تجليات الغرابة في مغني اللبيب
تجليات الغرابة في مُغني اللبيب
لا أعرف كتابًا في علم النحو – بعد كتاب سيبويه – نال من اهتمام العلماء والباحثين والدارسين في القديم والحديث مثل كتاب “مغني اللبيب عن كتب الأعاريب“، فمنذ أخرجت العقلية الناضجة المبدعة واليد الصَّناع لابن هشام الأنصاري هذا السِّفْر الجليل وأعناق الباحثين مشرئبَّة إليه، ونفوسهم متطلِّعة إلى منهله العذب؛ لذا كثرت حوله الحواشي والشروح والدراسات، والأمر لا يقتصر على حواشي الدسوقي والأمير والشُّمُنِّي، أو شروح ابن الضائع والدماميني والسيوطي وغيرهم، فالقائمة طويلة طويلة.
ولا غرو في ذلك؛ فابن هشام – كما يقول الدكتور يوسف عبد الرحمن الضبع – “هذَّب فيه النحو، وجمع فيه إلى دقة اللفظ رقة حواشيه، ولم يغادر شاردة لهذا العلم إلا أحصاها، ولا واردة إلا جلاها، وكل شيء له مساس بالنحو فصَّله، وكل حكم بحثه وحلَّله” [1].
وابن هشام “نثر كنانة النحو بين يديه، ونخل هذا العلم أمام عينيه، وجعل (المغني) في صميمه، لا غثاء معه، ولا غبار عليه“[2].
وتمُرُّ السنوات، وتتوالى الدراسات، وما زال “مغني اللبيب” كالبحر الخضمِّ يُغري شُداة النحو بالسباحة في مياهه، والبحث عن كنوزه المخبوءة، وها هو الدكتور علي محمد عبدالغني أبو طالب أستاذ اللُّغويات بجامعة الأزهر يأخذنا في رحلة جديدة مع مغني اللبيب من خلال بحثه القيم: “النحو الغريب في مغني اللبيب“.
وقد أثار انتباه الدكتور علي أنَّ ابن هشام قد وصف بعض آراء النحويين التي عرض لها في كتابه بالغرابة دون بيان لمفهوم الغرابة أو تعليل لها، فأراد الباحث الوقوف على سِرِّ هذه الغرابة، وذلك من خلال جمع هذه الآراء ومناقشتها مناقشة جادة.
والحق أن المصطلحات الدالة على الأحكام النحوية لم تلق ما تستحقُّه من اهتمام العلماء والباحثين في الدراسات النحوية، في الوقت الذي حازت فيه أمثال تلك المصطلحات في علوم الحديث والفقه والأصول اهتمامًا كبيرًا؛ حتى أصبحت الكتابة فيها تمثل فرعًا معرفيًّا مستقلًّا داخل المنظومة المعرفية لكل علم.
ولا شكَّ أن أستاذي الدكتور علي قد بذل جهدًا كبيرًا في القراءة المتأنية لمغني اللبيب لكي يستخرج الآراء التي وسَمَها صاحب المغني بالغرابة، ثم قام ببحثها وتأصيلها من مصادر النحو الأصيلة المعتمدة.
وقد بدأ الكاتب بحثه بالتعريف بعبدالله بن يوسف بن أحمد بن عبدالله بن هشام الأنصاري المصري، ذلك النحوي المبارك الذي وُلِدَ بالقاهرة في ذي القعدة عام ثمانٍ وسبعمائة من الهجرة، سنة 1309من الميلاد، وتحدَّث عن شيوخه وتلاميذه وعصره، وأهم مؤلفاته المطبوعة والمخطوطة، وتوقَّف أمام “مغني اللبيب“؛ ذلك الكتاب الذي أبدع صاحبُه في منهجه، ورتَّبَ قواعده على غير مثالٍ سابقٍ، وتحدَّث عن مصادره النحوية، وعن شواهده.
ولعلَّ الباحث النابِه الكريم كان موفَّقًا عندما تحدَّث عن السمات الأسلوبية للكتاب – ونادرًا ما يهتمُّ دارسُ النحو بهذا الأمر! -، ومنها: الإطناب الذي يتحقق به بسط الموضوع بسطًا يفيد المبتدئ، وهو مع ذلك بعيد عن التكرار؛ بل لقد نعى على المعربين ما يقع في كتبهم من تكرار، وهو غالبًا ما يتوخَّى الدقة في إصدار أحكامه.
