تحريم إنكار وجود الله تبارك وتعالى في الدنيا والآخرة


تحريم إنكار وجود الله تبارك وتعالى في الدنيا والآخرة

 

ظهرت فرقةٌ مارقة من الإسلام وأهله، تُنكر وجود الله تبارك وتعالى، والإيمان به؛ لعدم رؤيتهم له، فلا يُؤمنون إلا بمحسوسٍ أو ملموسٍ أو مرئي – هداهم الله.

 

علمًا بأن أدلة وجود الله تبارك وتعالى، ثابتة متواترة متكاثرة، في الكتاب والسنة والإجماع، والفطرة والعقل، والحس، وفصحاء العرب، والموجودات وسائر المخلوقات:

أمَّا دلالة الكتاب والسنة على وجود الله تبارك وتعالى:

فقال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء: 101ـ 102].

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: في «درء تعارض العقل والنقل» (8/ 38): وأشهر من عُرف تجاهله وتظاهره بإنكار الصانع فرعون، وقد كان مستيقنًا في الباطن؛ كما قال له موسى: ﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء: 102]؛ اهـ.

 

وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف: 172ـ 173].

 

قال الحافظ ابن كثير: في «تفسيره» (3/ 500): يُخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه؛ قال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم:30]؛ اهـ.

 

وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه، أو يمجِّسانه، كما تَنْتِج البهيمةُ بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء»، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: ﴿ فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا الآية، رواه البخاري برقم (1358)، ومسلم (2658).

 

وقال عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – ذات يوم في خطبته ـ: (ألا إن ربي أمرني أن أعلِّمكم ما جهلتم، مما علمني يومي هذا: كل مالٍ نحلته عبدًا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أُنزِّل به سلطانًا)؛ رواه مسلم برقم (2865).

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: في «مجموع الفتاوى» (16/ 345): أخبر أنه خلقهم حنفاء، وذلك يتضمن معرفة الرب ومحبته وتوحيده، فهذه الثلاثة تضمنتها الحنيفية، وهي معنى قول: (لا إله إلا الله)، فإن في هذه الكلمة الطيبة، التي هي كـ﴿ شَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ [إبراهيم: 24]، فيها إثبات معرفته والإقرار به، وفيها إثبات محبته، فإن الإله هو المألوه الذي يستحق أن يكون مألوهًا، وهذا أعظم ما يكون من المحبة، وفيها أنه لا إله إلا هو، ففيها المعرفة والمحبة والتوحيد، وكل مولود يولد على الفطرة وهي الحنيفية التي خلقهم عليها، ولكن أبواه يُفسدان ذلك، فيهودانه وينصرانه ويمجسانه ويُشركانه، كذلك يُجَهمَانه، فيجعلانه منكرًا لما في قلبه من معرفة الرب ومحبته وتوحيده، ثم المعرفة يطلبها بالدليل، والمحبة ينكرها بالكلية؛ اهـ.

 

وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [إبراهيم: 9 – 10].

 

قال الحافظ ابن كثير: في «تفسيره» (4/ 482): يُخبر تعالى عمَّا دار بين الكفار وبين رسلهم من المجادلة، وذلك أن أَممهم لَمَّا واجهوهم بالشك فيما جاءوهم به من عبادة الله وحده لا شريك له، قالت الرسل: ﴿ أَفِي اللهِ شَكٌّ، وهذا يحتمل شيئين:

أحدهما: أفي وجوده شك، فإن الفِطَر شاهدةٌ بوجوده، ومجبولة على الإقرار به، فإن الاعتراف به ضروري في الفِطَر السليمة، ولكن قد يَعرض لبعضها شك واضطراب، فتحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده، ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه ﴿ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، الذي خلقها وابتدعها، على غير مثال سبق، فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليها، فلا بد لها من صانع، وهو الله لا إله إلا هو، خالق كل شيء وإلهه ومليكه.

