدٍ لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالًا لعمِلت فيه بعمل فلان، فهو ونيته، فوُزْرُهما سواء))؛ [أخرجه الترمذي بسند صحيح، وصححه الألباني في الصحيحة]، فنية العبد خيرٌ من عمله، فقد يحج ولا يُقبَل منه لسوء نيته، وقد لا يحج ويُكتَب له أجر حجة وعمرة تامتين تامتين؛ لصدق نيته؛ لذلك جاء أول حديث في البخاري: ((إنما الأعمال بالنيات)).

 

وروى البخاري عن أنس، قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((إن أقوامًا خلَّفنا بالمدينة، ما سلكنا شعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا، حَبَسَهُمُ العذر)).

 

اللهم ارزقنا حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وسعيًا مشكورًا.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
Just a moment…
Book Review: ‘The Undertow,’ by Jeff Sharlet