وقد كان للباحث وقفة متأنية مع بعض الآراء النحوية التي حكم عليها ابن هشام بالغرابة، وقد بلغت هذه الأحكام أربعة وعشرين حكمًا، فبدأ بذكر مفهوم الغريب عند اللغويين، وقد وجد أنه يدور حول معاني الغموض والخفاء والندرة.
أما مفهوم الغريب عند ابن هشام فقد انتهى الباحثُ إلى أنه يصدق على واحد مما يأتي:
(1) القليل النادر: ومن ذلك حكمه بالغرابة على مجيء (سوى) بمعنى القصد، وابن هشام في ذلك تابع لابن الشجري؛ حيث قال عند حديثه عن معاني (سواء):
“و(سواء) بمعنى القصد فتقصر مع الكسر، وهو أغرب معانيها، كقوله:
فلأصرفنَّ سِوى حذيفة مدحتي لفتى العشي وفارس الأحزاب[3] |
ذكره ابن الشجري”[4].
يقول الباحث: “ولا أعرف سرًّا لهذه الغرابة اللهُمَّ إلا أن يكون مرادهما هو أن ورود (سواء)، لهذا المعنى يكون على سبيل الندرة؛ لذا كان استشهاد المعاجم على ورود (سواء) لهذا المعنى مقصورًا على هذا البيت”[5].
ويرى أنه لو قال الشاعر:
فلأصرفنَّ إلى حذيفة مدحتي لفتى العشي وفارس الأحزاب |
لأراحنا من هم البحث عن وجه الغرابة التي ذكرها ابن الشجري وابن هشام.
(2) الرأي الذي يخالف مذهبه: ومن ذلك حكمه بغرابة قول الفراء بإفادة الواو للترتيب، وقد عرض ابن هشام لهذه المسألة في معرض حديثه عن الفاء، فقال: ” إنها – أي الفاء – لا تفيد الترتيب مطلقًا”، وهذا مع قوله: إن الواو تفيد الترتيب غريب، واحتجَّ له بقوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4]، وأجيب بأن المعنى: أردنا إهلاكها، أو بأنها للترتيب الذكري“[6].
وهذا النص من ابن هشام يعني أن مذهب الفراء في معنى الحرفين – الواو والفاء – على عكس ما ذهب إليه الجمهور، فالواو عند الجمهور لمطلق الجمع، ولا تفيد ترتيبًا، والفاء عندهم للترتيب مطلقًا، وما أوهم خلاف ذلك أوَّلُوه، أما الفرَّاء فقد جعل الواو للترتيب، والفاء قد لا تفيده، وهذا غريب.
وإذا كان رأي الفراء – كما يحكيه ابن هشام – على عكس ما ذهب إليه الجمهور من أن الفاء قد لا تفيد الترتيب عنده، فإن الدكتور علي أبو طالب لا يوافق ابن هشام فيما ادَّعاه من أن الفراء يرى أن الواو تفيد الترتيب، فالفراء – في الحقيقة – يوافق الجمهور في أنَّ الواو لمطلق الجمع، وهذا نصُّه من معاني القرآن: “فأما الواو فإنك إن شئت جعلت الآخر هو الأوَّل والأوَّل الآخر، فإذا قلت: زرت عبدالله وزيدًا، فأيّهما شئت كان هو المبتدأ بالزيارة”[7]، وعلى هذا فقد حكم ابن مالك بخطإ من زعم أن الفرَّاء يرى أن الواو للترتيب.
ونخلص من ذلك إلى أن الفرَّاء يوافق الجمهور في معنى (الواو) العاطفة، وإذا كان الأمر كذلك فلا وجه لحكم الغرابة الذي ذكره ابن هشام في هذه المسألة؛ حيث لا مخالفة بين مذهب الجمهور والفراء في معنى الواو، فهي عندهما لمطلق الجمع.
(3) الرأي المنقول نقلًا غير صحيح: ويتمثل ذلك في حكمه بغرابة ما نسبه بعضهم إلى سيبويه من أنه يرى أن حذف العائد المجرور من جملة الصفة، يحتمل أن يكون الجار والمجرور وحذفا معًا، أو حذف الجار أولًا ثم حذف الضمير.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [البقرة: 123].
قال ابن الشجري: “وقال أكثر أهل العربية، منهم سيبويه والأخفش: يجوز الأمرانِ”[8].
وهذا المذهب المنقول عن سيبويه يُخالِف ما في الكتاب؛ إذ الموجود في الكتاب هو حذف (فيه) فقط، وهذا نصه: ” كما قال سبحانه:{يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ} أضمر فيه“[9].