 

والمعنى الثاني: في قولهم: ﴿ أَفِي اللهِ شَكٌّ؛ أي: أفي إلهيته وتفرُّده بوجوب العبادة له شك، وهو الخالق لجميع الموجودات، ولا يستحق العبادة إلا هو، وحده لا شريك له؛ فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع، ولكن تَعْبُد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقرِّبهم من الله زلفى؛ اهـ.

 

وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: أتى النبيَ صلى الله عليه وسلم أناسٌ من بني تميم، فقال: «اقبلوا البشرى يا بني تميم»، قالوا: قد بشرتنا فأعطنا، مرتين، ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن، فقال: «اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إِذْ لم يقبلها بنو تميم»، قالوا: قد قبلنا يا رسول الله، قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر؟ قال: «كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض»؛ رواه البخاري برقم (3191).

 

وأمَّا دلالة الإجماع على وجود الله تبارك وتعالى:

فقال الإمام أبو الحسن الأشعري: في «رسالة إلى أهل الثغر» (ص121): الإجماع الثالث: أجمعوا أنه تعالى لم يزل موجودًا، حيًّا قادرًا عالِمًا مريدًا متكلمًا سميعًا بصيرًا، على ما وصف به نفسه، وتسمَّى به في كتابه، وأخبرهم به رسوله، ودلت عليه أفعاله، وأنَّ وصفه بذلك لا يُوجب شَبَهَهُ لمن وُصِف من خلقه بذلك، من قبل الشيئين لا يُشبَّهان بغيرهما، ولا باتفاق أسمائهما، وإنما يُشبَّهان بأنفسهما، فلما كانت نفس الباري تعالى غير مُشْبِهة لشيء من العالم بما ذكرناه آنفا، لم يكن وصفه بأنه حيٌّ وقادرٌ وعالمٌ يُوجب تشبُّهه لمن وصفناه بذلك منا، وإنما يُوجب اتفاقهما في ذلك اتفاقًا في حقيقة الحي والقادر والعالم، وليس اتفاقهما في حقيقة ذلك يُوجب تشابهًا بينهما، ألا ترى أنَّ وصف الباري عز وجل بأنه موجود، ووصف الإنسان بذلك لا يُوجب تشابهًا بينهما، وإن كانا قد اتفقا في حقيقة الموجود، ولو وجب تشابههما بذلك لوجب تشابه السواد والبياض بكونهما موجودين، فلمَّا لم يجب بذلك بينهما تشابه، وإن كانا قد اتفقا في حقيقة الموجود، لم يجب أن يُوصف الباري عز وجل بأنه حيٌّ عالم قادر ووصف الإنسان بذلك تشابههما، وإن اتفقا في حقيقة ذلك، وإن كان الله تعالى لم يزل مستحقًّا لذلك والإنسان مستحقًّا لذلك عند خلق الله ذلك له، وخلق هذه الصفات فيه؛ اهـ.

وقال الشهرستاني: في «نهاية الإقدام» (ص123) ما ملخصه: وأما تعطيل العالم عن الصانع العليم القادر الحكيم، فلست أراها مقالة ولا عَرَفتُ عليها صاحب مقالة، إلا ما نُقل عن شرذمة قليلة من الدهرية، أنهم قالوا: كان العالم في الأزل أجزاء مبثوثة، متحرِّك غير مستقر، فاصطكت اتفاقًا، فحصل العالم بشكله الذي تراه عليه، ولستُ أرى صاحب هذه المقالة ممن يُنكر وجود الصانع، بل هو يعترف بالصانع، لكنه يُحيلُ سبب وجود العالم على البَخت والاتفاق، احترازًا عن التعليل؛ اهـ.

 

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: في «نقض التأسيس» (ص473) – وهو في صدد تفنيد شُبههم ـ: ليس هذا قول أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولا قاله أحد من الأنبياء والمرسلين، ولا هو قول كل المتكلمين ولا غالبهم، بل هذا قول محدث في الإسلام، ابتدعه متكلمو المعتزلة ونحوهم من المتكلمين الذين اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمِّهم، وقد نازعهم في ذلك طوائف من المتكلمين، من المرجئة والشيعة وغيرهم، وقالوا: بل الإقرار بالصانع فِطْري ضروري بديهي، لا يجب أن يتوقف على النظر والاستدلال، بل قد يقولون يمتنع أن يحصل بالقياس والنظر، وهذا قول جماهير الفقهاء والصوفية، وأهل الحديث والعامة وغيرهم، بل قد اتفق سلف الأمة وأئمتها: على أن معرفة الله والإقرار به، لا تقف على هذه الطُّرق التي يذكرها أهل طريقة النظر؛ اهـ.