ولمَّا كان هذا الرأي المنسوب إلى سيبويه مخالفًا لما في كتابه قال عنه ابن هشام في الباب الرابع من المغني: “وهو مخالف لما نقل غيره“[10]، وقال عنه أيضًا في الباب الخامس: “وهو نقل غريب“[11].
(4) الرأي الذي انفرد به أحد النحويين عن بقية النحاة، وذلك يتمثَّل في تجويز الزمخشري إعراب(إذ) مبتدأ في توجيه قراءة لبعض القُرَّاء، يقول ابن هشام: “وَمن الْغَرِيب أَن الزَّمَخْشَرِيَّ قَالَ فِي قِرَاءَة بَعْضِهم:{لَمِن من الله على الْمُؤمنِينَ إِذْ بعث فيهم رَسُولًا} إِنَّه يجوز أَن يكون التَّقْدِير: منه إِذْ بعث، وَأَن تكون (إِذْ) فِي مَحل رفع كإِذا فِي قَوْلك: (أَخْطَبُ مَا يكون الْأَمِير إِذا كَانَ قَائِمًا)؛ أَي: لَمِن مَنِّ الله على الْمُؤمنِينَ وَقت بَعثه؛ انْتهى، فَمُقْتَضى هَذَا الْوَجْه أَن (إِذْ) مُبْتَدأ، وَلَا نعلم بذلك قَائِلًا“[12].
ومن ذلك أيضًا اشتراط أبي حيان في العطف على الموضع أن يكون المعطوف عليه له لفظ وموضع.
(5) الرأي الذي لم يستسِغْه من حيث المعنى: ومن ذلك حكمه بغرابة ما ذهب إليه بعضهم من أن (لها) في قول المتنبي:
لوَلا مُفارَقَةُ الأَحبابِ ما وَجَدَتْ لَها المَنايا إِلى أَرواحِنا سُبُلا[13] |
جمع (لهاة) وليست جارًّا ومجرورًا.
قال ابن هشام: “وَلَك فِي لَهَا وَجه غَرِيب، وَهُوَ أَن تقدره جمعًا للهاة كحصاة وحصى، وَيكون لَهَا فَاعِلًا بوجدت والمنايا مُضَافًا إِلَيْهِ، وَيكون إِثْبَات اللهوات للمنايا اسْتِعَارَة شبهت بِشَيْء يبتلع النَّاس، وَيكون أَقَامَ اللها مقَام الأفواه لمجاورة اللهوات للفم“[14].
هذا، والبحث زاخر بالمسائل والقضايا النحوية يعرضها المؤلف في صورة حية نابضة؛ ذلك أنه لم يكتفِ بذكر رأي ابن هشام فقط، وإنما يأخذك معه في تطواف رائق بديع ودقيق محكم بين مذاهب النحاة وأفكارهم في كل مسألة يعرض لها؛ مما يدل على خبرته الكبيرة ومعرفته الدقيقة بأسرار هذا الفن.
وقد التزم الباحث بتخريج الأحاديث النبوية والشواهد الشعرية، والتعريف بغير المشهورين من الأعلام، أما عن ترتيب مسائله فقد سلك الباحث مسلك ابن هشام في المغني، فبدأ بالحروف، ثم بالحديث عن الجملة وما يتبعها من أحكام، وفي خاتمة المطاف ذيَّل البحث بخاتمة بيَّن فيها أهم النتائج التي توصَّل إليها البحث من خلال هذه الدراسة.
وبعد، فما زالت شمس مغني اللبيب تُضيء آفاق العربية رغم توالي الأيام وكَرِّ الأعوام، وصدق ابن هشام حين وصفه بأنه “كتاب … تشد الرحال فيما دونه، وتقف عنده فحول الرجال لا يعدونه … إذ كان الوضع في هذا الغرض لم تسمح قريحة بمثاله ولم ينسج ناسجٌ على منواله“[15].
[1] ابن هشام وأثره في النحو العربي، ص: (92).
[2] ابن هشام وأثره في النحو العربي، ص: (92).
[3] البيت من الكامل، وهو في مغني اللبيب، ص: (188).
[4] مغني اللبيب، ص: (188).
[5] النحو الغريب في مغني اللبيب، ص: (57).
[6] مغني اللبيب، ص: 214.
[7] معاني القرآن، للفراء، ص: (396).
[8] أمالي ابن الشجري، (1/6).
[9] الكتاب، لسيبويه، (1/386).
[10] مغني اللبيب، ص: (654).
[11] مغني اللبيب، ص: (804).
[12] مغني اللبيب، ص: (112).
[13] مغني اللبيب، ص: (294).
[14] مغني اللبيب، ص: (294).
[15] مغني اللبيب، ص: (12).