 

وقال الإمام السفَّاريني: في «الدرة المضية في عقد أهل الفرقة المرضية» (ص38):

حَيٌّ عليمٌ قَادر مَوْجُود
قَامَت بِهِ الْأَشْيَاء والوجود
دلّت على وجوده الْحَوَادِث
سُبْحَانَهُ فَهُوَ الْحَكِيم الْوَارِث

 

وأمَّا دلالة الفطرة على وجود الله تبارك وتعالى:

فقد سبق ذكر حديثَي أبي هريرة، وعياض ابن حمار رضي الله عنهما، في دلالة الكتاب والسنة، وقال جبير بن مطعم رضي الله عنه قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الطور، فبلغ هذه الآيات: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ[الطور: 3536]، وكان جبير يومئذ مشركًا قال: كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي؛ رواه البخاري برقم (4854).

قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» (8/ 603): قال الخطابي كأنه انزعج عند سماع هذه الآية لفهمه معناها، ومعرفته بما تضمنته، ففهم الحجة فاستدركها بلطيف طبعه، وذلك من قوله تعالى: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، قيل معناه: ليسوا أشد خلقًا من خلق السماوات والأرض؛ لأنهما خُلقتا من غير شيء؛ أي: هل خُلقوا باطلًا لا يُؤمرون ولا ينهون.

 

وقيل المعنى: أم خُلقوا من غير خالق، وذلك لا يجوز، فلا بد لهم من خالق، وإذا أنكروا الخالق فهم الخالقون لأنفسهم، وذلك في الفساد والبطلان أشد؛ لأن ما لا وجود له كيف يَخلق، وإذا بَطَلَ الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقًا، ثم قال: ﴿ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؛ أي: إن جاز لهم أن يدَّعوا خلق أنفسهم، فليدَّعوا خلق السماوات والأرض، وذلك لا يمكنهم، فقامت الحجة، ثم قال: ﴿ بَلْ لَا يُوقِنُونَ، فذكر العلة التي عاقتهم عن الإيمان، وهو عدم اليقين الذي هو موهبة من الله، ولا يحصل إلا بتوفيقه، فلهذا انزعج جبير حتى كاد قلبه يطير، ومال إلى الإسلام؛ انتهى؛ اهـ.

 

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (16/ 340): إذا كانت معرفته والإقرار به ثابتًا في كل فطرة، فكيف يُنكر ذلك كثير من النظار – نظار المسلمين وغيرهم – وهم يدَّعون أنهم الذين يُقيِّمون الأدلة العقلية على المطالب الإلهية؟ فيقال أولا: أول من عُرف في الإسلام بإنكار هذه المعرفة، هم أهل الكلام الذي اتفق السلف على ذمه من الجهمية والقدرية، وهم عند سلف الأمة من أضل الطوائف وأجهلهم، ولكن انتشر كثيرٌ من أصولهم في المتأخرين الذين يوافقون السلف على كثير مما خالفهم فيه سلفهم الجهمية، فصار بعض الناس يظن أن هذا قَولٌ صَدَرَ في الأصل عن علماء المسلمين، وليس كذلك إنما صَدَرَ أولًا عمن ذمه أئمة الدين وعلماء المسلمين؛ اهـ.

 

وقال: في «منهاج السنة» (2/ 270): أما إثبات الصانع فطرُقه لا تُحصى، بل الذي عليه جمهور العلماء أن الإقرار بالصانع فطري ضروري مغروز في الجِبِلَّة، ولهذا كانت دعوة عامة الرسل إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وكان عامة الأمة مقرين بالصانع، مع إشراكهم به بعبادة ما دونه، والذين أظهروا إنكار الصانع، كفرعون خاطبتهم الرسل خطاب من يعرف أنه حق؛ كقول موسى لفرعون: ﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء: 102]، ولما قال فرعون: ﴿ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 23]، قال له موسى: ﴿ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [الشعراء: 24 – 28].

 

ولما قال فرعون: ﴿ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه: 49 – 50]، فكان جواب موسى له جوابًا للمتجاهل الذي يُظْهِر أنه لا يعرف الحق، وهو معروف عنده؛ اهـ.

 

وأمَّا دلالة العقل السليم على وجود الله تبارك وتعالى:

فقال العلامة العثيمين: في «شرح ثلاثة الأصول» (ص80): وأما دلالة العقل على وجود الله تعالى، فلأن هذه المخلوقات سابقها ولاحقها، لابد لها من خالق أوجدها؛ إذ لا يُمكن أن تُوجد نفسَها بنفسِها، ولا يُمكن أن تُوجد صُدفة، لا يُمكن أن تُوجد نفسَها بنفسِها؛ لأن الشيء لا يخلقُ نفسه؛ لأنه قبل وجوده معدوم فكيف يكون خالقًا! ولا يُمكن أن تُوجَد صدفة؛ لأن كل حادث لابد له من مُحدِث، ولأن وجودها على هذا النظام البديع، والتناسق المتآلف، والارتباط الملتحم بين الأسباب ومسبباتها، وبين الكائنات بعضها مع بعض يمنعُ منعـًا باتـًّا أن يكون وجودها صدفة؛ إذ الموجود صدفة ليس على نظام في أصل وجوده، فكيـف يكـون منتظمًا حال بقائه وتطوُّره؟! وإذا لم يمكن أن توجد هذه المخلـوقات نفسهـا بنفسها، ولا أن توجد صدفة؛ تعيَّن أن يكون لها موجد هو الله رب العالمين، وقد ذكر الله تعالى هذا الدليل العقلي، والبرهان القطعي؛ حيث قال: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35] يعني: أنهم لم يُخْلَقُوا من غير خالق، ولا هم الذين خلقُـوا أنفسهـم، فتعين أن يكـون خالقـهم هو الله تبارك وتعالى، ولهذا لما سمع جبير بن مطعم س رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الطور، فبلغ هذه الآيات: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ[الطور: 3536]، وكان جبير يومئذ مشركًا قال: كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي، رواه البخاري برقم (4854).

ولنضرب مثلًا يوضح ذلك: فإنه لو حدَّثك شخص عن قصرٍ مشيَّد، أحاطتْ به الحدائق، وجرت بينها الأنهار، ومُلئ بالفرش والأسِرَّة، وزُيِّن بأنواع الزينة من مقوماته ومكملاته، وقال لك: إنَّ هذا القصر وما فيه من كمال قد أوْجد نفسه، أو وُجِد هكذا صدفة بدون مُوجد، لبادرت إلى إنكار ذلك وتكذيبه، وعددت حديثهُ سفهًا من القول، أفيجوز بعد ذلك أن يكون هذا الكون الواسع: بأرضه، وسمائه، وأفلاكه، وأحواله، ونظامه البديع الباهر، قد أوجَدَ نفسه، أو وُجِدَ صدفة بدون موجد؟! اهـ.

وأمَّا دلالة الحس على وجود الله تبارك وتعالى:

فقال العلامة العثيمينعقب كلامه السابق ـ: وأما دلالة الحس على وجود الله فمن وجهين: أحدهما: أننا نسمعُ ونشاهدُ من إجابة الداعين، وغوث المكروبين، ما يدلُ دلالة قاطعة على وجوده تعالى، قال الله سبحانه: ﴿ وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الأنبياء: 76]، وقال تعالى: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال: 9].

وفي «الصحيحين[1]»، عن أنس رضي الله عنه أن أعرابيًّا دخل يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطبُ، فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاعَ العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه ودعا، فثار السحاب أمثال الجبال، فلم ينزل عن منبره حتى رأيتُ المطر يتحادر على لحيته، وفي الجمعة الثانية، قام ذلك الأعرابي، أو غيره، فقال: يا رسول الله، تهدَّم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه، وقال: (اللهم حوَاليْنا ولا عَلَيْنَا)، فما يشير إلى ناحية إلا انفرجت.

وما زالت إجابة الداعيـن أمرًا مشهودًا إلى يومنا هذا، لمن صدق اللجوء إلى الله تعالى، وأتى بشرائط الإجابة.

الوجه الثاني: أنَّ آيات الأنبياء التي تسمَّى المعجزات ويشاهدها الناس، أو يسمعون بها، برهان قاطع على وجود مرسلهم، وهو الله تعالى؛ لأنها أمور خارجة عن نطاق البشر، يجريها الله تعالى تأييدًا لرُسله ونصرًا لهم؛ مثال ذلك: آية موسى عليه السلام: حين أمره الله تعالى أن يضرب بعصاه البحر، فضربه؛ فانفلَق اثني عشر طريقـًا يابسـًا، والماء بينها كالجبال، قال الله تعالى: ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء: 63].

ومثال ثانٍ: آية عيسى عليه السلام: حيث كان يحيي الموتى، ويخرجهم من قبورهم بإذن الله، قال الله تعالى عنه: ﴿ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ [آل عمران: 49]، وقـال: ﴿ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي [المائدة: 110].

ومثالٌ ثالث: لمحمد صلى الله عليه وسلم: حين طلبت منه قريش آية، فأشار إلى القمر، فانفلق فرقتين، فرآه الناس، وفي ذلك قوله تعالى: ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر: 1ـ 2]، فهذه الآيات المحسوسة التي يُجريها الله تعالى تأييدًا لرسله ونصرًا لهم، تدلُ دلالة قطعية على وجوده تعالى؛ اهـ.

وأمَّا دلالة إقرار فصحاء العرب على وجود الله تبارك وتعالى:

فقال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ * كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [يونس: 31 – 33].

 

وقال تعالى: ﴿ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون: 84 – 89]، ومثلها الكثير.

 

والآيات واضحة الدلالة، بيِّنة المعنى، والله المستعان.

 

وأمَّا دلالة المعقولات والمرئيات والمسموعات وسائر الموجودات على وجود الله تبارك وتعالى:

فقال الله تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ * وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ [الزخرف: 9 – 15].

 

وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [غافر: 67].

 

وقال تعالى: ﴿ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 1 – 11].

 

وقال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 21ـ 22].

 

قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» (1/ 197): وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له، وقد استدل به كثيرٌ من المفسرين؛ كالرازي وغيره على وجود الصانع، فقال: وهي دالة على ذلك بطريق الأولى، فإن من تأمل هذه الموجودات السُّفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها، وَوَضْعِها في مواضع النفع بها محكمة، عَلِم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه؛ كما قال بعض الأعراب، وقد سُئل: ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال: يا سبحان الله، إن البعرة لتدلُّ على البعير، وإن أثر الأقدام لتدُل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟

 

وحكى فخر الدين عن الإمام مالك: أن الرشيد سأله عن ذلك، فاستدل باختلاف اللغات والأصوات والنغمات.

 

وعن أبي حنيفة: أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى، فقال لهم: دعوني فإني مُفكِّر في أمر قد أُخبِرت عنه، ذَكروا لي أن سفينة في البحر موقَرة، فيها أنواع من المتاجر، وليس بها أحد يَحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها، وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحدٌ، فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل، فقال: ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي، وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة، ليس لها صانع! فبُهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه.

 

وعن الشافعي: أنه سُئل عن وجود الصانع، فقال: هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود، فيخرج منه الإبريسم، وتأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاة والبعير والأنعام فتلقيه بعرًا وروثًا، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك، وهو شيء واحدٌ.

 

وعن الإمام أحمد بن حنبل: أنه سُئل عن ذلك، فقال: ها هنا حصن حصين أملس، ليس له باب ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره، فخرج منه حيوان سميع بصير، ذو شكل حسن وصوت مليح، يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة.

 

وسُئل أبو نواس عن ذلك فأنشد:

 

وقال ابن المعتز:

فيا عجبًا كيف يعصى الإلهُ
أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد

 

وقال آخرون: من تأمَّل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها، وما فيها من الكواكب الكبار والصغار المنيرة، من السيارة ومن الثوابت، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة، ولها في أنفسها سير يخصها، ونظر إلى البحار الملتفة للأرض من كل جانب، والجبال الموضوعة في الأرض؛ لتقِّر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها؛ كما قال: ﴿ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 27ـ 28]، وكذلك هذه الأنهار السارحة من قُطر إلى قطر، لمنافع العباد، وما زرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة، والنبات المختلف الطعوم والأراييح والأشكال، والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء، عَلِمَ وجود الصانع وقُدرته العظيمة، وحكمته ورحمته بخلقه، ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم، لا إله غيره ولا رب سواه، عليه توكلت وإليه أنيب، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جدًّا؛ اهـ.

 

وفي الختام: يقول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [الشورى: 16].

فأدلة وجود الله تبارك وتعالى في الدَّارينالدُّنيَوي والأُخرويلا يسوغ إنكارها، ولا يجوز بأي حال جهلها؛ لتضافُر دلالاتها، وتواترها في الكُتب السماوية، وأقوال أنبياء الله ورسلهعليهم الصلاة والسلامإلى البرية، وبها أقرَّت كل أمة، وأجمع عليها سائر المخلوقات من الإنس والجن والحيوانات، فبوجوده تبارك وتعالى فُطروا وعاشوا، وإليه عائدون وملاقوه، لا غنى لهم عن وجوده تبارك وتعالى طرفة عين.

فمن قال بغير هذا، لَزِمَه إنكارُ كلِّ موجود، وعدَّ نفسه مفقود، وقد برِئ من خلق الله أجمع، كيف لا؟ وهو بإنكاره لوجود الباري تبارك وتعالى، قد أنكر أدلة خلقه الخلق وأرزاقهم، ومقاديرهم وإحيائهم ومماتهم، وإحياء الأرض والنباتات، وتصريف الأحوال والكائنات، وتسيير الكون وما فيه من المجرات، وما لا حصر لها من المخلوقات الدالة حالًا ومآلًا بما أُوتيت من اللغات والهيئات على خالقها وبارئها، خالق كل شيء، وهو بكل شيء عليم، ﴿ مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأعراف: 186].

 

تتمة: في منشئ قول: اللهُ واجب الوجود:

ذكر الدكتور عطاء الله المعايضة – وفَّقه الله – في كتابه: «جهود الصحابة والتابعين في تقرير العقيدة والرد على الفرق» (ص23) – ما ملخصه ـ: ذكر بعضهم أن مقولة وجود الله وإثبات الصانع أو إثبات واجب الوجود، مقولة واصطلاحات مبتدَعة، مستوردة من أعداء الإسلام؛ لِيُلبِّسوا على المسلمين دينهم، وأنه لم يكن يُعلم عن خير هذه الأمة مثل هذا، وأن بعض دول الإسلام الشرقية تعرَّضت لمثل هذه الشبهة من قِبَلِ الفُرْس والصابئة بمناصرة اليهود والنصارى وغيرهم، ممن كانوا يطوفون البلاد الإسلامية لزرع الشُّبَهِ والشُّكُوكِ، والله المستعان.

 

واستُدلَّ على ذلك بأدلة كثيرة منها: مناظرة (السُّمَنِيَّة – الهنود)، الذين جادلوا الجهم بن صفوان في الإله المعبود، فعجز الجهمُ ولم يدر ما يجيب به، وتوقف عن الصلاة أربعين يومًا، حتى تبيَّن له ما يُبعده بزعمه، ثم أحدثت هذه المجادلة الانحراف الكبير في عقلية الجهم؛ مما حدا به إلى نفي الصفات، وفتح باب كبير من أبواب الشر في عقيدة الأمة؛ اهـ، والله أعلم وأحكم.

 


[1] البخاري برقم (933)، ومسلم (897).





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
لماذا تكثر الموقوفات عن ابن مسعود رضي الله عنه؟
لطائف من كتاب الداء والدواء (8)